مساعدة الفقراء على مقاضاة الشركات الكبرى قد تكون استثماراً مربحاً

الأوحال تغطي الأنقاض بعد انهيار منجم "ساماركو" في البرازيل عام 2015
الأوحال تغطي الأنقاض بعد انهيار منجم "ساماركو" في البرازيل عام 2015 المصدر: رويترز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أندرسون كريناك البالغ من العمر 38 عاماً هو واحد من أفراد شعب كريناك الأصليين الذين يعيشون على ضفاف نهر دوسي في ولاية ميناس غيرايس في البرازيل. لقد تغيرت حياته إلى الأبد عندما انهار سد إحدى شركات التعدين في 5 نوفمبر 2015، لينطلق سيل من الطين المليء بمخلفات المناجم، ويضرب المناطق الريفية المحيطة والممرات المائية، مدمراً الأرض التي يحبها كريناك، إذ تسبب الفيضان في مقتل 19 شخصاً ونشر التلوث على بُعد مئات الأميال وصولاً إلى المحيط الأطلسي.

اقرأ أيضاً: صناديق التحوط تحوّل تمويل التقاضي إلى صناعة عالمية بـ39 مليار دولار

مع استحالة العودة إلى أسلوب حياته القديم المعتمد على الصيد، يسعى أندرسون إلى الحصول على تعويض ضمن دعوى من 200 ألف شخص رُفعت في بريطانيا للمطالبة بتعويض قدره 7 مليارات دولار من عملاق التعدين الأنغلو-أسترالي "بي إتش بي غروب" (BHP Group) المالكة لنصف أسهم شركة "ساماركو" (Samarco) المالكة للسد.

اقرأ المزيد: دعوى قضائية تطالب "فيسبوك" بــ150 مليار دولار تعويضات لمضطهدي ميانمار

يقول أندرسون: "الأمر لا يتعلق فقط بالحصول على تعويض ماليّ، ولكنها رسالة تهدف إلى منع شركات التعدين من القدوم إلى بلدنا وإلحاق الضرر بنا".

نظراً إلى التكلفة الكبيرة لهذا النوع من الدعاوى القضائية المتعلقة بالتداعيات البيئية، جرى تأسيس بعض التحالفات غير المتوقعة بين صناديق الاستثمار والمجتمعات المهمشة التي تبحث عن الاعتراف بمعاناتها. تمول "نورث وول كابيتال" (North Wall Capital)، التي يقع مقرها الرئيسي بعيداً عن نهر دوسي في شارع جيمس الفاخر في لندن، جزءاً من تكلفة قضية سد المنجم. وتصف الشركة نفسها بأنها مستثمر في "المواقف الخاصة"، بما يشمل تمويل ودعم رفع الدعاوى القضائية.

اقرأ أيضاً: جنوب إفريقيا تقاضي "هواوي" لتجاوزها حصة الموظفين الأجانب

تمويل بقرض مضمون

موّلت "نورث وول كابيتال" مكتب المحاماة "بي جي إم بي إم" (PGMBM) الذي عيَّن 700 محامٍ لرفع الدعوى ضد "بي إتش بي"، عن طريق قرض مضمون مقابل فوز مكتب المحاماة بتلك القضية أو تسويتها أو غيرها من القضايا.

رفضت "بي إتش بي" التعليق، ووصفت دعوى المحكمة في بريطانيا بأنها غير ضرورية، لأنها تمثل تكراراً لإجراءات قانونية جرت في البرازيل وخطة التعويض التي تعمل الشركة على إعدادها.

قدمت صناديق المواقف الخاصة الأخرى، ومن بينها "إس بي إس كابيتال" (SPS Capital) ومقره البرازيل، تمويلاً موجهاً لقضية السد، إذ يجري تخصيص الأموال لتمويل التقاضي مثلما فعلت "إس بي إٍس كابيتال" مع احتمال تحقيق عائدات ضخمة.

يقول مشاركون في هذا المجال إنّ التمويل تجري دراسته وفقاً لكل حالة على حدة، ولكن يمكن للممولين والمحامين في هذا النوع من القضايا تحقيق عوائد تصل إلى 3 أضعاف قيمة استثمارهم أو 30% من المكاسب عندما تسير الأمور على ما يرام.

مواجهة الشركات الكبرى

قد يحصل أصحاب الدعوى من البرازيليين ممن يعيشون في منطقة يقل فيها دخل الأسرة عن 250 دولاراً شهرياً على بضع عشرات الآلاف من الدولارات من تلك الدعوى. يقول بيدرو مارتينز محامي "بي جي إم بي إم" الذي يعمل في القضية: "نظرياً، نص القانون البرازيلي يقدم المساعدة القانونية"، ولكن في الواقع "لا توجد قوة كافية لمواجهة الشركات الكبرى التي يمكنها صرف الأموال وتوظيف أفضل المحامين في البلاد".

لكن الأمر أكثر تعقيداً من قصة "داوود وجالوت"، كما هو معروف، أن زخم تمويل التقاضي يزداد مع توافر اتجاهين رئيسيين، هما: أسعار الفائدة المتدنية، والطفرة في الاستثمار وفق معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. لذلك فإن الدعاوى القضائية طويلة الأمد التي تسعى إلى تعويض أشخاص لم يتمكنوا من تعيين محامين متميزين تمثل فرصة للصناديق التي تبحث عن أهداف أكثر ربحية، وقد أصبحت بشكل مفاجئ رهاناً جيداً لها. كما يمكن أن يسهم تمتع الصندوق بتطبيقه معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في جذب المستثمرين.

زادت الأموال التي تخصصها صناديق الاستثمار التي تتبع معايير الاستدامة والصناديق المتداولة في البورصة التي تركز على الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية بنسبة 53% على مستوى العالم خلال العام الماضي، لتصل إلى 2.7 تريليون دولار وفقاً لشركة "مورنينغ ستار" (Morningstar).

تزايد حجم التمويل

ما زال حجم الاستثمار في تمويل التقاضي صغيراً، لكنه سريع النمو، إذ تبلغ تقديرات شركة "إف تي آي للاستشارات" (FTI Consulting) نحو 13 مليار دولار في عام 2021. وقد لا تعكس التطورات الحالية لتمويل التقاضي أنها ستكون خياراً للاستثمار في معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، فغالباً ما تركز عمليات التمويل في ذلك النوع من الاستثمار على القضايا المتعلقة بنزاعات أكثر اعتدالاً، مثل قضايا طلاق المشاهير، أو حتى رفع دعوى قضائية حول الطريقة السرية لشركة ما في تقييم القضايا القانونية. لكنّ مديري الاستثمار يرون فرصاً للتسويق في حالات المدفوعات الكبيرة التي يكون لها تأثير مجتمعي.

يقول فابيان تشروبوغن المؤسس وكبير مسؤولي الاستثمار في "نورث وول كابيتال"، إنه قد يعرض على المستثمرين فرصة المشاركة بشكل أساسي في التقاضي المتعلق بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في المستقبل. وأشار إلى أن الشركة عندما جمعت الأموال للمرة الأولى بهدف الاستثمار في تمويل الدعاوى القضائية لم يكن المديرون يضعون في اعتبارهم القضايا المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. وأضاف: "انتهى بهم الأمر إلى الاستثمار في دعاوى قضائية متعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية بنسبة 100%".

تحديد المعايير

أصبح تحديد الاستثمارات المتوافقة مع معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية أمراً معقداً، فبينما يطرح الاتحاد الأوروبي وبريطانيا قواعد لتقنين الاستثمار الصديق للبيئة، لا يزال هناك تأخير في وضع القواعد التي تحكم الاستثمارات ذات الطابع الاجتماعي أو المتفقة مع معايير الحوكمة، ما يترك المجال مفتوحاً لمديري الصناديق لتحديد ما إذا كانت استثماراتهم متوافقة مع تلك المعايير وفق ما يرونه مناسباً.

تراهن الشركات على أن تمويل التقاضي سيحقق عوائد أفضل من بعض فئات الأصول البديلة الأخرى، إذ يقول تشروبوغ: "إنها واحدة من فئات الأصول القليلة التي يمكن أن تتأكد من خلالها الجهود الفعلية لتحقيق التزام معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية على المدى الطويل، لتتفوق على عديد من تمويل الاستثمارات الأخرى". كما يفضل بعض الصناديق وعملائها تمويل القضايا باعتبارها تنويعاً في الإيرادات، إذ لا تتأثر إيراداتها بتقلبات السوق.

حالة أخرى في زامبيا

يبلغ عدد سكان كابوي في زامبيا أكثر من 225 ألف شخص، وتصنف المدينة من أكثر الأماكن تلوثاً وسمّية على وجه الأرض، إذ كانت ذات يوم موقعاً لأكبر منجم للرصاص في إفريقيا، فكان ينتج عشرات الآلاف من الأطنان من المعدن بالقرب من مجتمعات الفقراء وعمال المناجم. على الرغم من إغلاق المنجم عام 1994، فقد رُفعت دعوى قضائية تزعم وجود آلاف حالات التسمم بالرصاص بين السكان المحليين نتيجة عقود من الفساد، ما تسبب في مشكلات صحية، منها تلف الدماغ والوفاة، مع انخفاض متوسط ​​العمر المتوقع.

ذكرت الدعوى أن أكثر من 100 ألف امرأة وطفل يعيشون أو عاشوا من قبل في المنطقة قد تأثروا بالتلوث. وقد رُفعت 13 دعوى قضائية نيابة عن المتضررين ضد الشركة التي أدارت المنجم في السابق، وهي "أنغلو أمريكان جنوب إفريقيا" (Anglo American South Africa)، إذ تتهمها الدعوى بالفشل في منع تعرض السكان للمعدن السام في أثناء إدارة الشركة للمنجم.

قال متحدث باسم "أنغلو أمريكان"، إن الدعوى "مضللة تماماً وانتهازية". وأضاف: "أي مسؤولية في ما يتعلق بموقع منجم كابوي تقع مثلها علينا في مكان آخر". وأشار إلى أن الشركة توقفت عن التعامل مع المنجم منذ عام 1974.

تمول دعوى "كابوي" شركة "أغوستا فينتشرز" (Augusta Ventures) الصغيرة لتمويل التقاضي التي تتخذ من لندن مقراً لها. وقال مصدر مطلع على الأمر رفض ذكر اسمه لأن الاستثمار ليس عامّاً، إن شركة "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت" (Pacific Investment Management) أو "بيمكو" (Pimco) عملاق إدارة الأصول التي يبلغ إجمالي الأصول التي تديرها تريليونَي دولار، والشهيرة بصناديقها التي تستثمر في السندات، لديها حصة في "أغوستا".

قال متحدث باسم المدّعين إن القضية لم تموَّل بأي مبلغ حتى الآن، فيما امتنعت "بيمكو" عن التعليق.

صعوبة تحقيق المكاسب

ليس بالسهولة الكافية تحقيق المكاسب من تمويل هذا النوع من القضايا، إذ يمكن لـ"أنغلوا أمريكان"، الشركة الأم للأعمال التجارية في جنوب إفريقيا، التي حققت إيرادات بلغت 30.9 مليار دولار في عام 2020، تحمّل تكاليف الدعوى القضائية التي قد تستمر لسنوات. وأشار متحدث باسم المدّعين إلى أنه من المقرر عقد جلسة استماع في النصف الأول من عام 2022 لتحديد ما إذا كان ينبغي أن تنتقل القضية إلى المحاكمة.

بالعودة إلى قضية البرازيل، فقد أمضى مارتينز وزميله توماس موسينيو 4 أشهر نهاية عام 2018 في السفر دون توقف حول ميناس غيرايس، بحثاً عن أشخاص يشاركونهم في رفع دعوى جماعية. يقول موسينيو إنّ الأمر انتهى بإرسال 40 محامياً إنجليزياً إلى البرازيل لجمع بيانات من 200 ألف شخص وافقوا على المشاركة.

رفضت المحاكم الإنجليزية العام الماضي الدعوى المرفوعة ضد "بي إتش بي"، لأن القضية تمثل إساءة استخدام للإجراءات. لكن في يوليو عادت "محكمة الاستئناف في لندن" ووافقت على إعادة فتح الدعوى مرة أخرى، وقال القضاة إنهم يعتقدون أن هناك "احتمالاً قوياً للنجاح"، حسبما كشفت وثائق المحكمة.

لذلك تبقى فرصة الحصول على تمويل كبير لسد تكاليف الرسوم والمحامين قائمة، رغم أن أندرسون كريناك يرى أن ما ضاع لا يمكن للمال أن يعوضه. وقال كريناك: "ينظر شعب كريناك إلى النهر على أنه أحد أفراد الأسرة، وهو يعاني من غيبوبة ولا يمكن الاتصال به".