بعد تعهدات العام الماضي الباهرة.. كيف تتراجع الحكومات عن قضايا المناخ عالمياً؟

الفحم هو أكثر مصدر مسبب للتلوث في العالم
الفحم هو أكثر مصدر مسبب للتلوث في العالم المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في ختام الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ "كوب 26" في نوفمبر، أشاد رئيس القمة ألوك شارما حينها بما وصفه بـ"الجهود العظيمة" التي تبذلها الدول لتجاوز خلافاتها والاتحاد معاً في مواجهة تغير المناخ، وهي نتيجة قال شارما إنّ "العالم كان متشككاً بها".

لكن اتضح اليوم أن العالم كان محقاً في شكوكه، فبعد مرور ثلاثة أشهر على القمة ألقى مزيج سامّ من التعنت السياسي وأزمة الطاقة والآثار الاقتصادية للوباء بظلال الشك على التقدم المُحرَز في أثناء قمة اسكتلندا. وإذا كان عام 2021 اتسم بالتفاؤل حول استعداد أكبر مصدّري التلوث أخيراً لتحديد أهداف طموحة لالتزام انبعاثات صفرية، فإن عام 2022 يهدد بالفعل بأن يكون عام التراجع عالمياً.

عودة الوقود الأحفوري

من الولايات المتحدة إلى الصين، وحتى أوروبا والهند واليابان، بدأ الوقود الأحفوري بالعودة من جديد، وتواجه أسهم الطاقة النظيفة خسائر كبيرة. وتبدو آفاق تسريع التحوّل إلى مصادر الطاقة المتجددة قاتمة.

ويأتي هذا على الرغم من الانخفاض المتسارع في تكاليف الطاقة المتجددة، والاستثمار المتزايد في التكنولوجيا النظيفة، وفي وقت يطالب فيه الناخبون حول العالم باتخاذ إجراءات أقوى.

"آيرينا": الأحداث الحالية تثبت ضرورة تسريع مسار تحوّل الطاقة

تعليقاً على ذلك يقول بوب مكنالي، رئيس شركة "رابيدان إنيرجي" الاستشارية ومقرها واشنطن: "سنعيش اختبار ضغط يستمر لعدة أعوام لمدى قدرة الإرادة السياسية على فرض سياسات انتقال الطاقة المُكلفة". واتهم المسؤول السابق في البيت الأبيض الحكومات بإظهار ما يشبه "دعم بوتيمكين" المضلّل تجاه الخطوات السياسية الضرورية، وتقديم عروض زائفة لأعمالهم، كما دلّت على ذلك أزمة الطاقة الأخيرة.

الانبعاثات ترتفع من جديد

خلال العام الماضي ارتفعت الانبعاثات الكربونية فيما كان العالم يحتاج إلى خفضها إذا أراد أن يبقى على المسار الصحيح لبلوغ أهدافه المناخية. وبأي وقت كان، فإنّ المصلحة الوطنية دائماً ما تعارض التدابير المؤلمة التي يتفق العلماء على ضرورتها لتحقيق هدف الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية، لكن حتى في هذا الوقت المبكر من العام فإنّ الرياح المعاكسة لأي أعمال مناخية مؤثرة، كبيرة للغاية، فقد تتخذ أسعار النفط مساراً تصاعدياً بالتزامن مع تعافي الاقتصاد العالمي من تداعيات الوباء، إذ يقترب من 100 دولار للبرميل، وذلك بعد عامين فقط من انهيار الأسعار، وهو ما يؤدي إلى تضخم مخزونات ومستوى التأثير لعمالقة الوقود الأحفوري مثل السعودية وروسيا، ويقود لإنعاش صناعة كانت تحوّل تركيزها إلى الطاقة النظيفة. فمؤخراً، وضعت شركة "إكسون موبيل" ثقتها بصناعة النفط الصخري الأمريكي من خلال خطط لزيادة الإنتاج بنسبة 25% هذا العام في حوض برميان.

ومع ارتفاع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية، باتت المرافق تتحول إلى الفحم بدلاً منه، رغم أن الفحم ينتج نحو ضِعف مستويات الكربون التي ينتجها الغاز، حسب كيت كونوليج، المحلل في "بلومبرغ إنتليجنس"، حتى إنّ المملكة المتحدة، التي استضافت قمة "كوب 26"، تخاطر بالعودة إلى الفحم في ظل مواجهة رئيس الوزراء بوريس جونسون لوضع حرج ومقاومة بعض أعضاء حزبه المحافظين لأجندته الخضراء.

تراجع الولايات المتحدة

لا عجب في أن يبدو المبعوث الأمريكي لقضايا المناخ، جون كيري، متجهماً بشكل متزايد، مع تحذيره باستمرار من تخلّف العالم عن التحرك بشأن المناخ. وخلال مناسبة أقيمت في غرفة التجارة الشهر الماضي، قال كيري: "نحن في مأزق. لسنا على المسار الصحيح".

بالنسبة إلى كثيرين، كان الحدث الأبرز في قمة "كوب 26" هو الاتفاق المفاجئ بين فريق كيري ونظرائه الصينيين لتجاوز المنافسة بين الولايات المتحدة والصين ورفع الجهود المشتركة للمناخ خلال هذا العقد الزمني.

لا تزال هذه الاتفاقية قائمة، لكنّ كلا البلدين تراجع منذ ذلك الحين عن الإجراءات المتخذة، إذ كانت الولايات المتحدة أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم في يناير الماضي، مستحوذة على المركز الأول من قطر للشهر الثاني على التوالي. وارتفع استهلاك الفحم، فيما ارتفع إنتاجه بنسبة 8% في عام 2021، وذلك بعد أعوام من التراجع، وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن يستمر هذا الارتفاع حتى عام 2023، فيما يكافح الرئيس جو بايدن في واشنطن للحصول على موافقة مجلس الشيوخ على حزمة "إعادة البناء بشكل أفضل" وتدابيره المناخية الأساسية. وكان اقتراح أوّلي من شأنه أن يخصص نحو 555 مليار دولار للمناخ والطاقة النظيفة قد انهار في خضمّ اعتراضات كل الجمهوريين والسيناتور الديمقراطي جو مانشين من ولاية فرجينيا الغربية الغنية بالفحم والغاز.

مما لا شك فيه أن هذه البنود الخاصة بالمناخ، بما فيها مبلغ 355 مليار دولار تقريباً، تأتي على شكل ائتمانات ضريبية للهيدروجين والمركبات الكهربائية ومصادر الطاقة المتجددة لتصرف على مدى أعوام عدّة. وهي ضرورية للوفاء بالتزامات الولايات المتحدة المحددة وفق اتفاقية باريس، التي تهدف إلى خفض انبعاثاتها بنسبة بين 50% و52% بحلول عام 2030.

ومن دون هذه البنود يصبح هذا التعهد في خطر، حسب تحليل أجرته مجموعة "روديوم غروب" (Rhodium).

وبدلاً من الدور القيادي الذي زعمه بايدن، فإن مسار الأمور يجعل الولايات المتحدة تبدو مفتقرة إلى الوضوح تجاه قضايا المناخ. واعترف كيري في مقابلة أجراها في يناير بوجود حاجة إلى إقرار الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة "لتمكيننا دبلوماسياً"، مضيفاً أن "مصداقية الولايات المتحدة ستكون في مكان صعب إن لم نفعل ذلك".

ورغم ضيق الوقت، بسبب اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر، فما زال المشرعون الديمقراطيون يأملون في إحياء تشريع بايدن.

حالياً، يتعرض الرئيس الأمريكي لضغوط في مواجهة التضخم المتزايد، خصوصاً في أسعار البنزين التي قد تؤثر في فرصه في الاحتفاظ بالسيطرة على الكونغرس، وبالتالي استجاب بايدن بمناشدة تحالف "أوبك بلس" لمنتجي النفط لتعزيز الإنتاج، وطلب من شركات النفط المحلية إجراء مزيد من عمليات التنقيب وحشد الدول للانضمام إلى الولايات المتحدة في تنسيق إطلاق احتياطيات النفط الخام الطارئة.

ماذا عن آسيا؟

كذلك يشعر رئيس الوزراء الياباني الجديد، فوميو كيشيدا، بضغوط مماثلة. ففي محاولة للحفاظ على الأسعار، أعلنت حكومته الشهر الماضي تقديم دعم لمصافي النفط بنحو 3 سنتات أمريكية لكل لتر بنزين منتج. وأعلنت الأسبوع الماضي أنها تدرس المضي قدماً في تخفيف تأثير ارتفاع أسعار النفط وسط تقارير عن أنها قد تضاعف مستوى الدعم ثلاث مرات. كل ذلك يبدو وكأنه أعذار مجانية للصين، التي تُعَدّ أكبر مصدر للانبعاثات في العالم.

في عديد من الاجتماعات رفيعة المستوى التي عُقدت مؤخراً، شدد كبار المسؤولين الصينيين على أمن الطاقة، بجانب جهود الحد من الانبعاثات الكربونية. وكما قالت صحيفة "بيبولز ديلي" التابعة للحزب الشيوعي الصيني في تعليق حديث: "يجب أن يحمل المرء (وعاء الأرز) الخاص بالطاقة بين يديه".

ورغم أن كبار القادة أكدوا مراراً وتكراراً أن عمليات التشييد القياسية لمحطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تشكل جزءاً من الحملة الرامية إلى تأمين مستقبل الطاقة في الصين، فإنّ هذا الدفع لم يغيّر بشكل ملموس مزيج الطاقة في البلاد، فقد ظلت حصة الصين من الفحم والغاز في توليد الطاقة مرتفعة بنسبة 71% في عام 2021، وهو نفس معدل عام 2020.

وبعد أزمة الطاقة غير المسبوقة التي ضربت الصين في النصف الثاني من العام الماضي، اضطرت بكين إلى زيادة إنتاج الفحم ووارداته إلى مستويات قياسية. وقال الرئيس شي جين بينغ، في جلسة بحث جماعية للمكتب السياسي عُقدت الشهر الماضي، إنه من الضروري ضمان أمن سلسلة الإمداد في أثناء الحد من الانبعاثات، وضمان إمدادات الفحم أيضاً، فيما يتعين على إنتاج النفط والغاز "النمو بشكل مطرد".

الصين تكافح لاحتواء ارتفاع أسعار الفحم مع تفاقم اعتمادها عليه

وأوضح شي أن "خفض الانبعاثات لا يهدف إلى وقف الإنتاجية أو عدم التسبب في أي انبعاثات على الإطلاق"، مشدداً على أن التنمية الاقتصادية والتحول الأخضر ينبغي أن يعزز كل منهما الآخر. ولتوضيح وجهة نظره وضعت الصين الأسبوع الماضي حداً لصناعة الصلب الضخمة يبلغ خمسة أعوام إضافية، لكبح انبعاثاتها الكربونية.

نموذج متكرر

هذا يحصل في أماكن أخرى كذلك، إذ قال وزير الطاقة الجنوب إفريقي، غويدي مانتاشي، لرؤساء شركات التعدين في الأول من فبراير إنّ استخدام الفحم سيستمر لعقود، وإن التسرع في إنهاء اعتماد البلاد على الوقود الأحفوري "سيكلفنا كثيراً".

وفي الهند تعمل شركة "كول إنديا" (Coal India) التي تديرها الدولة، وهي أكبر شركة لتعدين الفحم في الهند، على تعزيز الإنتاج مع خفض اعتماد الدولة على الواردات. وجدير بالذكر أن هذه الجهود تكشف نموذج النمو الاقتصادي المعتمد على الكربون الذي استخدمه الغرب سابقاً، والذي لم تتركه الهند بعد، حتى بعد إعلان رئيس الوزراء ناريندرا مودي في قمة جلاسكو عن هدف صافي انبعاثات صفرية بحلول 2070.

وتُعَدّ الهند ثاني أكبر مستخدم للفحم بعد الصين، فقد استحوذت على 74% من توليد الطاقة من الفحم خلال العام الماضي، تلاه مصادر الطاقة المتجددة بنسبة 20%، حسب أحدث تقارير وكالة الطاقة الدولية.

مع ذلك، من المتوقع أن تتغير هذه النسب في ظل الخطط الطموحة لبناء قدرات في مجال الطاقة المتجددة. ويذكر أن الملياردير الهندي موكيش أمباني وكذلك الملياردير غوتام أداني أسهما في دفع الاستثمار الذي يستهدف الطاقة البديلة إلى تسجيل رقم قياسي بلغ 10 مليارات دولار خلال العام الماضي، لكن هذا الرقم يُعَدّ ضئيلاً أمام خطة أمباني الجديدة للطاقة النظيفة التي تبلغ قيمتها الإجمالية 76 مليار دولار.

بعد عقدين من طموحات العالم غير الواقعية.. الفحم يزدهر

حين كشف النقاب عن خططه الشهر الماضي، قال أمباني: "العالم يدخل حقبة جديدة للطاقة، وهي سوف تتسم باضطرابات شديدة". جدير بالذكر أن خطط أمباني تشمل جعل شركته "ريلاينس إندستريز" (Reliance Industries) التي تُعَدّ من أكبر شركات تكرير النفط ومنتجي البلاستيك في العالم، تصل إلى انبعاثات صافية صفرية بحلول عام 2035.

توازن أوروبا الصعب

لا شك أن أزمة الطاقة ألقت بظلالها على مناقشات الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية تنفيذ "الصفقة الخضراء"، التي تُعرف بأنها إصلاح اقتصادي غير مسبوق للوصول إلى الحياد المناخي بحلول عام 2050. ويساور عديداً من الحكومات القلق من أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى تقويض الدعم العام للإصلاحات.

وبالطبع لم يسهم اشتباك الغرب مع موسكو حول أوكرانيا في تخفيف حدة الأجواء السياسية، وهو وضع يثير خطر تعطيل إمدادات الغاز الروسي، وبالتالي زيادة الأسعار، بيد أن التدفقات لا تزال على حالها في الوقت الراهن، وإن كانت أكثر تقلباً من المعتاد.

على أي حال، قد يؤدي ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري والانبعاثات إلى تحسن الوضع الاقتصادي لمصادر الطاقة المتجددة نسبياً. ومن دون هذه الخطوات سيتعين اتخاذ خطوات أكثر صعوبة في المستقبل.

وكان قادة الاتحاد الأوروبي استخدموا بالفعل نفوذهم لدعم الصفقة الخضراء، كما ضاعفت المفوضية الأوروبية، وهي الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي، جهودها مع إظهار استطلاعات الرأي باستمرار أن المناخ يأتي ضمن أكبر المخاوف بالنسبة إلى ناخبي الكتلة.

في حديث للصحفيين يوم 22 يناير، قالت مفوضة شؤون الطاقة بالاتحاد الأوروبي، كادري سيمسون، إنّ التوترات الجيوسياسية تؤدي إلى تفاقم ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير على المدى القصير. وأضافت: "لكننا وصلنا أيضاً إلى مرحلة حاسمة في جهودنا طويلة الأجل لمعالجة أزمة المناخ وضمان انتقال عادل للطاقة النظيفة. والحل الدائم الوحيد للحد من اعتمادنا على الوقود الأحفوري، وبالتالي التخلص من أسعار الطاقة المتقلبة، هو إكمال التحول الأخضر".

تغيّر طويل الأمد

في غضون ذلك أضافت الصين حجماً قياسياً من الطاقة الشمسية خلال العام الماضي، وستحقق رقماً قياسياً جديداً على الأرجح في عام 2022، بفضل دفعها نحو بناء مزيد من منشآت الطاقة الشمسية على الأسطح في البلاد والتوسع الهائل لمصادر الطاقة المتجددة في الصحاري الشمالية.

وفي الولايات المتحدة تتسابق رؤوس أموال القطاع الخاص مع الإرادة السياسية لوضع سياسة مناخية ذات مغزى. أما على الصعيد العالمي فقد بلغ إجمالي رؤوس الأموال هذه 755 مليار دولار في عام 2021، حسب "بلومبرغ إن إي إف".

بالنظر بعيداً عن الأحداث الحالية، ستجد أن الاتجاه الأطول أمداً نحو الطاقة النظيفة يبقى ثابتاً كما هو، فيما يعزز الاضطراب الحالي حقيقة معترفاً بها، وهي أن التدابير المؤلمة ستكون مطلوبة دائماً، لكن تكلفة التقاعس هي أعلى بكثير، إذ إن عشراً من أسوأ الكوارث المناخية التي حصلت في عام 2021 كلفت الاقتصاد العالمي ما قيمته 170 مليار دولار.

تقول كريستي غولدفوس، المسؤولة السابقة في إدارة أوباما، والتي تشغل الآن منصب نائب الرئيس الأول لسياسة الطاقة والبيئة في "مركز التقدم الأمريكي" في واشنطن: "من المنطقي أن نلقي نظرة على هذه اللحظة، ونشعر بالقلق حول الشكل الذي يبدو عليه التقدم".