العملات المشفرة.. مخزن للقيمة أم فقاعة؟

عدد من رموز العملات المشفرة معروضة على شاشة هاتف ذكي
عدد من رموز العملات المشفرة معروضة على شاشة هاتف ذكي المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ساعد انخفاض أسعار الفائدة للغاية وضّخ تريليونات الدولارات عبر حزم التحفيز الحكومية على زيادة أسعار الأصول الرقمية، فهل يمكن للسوق أن تصمد من دونها؟

مع تحوّل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى تشديد سياسته النقدية، انخفضت العملة المشفرة "بتكوين" بنحو 40% من أعلى مستوياتها.

يعتبر المدافعون عن اقتناء أو اعتماد "بتكوين" أنها المخزن النهائي للقيمة، وهي أقوى وسيلة تحوط ضد التضخم المتفشي الناجم عن عدم انضباط تحركات البنوك المركزية وطباعتها للنقود.

بالنسبة إلى المشككين، فإنّ عالم التشفير ككل بمثابة سراب، وكانت قيمته الهائلة التي تجاوزت تريليونَي دولار مجرد نتيجة للمضاربة باستخدام الأموال الرخيصة التي تتدفق في الاقتصاد العالمي. ونتيجة لذلك فإنّ العملات المشفرة عبارة عن فقاعة كبيرة، وفق رأيهم.

كلتا هاتين النظريتين على وشك مواجهة أكبر اختبار لها حتى الآن.

ظهور "بتكوين"

ظهرت "بتكوين"، العملة المشفرة الأصلية، منذ أكثر من عقد من الزمان من بين أنقاض الأزمة المالية العالمية، لتتجاوز البنوك والوكالات الحكومية الغارقة في الكارثة الكبيرة التي ضربت "وول ستريت" في ذلك الوقت.

اقرأ أيضاً: رئيس السلفادور: نسعى لبناء أول مدينة "بتكوين" في العالم

اكتسب الرمز الرقمي أتباعاً بشكل مطرد، وألهم سلسلة من الطامحين إلى الثراء الذين تحمّلوا بعض المراحل الجامحة أو ذات المخاطرة، لكن لم تنطلق السوق حقاً إلا بعد نشوب الأزمة الكبيرة، وهي تفشي "كوفيد-19".

اتسع نطاق تداول العملات المشفرة بعد مارس 2020، عندما أطلق مجلس الاحتياطي الفيدرالي والكونغرس برامج تحفيز نقدية بقيمة تريليونات الدولارات لتخفيف الصدمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء. سلكت حزمة من تلك الأموال طريقها إلى الأصول الرقمية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار.

ارتفعت عملة "بتكوين" بنسبة 305% في عام 2020 وحققت صعوداً بنسبة 60% أخرى في عام 2021، ليحقق سعرها رقماً قياسياً بلغ 69 ألف دولار تقريباً في أوائل نوفمبر 2021.

منذ ذلك الحين، ظلت في حالة هبوط لا هوادة فيه، إذ أثقلها إلى حد كبير توجّه البنك المركزي نحو تشديد السياسة النقدية.

في الوقت الراهن، مع تزايد احتمالات بأن يبدأ صانعو السياسة سلسلة من زيادات أسعار الفائدة في مارس -وهي خطوة من بين عدة خطوات من المقرر أن يتخذوها لسحب السيولة من السوق- يبقى أن نرى ما إذا كان نظام العملات المشفرة يمكنه الصمود دون تلك السيولة أم لا.

لا يبدو الأمر جيداً حتى الآن، فقد انخفضت "بتكوين" بالفعل نحو 40% من أعلى مستوياتها، فيما عانت العملة الثانية (إيثريوم) وغيرها من "العملات الرقمية البديلة" أيضاً من انخفاضات حادّة.

يقول ستيفان ووليت، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك في منصة تداول العملات المشفرة "إف آر إن تي فاينانشال" (FRNT Financial): "إذا كانوا سيرفعون أسعار الفائدة ثلاث مرات في عام 2022 ويحافظون على البرنامج، فإن عصر أسعار الفائدة المنخفضة سينتهي، وسنرى حقاً كم عدد المؤمنين بنظرية التشفير و(بتكوين)".

ويضيف: "أتوقع أن يكون توجه بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر جرأة إزاء تشديد السياسة النقدية، وبالتالي سيكون أمراً سيئاً للغاية بالنسبة إلى تقييمات العملات المشفرة".

يتفق مايكل أورورك، كبير الاستراتيجيين بالسوق في "جونز تريدينغ" (JonesTrading)، مع رأي ووليت، ويقول:

"يبدو أن عمليات شراء الأصول بشكل مستمر من جانب الاحتياطي الفيدرالي كانت حجر الزاوية للاستثمار في العملات الرقمية".

إذا اتبع البنك المركزي المسار المحدد في محاضره المنشورة مؤخراً، التي أظهرت أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي مستعدون للتحرك أسرع من المتوقع لرفع أسعار الفائدة، وربما تقليص المركز المالي للبنك، "فإنّ ذلك من شأنه أن يقوّض الفكرة الرئيسية وراء صعود (بتكوين) وعديد من العملات المشفرة الأخرى فوراً"، حسب أورورك.

خلال معظم تاريخها البالغ 13 عاماً، تمتعت "بتكوين" ببيئة من السياسة النقدية التيسيرية ومعدلات فائدة صفرية أو سلبية.

آثار مضاعفة

على الرغم من عدم وجود خط مباشر بين خزائن الاحتياطي الفيدرالي وأوامر شراء "بتكوين" في البورصات، فإنّ هناك علاقة ترابط وفقاً لديفيد تاويل رئيس "بروشين كابيتال" (ProChain Capital)، صندوق تحوط للعملات المشفرة. فمن ناحية، يمكن أن يكون لشراء بنك الاحتياطي الفيدرالي أي نوع من الأصول آثار مضاعفة ويرفع أسعار الاستثمارات الأخرى. قال تاويل عبر الهاتف: "كل القوة الشرائية والقوة القابلة للاستثمار الموجودة يجب أن تذهب إلى أصل ما".

من ناحية أخرى، مع انخفاض أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها، اضطرّ المستثمرون إلى البحث في السوق عن فرص ذات عوائد أعلى، وتحوَّل كثيرون إلى العملات المشفرة نظراً إلى قدرتها على تحقيق مكاسب ضخمة. ويطرح تاويل مثالاً بقوله: "لنأخذ على سبيل المثال مستثمراً بالسندات ذات الدرجة غير الاستثمارية اعتاد على عوائد عالية من خانة واحدة حتى في الأيام السيئة. سيُضطر هذا المستثمر إلى وضع الأموال في أي أصل أكثر خطورة، ولكن الأهم من ذلك أصل ينتج عائداً اعتاد الحصول عليه".

إذاً ماذا يحدث عندما تصبح الظروف المالية أكثر تشدداً؟

قال تاويل: "الخطوة الأولية هي عكس ما حدث عندما استثمر الأموال، فكل أصل يرتفع ويتأرجح في الاتجاه الآخر حتى يستقر.. هذا هو السبب في وجود رد فعل فوري في السوق لأن الجميع يتوقع أن المال سيترك الأصول الأكثر خطورة".

القيمة العادلة

كانت المرة الأخيرة التي رفع فيها البنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في ديسمبر 2018، وجاءت الخطوة في إطار سلسلة من عمليات الرفع.

في ذلك الوقت، كان يجري تداول "بتكوين" مقابل نحو 3700 دولار، وكانت مفاهيم مثل "التمويل اللامركزي" و"الرموز غير القابلة للاستبدال" على بُعد سنوات من استخدامها في القاموس أو في الحديث بين الناس.

اقرأ المزيد: "جيه بي مورغان": القيمة العادلة لـ"بتكوين" 38 ألف دولار

اتضح في نهاية الأمر أنه كان عاماً صعباً بالنسبة إلى العملة المشفرة الأصلية عندما خسرت "بتكوين" أكثر من 40% خلال الشهرين الماضيين، وهي الفترة التي تزامنت أيضاً مع تذبذب حادّ للأسهم الأمريكية.

تظهر هذه الديناميكية مرة أخرى حالياً مع تراجع "بتكوين" والأسهم ذات القيمة العالية قبل جولة جديدة متوقعة من التشديد النقدي لدى الاحتياطي الفيدرالي، كما يقول بيتر بوكفار، كبير مسؤولي الاستثمار في "بليكلي أدفايزري غروب" (Bleakley Advisory Group) ومحرر "ذا بوك ريبورت" (The Boock Report).

يقول بوكفار: "في الوقت الحالي، تثبت (بتكوين) أنها مجرد أصل يحظى بالمخاطرة وعدم المخاطرة في نفس الوقت.. أتوقع أن يجري تداولها مع أصول أخرى ذات مخاطرة، رداً على التشديد النقدي من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي".

قد يهمك: عمالقة "وول ستريت" يكشفون عن مخاطر مستقبلية كبرى ستواجه المستثمرين

قارن بوكفار العملة الرقمية بـصندوق "آرك إنوفيشين" المتداول في البورصة (ARK Innovation ETF) التابع لكاثي وود، الذي يُنظر إليه على أنه "أصل المخاطرة المطلق"، والذي أثبت أيضاً حساسيته المفرطة للسياسة المشددة من قِبل الاحتياطي الفيدرالي، إذ يبدأ المستثمرون في إيلاء التقييمات مزيداً من الاهتمام.

على الرغم من ذلك، لا تزال "بتكوين" أداة تشهد تحولات بشكل كبير. ولقد مثلت أشياء عدة لكثير من الناس لما يزيد على عقد حتى الآن، وستستمر سردياتها (المتناقضة في كثير من الأحيان) في التطور. بعد كل ذلك، جرى شطبها مراراً وكأن لا وجود لها، وجرى استنكارها، وانتقادها، واعتبارها فقاعة فقط، لتعود أقوى في كل مرة.

مع زيادة إقبال الشركات على اقتناء "بتكوين" قد يصبح مستقبلها أكثر وضوحاً، كما يقول ماكس غوكهام، كبير مسؤولي الاستثمار في "ألفا تي آر إيه آي" (AlphaTrAI ) التي تعمل على تطبيق خوارزميات الذكاء الصناعي الخاصة بها بالنسبة إلى الأصول الرقمية. ويضيف غوكهام: "لا ينبغي أن نستبعد أن حالات استخدام (بتكوين) في المستقبل قد تتطور إلى حيث تعيد اختراع نفسها وتكتسب أهمية من جديد".