بايدن يُعيد طرح نظرية ريغان الاقتصادية لإنقاذ أجندته

بايدن، بعد إلقائه خطاباً في نيوجيرسي يوم 25 أكتوبر 2021 حول برنامجه لـ"إعادة البناء بشكل أفضل"
بايدن، بعد إلقائه خطاباً في نيوجيرسي يوم 25 أكتوبر 2021 حول برنامجه لـ"إعادة البناء بشكل أفضل" المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في حال كنت رئيس الدولة فمن المفيد أن تتمكّن من إقناع الشعب بوجود نظرية اقتصادية متماسكة وموحدة تدعم ما قد يبدو وكأنه حقيبة من السياسات الخاصة بك. فأنت تريد شيئاً ذا ثقل فكري أكثر قليلاً من الشعار، شيئاً قد يحمل نفحة من الأوساط الأكاديمية.

لكن طَوال عام، وبينما سعى جو بايدن إلى اتباع أكثر الأجندات الليبرالية طموحاً في نصف قرن، لم تكُن لدى إدارته أي أجندة، إذ يقول آلان بليندر، أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون الذي عيّنه الرئيس الأسبق بيل كلينتون نائباً لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي: "إذا قابلت أمريكياً عادياً وطلبت منه شرحاً موجزاً لخطة بايدن، فأعتقد أنه سيشعر بالحيرة".

في الواقع، لم يبدُ هذا مهماً في وقت مبكر. وبعد فترة وجيزة من توليه منصبه، دفع بايدن الكونغرس الأمريكي إلى تخصيص 1.9 تريليون دولار إضافية من التحفيز الخالص للاقتصاد، ثم أقنع البيت الأبيض المشرعين بدفع أكثر من 550 مليار دولار لأكبر حزمة بنية تحتية منذ عقود.

اقرأ أيضاً: "ساندرز": حان الوقت لكي يغير "الشيوخ" مساره بشأن أجندة "بايدن"

لكن الأمر مهم الآن، إذ إنّ بايدن غير قادر حتى على إقناع الديمقراطيين بتأييد حزمة الضرائب والإنفاق المترامية الأطراف، التي تبلغ قيمتها تريليوني دولار. كما كان الجمهوريون هم الذين حفّزوا كثيراً من السرد العام حول برنامج "إعادة البناء بشكل أفضل" (Build Back Better)، قائلين إنه سيضيف إلى ديون البلاد المتضخمة، ويغذي التضخم الهائل بالفعل. وفي هذا السياق قال زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل في بيان صحفي في 10 ديسمبر: "من غير المعقول أن يحاول الديمقراطيون في مجلس الشيوخ الرد على تقرير التضخم هذا من خلال الضغط على حزمة إنفاق اشتراكي ضخمة أخرى في غضون أيام".

اقرأ المزيد: الولايات المتحدة ستستغرق عامين حتى تتعافى سوق العمل بالكامل من كورونا

صناعة السيارات.. والمعروض

ربما للتراجع عن هذا التوصيف بدا أن الإدارة قد انتهزت طريقة جديدة لتوضيح أهدافها، وكل ذلك في عبارة صغيرة واحدة، وهي تتسبب بضجة صغيرة جزئياً، لأنها تقترض وتسعى إلى تدمير عقيدة محافظة مقدسة.

أظهر الرئيس تلميحه الأول في خطاب ألقاه في 7 يناير، قال فيه: "إذا كانت أسعار السيارات مرتفعة جداً في الوقت الحالي، فهناك حلان: زيادة المعروض من السيارات عن طريق صنع مزيد منها، أو تقليل الطلب على السيارات بجعل الأمريكيين أكثر فقراً". وأكّد أن إدارته تُفضّل مسار العمل الأول.

بعد أسبوعين، استخدمت وزيرة الخزانة جانيت يلين مصطلح "اقتصادات جانب العرض الحديثة"، لوصف برنامج "إعادة البناء بشكل أفضل" وأجندة بايدن الاقتصادية الأوسع نطاقاً. وقالت يلين في خطاب ألقته في 21 يناير: "نهجنا الجديد واعد أكثر بكثير من اقتصادات جانب العرض القديمة، التي أرى أنها كانت استراتيجية فاشلة لزيادة النمو". وعلى النقيض من ذلك فإن اقتصادات جانب العرض الحديثة تعطي الأولوية لإمداد العمالة، ورأس المال البشري، والبنية التحتية العامة، والبحث والتطوير، والاستثمارات في بيئة مستدامة.

فضلاً عن ذلك، اشتعلت زوايا وسائل التواصل الاجتماعي التي يحرسها خبراء السياسة في واشنطن والصحفيون والمعلقون المتنوعون على الفور، إذ غرّد كاتب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز" إزرا كلاين، مقتطفاً من الخطاب مع التعليق: "لا يسعني الانتظار".

كان كلاين متحمساً بشكل مفهوم، إذ يدافع عن فكرة أن على الليبراليين تبني نسخة من التفكير في جانب العرض. وهو ليس وحيداً في ذلك، إذ يروّج عدد من الاقتصاديين، مثل إيلي دورادو من جامعة ولاية يوتا، لما يسمّونه "اقتصادات جانب العرض التقدمي". وقد كتب مايلز كيمبال من جامعة كولورادو في بولدر مدونة منذ عام 2012 بعنوان "اعترافات ليبرالي من جانب العرض". أما الآن، فإن كبير الاقتصاديين في إدارة بايدن يتحدث لغتهم. ولكن ما اقتصادات جانب العرض؟

عبارة تستفز الليبراليين

انتشرت اقتصادات جانب العرض التقليدية خلال رئاسة رونالد ريغان، إذ استخدم الرئيس الجمهوري هذه النظرية كعصا للتغلب على الديمقراطيين من "الحكومة الكبيرة"، وأخذ المصطلح، إن لم يكن النظرية الاقتصادية التي تقف وراءه، إلى المخيلة المحافظة. وربما مرت عقود عديدة، لكن العبارة لا تزال تحتفظ بقوتها في إثارة حنق الليبراليين.

علاوةً على ذلك، تدور اقتصادات جانب العرض في جوهرها حول السياسة الضريبية، لأن الناس يسعون إلى تجنبها، إذ تُسبّب الضرائب تشوهات في السلوك يمكن أن تضرّ بالاقتصاد. على سبيل المثال، إذا كان سيجري فرض ضريبة على ساعة عملك التالية بنسبة 80% بدلاً من 20%، فمن غير المرجح أن تستمر في العمل. وفي حال طُبقت على نطاق أوسع فإن أي شيء تقدّمه الحكومة عن طريق الضرائب سوف ينطوي على مقايضة تقلّل من إجمالي الناتج عن طريق إعاقة توريد رأس المال أو العمالة إلى المساعي الاقتصادية المنتجة. ولطالما كان السؤال المتعلق بمدى أهمية المقايضة، وما إذا كانت تستحق ذلك، في صلب نقاش مكثف.

في عهد ريغان، ظهر تفسير مُبالَغ فيه يشوّه الحكومة باعتبارها العائق الرئيسي أمام النمو الاقتصادي والازدهار، إذ أعلن المدافع عن مناهضة الضرائب غروفر نوركويست عن رغبته في تقليص حجم الدولة "إلى الحجم الذي يمكّننا من إغراقها في حوض الاستحمام".

العرض.. والقطاع الخاص

مع ذلك فإن معظم الاقتصاديين، حتى المحافظين منهم، يقبلون أن كثيراً من الأشياء الضرورية للغاية لا يمكن أن يوجد إلا بكميات كافية بمشاركة الحكومة، وبعضها يمثّل مساعيَ اقتصادية منتجة في حد ذاتها، منها الطرق والجسور والمدارس. يقول ويليام غالستون، الزميل الأول لدراسات الحوكمة في معهد بروكينغز بواشنطن: "يدرك كل الأطراف أنه بسبب طبيعة الأسواق ستكون هناك بعض السلع العامة التي تميل السوق الخاصة إلى إنقاص المعروض منها".

وبموجب تغيير يلين "الحديث" لنظرية جانب العرض، ستركّز الحكومة على المجالات التي أهملها القطاع الخاص، والتي تُعتبر مع ذلك ضرورية للاقتصاد المنتج. وقد طرح بايدن الموضوع خلال زيارته إلى بيتسبرغ في 28 يناير -دون استخدام التسمية– وذلك في خطاب استخدم كلمة "استثمر" أو "استثمار" 18 مرة، موضحاً المكاسب الاقتصادية التي تأتي من ضخ المال في مجالات مثل البنية التحتية والبحث العلمي، قائلاً: "عندما تستثمر الحكومة الفيدرالية في الابتكار فإنها تمنح القطاع الخاص القوة للقيام بما يفعله على أفضل وجه: خلق تقنيات جديدة مذهلة وصناعات جديدة، والأهم من ذلك وظائف جديدة، وظائف ذات رواتب جيدة".

الجدير بالذكر أنه يمكن اعتبار كثير من العناصر التي يعجّ بها برنامج "إعادة البناء بشكل أفضل" سياسات لجانب العرض، إذ تهدف الأموال المخصصة لتعليم الطفولة المبكرة وكليات المجتمع إلى إعداد عمال المستقبل. وسيوفّر الإنفاق على رعاية الأطفال وكبار السن الحرية لمقدمي الرعاية، خصوصاً النساء، للانضمام إلى القوى العاملة.

سوق عمل مقيّدة

يُذكر أن يلين شدّدت في يناير على أن الوقت قد حان لاتخاذ هذه الإجراءات، لأن المعروض من العمّال الأمريكيين مقيّد، في الوقت الحالي بسبب "كوفيد-19"، ولكن أيضاً على المدى الطويل لأن السكّان يتقدمون في السن، وعديداً من الوافدين الجدد إلى القوى العاملة يفتقرون إلى المهارات والمؤهلات التي يطلبها أصحاب العمل. وقالت يلين: "إن جوهر برنامج (إعادة البناء بشكل أفضل) يقاوم هذه الاتجاهات من خلال تسهيل مشاركة الآباء في سن العمل في سوق العمل".

كذلك يتساءل بعض ممارسي اقتصادات جانب العرض التقليدية عما هو حديث في هذا التصور. وفي هذا الصدد ليس لدى غلين هوبارد، الخبير الاقتصادي الذي لعب دوراً رائداً في تصميم التخفيضات الضريبية للرئيس جورج دبليو بوش عام 2003، أي خلاف مع الاستثمار الحكومي في البنية التحتية والبحوث. كما يعتقد أن بعض البرامج يمكن أن يحفّز عرض العمالة، إلا أن هوبارد، وهو الآن أستاذ في كلية إدارة الأعمال بجامعة كولومبيا، يصف كيفية متابعة إدارة بايدن لهذا الهدف الأخير من خلال الإعانات، مثل تلك المخصصة لرعاية الأطفال، التي لا ترتبط بمتطلبات العمل، بأنها خاطئة. ويقول: "القيام بذلك عندما لا يكون العمل موجوداً لا يبدو لي على الإطلاق أنه جانب عرض، بل هو رعاية اجتماعية بحتة. وقد ترون أو لا ترون أن هذه فكرة جيدة -فالديمقراطية ستُقرر ذلك– إلا أن وصفها بالاقتصاد الحديث في جانب العرض هو مخادع فحسب".

أهمية الهجرة

لكن هذا الكلام هو تمييز غير ضروري بالنسبة إلى مناصري جانب العرض الليبراليين مثل كيمبال، ولكن لديه مراوغاته الخاصة. فإذا كانت إدارة بايدن جادة حقاً، كما يقول، فسوف تتعامل مع هدفين آخرين واضحين في جانب العرض. الأول، لا يُعَدّ التنظيم الحكومي موضوعاً سهلاً لبيت أبيض ديمقراطي، لكنه سبب كبير وراء أن البنية التحتية العامة أغلى بكثير في الولايات المتحدة مقارنة بمعظم الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ثم هناك الهجرة، وهي قضية سياسية شائكة أخرى، إذ يقول كيمبال، الذي يدعو إلى تجديد السياسات للسماح لمزيد من العمال المهرة المولودين في الخارج بدخول البلاد: "بالطبع يجب أن تكون الهجرة جزءاً من هذا الموضوع، وأنا مدهوش من أنهم قد تخلّوا تماماً عن هذا الأمر سياسياً".

بصرف النظر عن المناقشات السياسية، لا يزال من المشكوك فيه ما إذا كانت اقتصادات جانب العرض الحديثة، كعلامة تجارية، يمكن أن تساعد إدارة بايدن في الفوز بحرب الرسائل وإقناع الأمريكيين بأن لديها الوصفة الصحيحة للازدهار الاقتصادي.

يقول هوبارد: "من المهم أن تشرح للناخبين، بشكل عام، ما تحاول القيام به، وأن تتحدث إلى أولئك الذين يختلفون عن تفكيرك، إلا أن استخدام بايدن لهذه الكلمات لن يمنح أي محافظ شعوراً دافئاً وغامضاً، بل يخاطر بعزل قاعدته".