وقت فلاديمير بوتين لا يتسع لواقعيتكم

حال بوتين كحال إنسان ظل وحيداً في غرفة يسمع صدى صوته إذ لم يعد يسمع أي صوت من الخارج

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى توقيع الاعتراف بمنطقتين انفصاليتين تدعمهما روسيا في شرق أوكرانيا
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى توقيع الاعتراف بمنطقتين انفصاليتين تدعمهما روسيا في شرق أوكرانيا المصدر: غيتي إيمجز
Andreas Kluth
Andreas Kluth

Columnist at Bloomberg Opinion. Previously editor-in-chief of Handelsblatt Global; 20 years at The Economist. Author of "Hannibal and Me."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لقد بدأت، عندما قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر اعترافه باستقلال إقليمين انفصاليين في أوكرانيا، وإرساله الجنود إليهما كقوات "حفظ سلام"، فاتحة لما قد يتحول إلى حرب. لقد تساءل المحللون والخبراء مراراً حول ما يدور في ذهنه، وكيف يرى العالم؟ احتمالات الأجوبة مرعبة.

كان بوتين لبرهة يحيط نفسه ببطانة من مستشارين وخبراء قدّموا وجهات نظر وتفسيرات متنوعة لشؤون العالم، وذلك في السنوات الأولى من عهده. كانت فترة تحدّث فيها إلى قادة أجانب، واستمع إليهم بالفعل. كان من الواضح أنَّه على اتصال بالواقع.

لكنَّه بدأ في مرحلة ما منذ أكثر من عقد بنسج واقع بديل؛ فغدا مؤرخاً هاوياً، وابتكر نظريات عن الماضي، متعمداً تجاهل الحقائق ليحكي لنفسه ما يحب من الحكايات. كانت إحداها أنَّ أوكرانيا ليست دولة حقيقية، وأنَّها مجرد قطعة من روسيا بوتين الكبرى، ثم شرع بقضم أجزاء منها في 2014.

حرب بوتين على أوكرانيا تهدف لجعل فلاديمير عظيماً

حاورته أنغيلا ميركل حينئذ مراراً وتكراراً عندما كانت تتولى مستشارية ألمانيا. ميركل طليقة بالروسية، كما توصف بأنَّها كانت أكثر من يفهم بوتين بين زعماء العالم. التفتت إلى مساعديها بعد المكالمة الأولى معه حينها، وقالت، إنَّها "غير متأكدة من أنَّه على اتصال بالواقع"، ويبدو كما لو أنَّه يعيش "في عالم آخر".

مرت ثماني سنوات على ذلك، سافر بوتين خلالها كما يتضح لبعد أعمق في "ميتافيرس" خاص به. وصف عالما السياسة؛ آدم كيسي، وسيفا جونتسكي في مجلة "فورين أفيرز"، ذلك بأنَّ الرئيس الروسي، حاله كحال معظم الحكام الأقوياء؛ خلق فقاعة معلومات، ولم يعد بإمكانه الخروج منها.

سرية ورهاب

بوتين مهووس بالسرية لدرجة أنَّه لا يستخدم الهاتف النقال. كما قلّص دائرة مستشاريه لتقتصر على حفنة من تابعين اختارهم بناءً على ولائهم، أو تزلفهم بدل اللجوء لمعيار الكفاءة. انتقاهم بشكل غير متوازن مما يسمى بـ"سيلوفيكي"، أو كبار ضباط الجيش، وأجهزة الأمن، مثل جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، وريث المخابرات السوفيتية (KGB)، الذي أنتج بوتين نفسه.

هؤلاء "الإمعات" يعكسون، كما المرآة، ارتياب بوتين حول عدوانية الغرب المزعومة، فيغذّون غروره الشديد، ويحجبون المعلومات عن المخاطر، فيشعر أنَّه يسيطر على الأحداث بما يفوق الواقع. يشبه الأمر أن يكون بوتين قد صنع آلةً لتقدّم الثناء على أفكاره بانحياز. زاد الوباء كل هذا سوءآً، فقد حوّل بوتين إلى شخص يعاني من رهاب الجراثيم، فهو لا يكاد يسمح لأي شخص بالاقتراب منه، ويتخاطب مع الناس عبر الصراخ عن بعد.

هل يمارس بوتين سياسة حافة الهاوية في أوكرانيا؟

لم يكن بوتين فريداً بالخضوع لهذا التفاعل بين العزلة والوهم. قال المؤرخ البريطاني اللورد أكتون، إنَّ السلطة مفسدة، لكنَّ السلطة المطلقة مفسدة كلية. لربما كان سيضيف أيضاً أنَّ القوة تسبب عزلة عن الواقع، كما أنَّها تشوهه. حدث ذلك مع كل الطغاة من نيرون إلى صدام حسين، ولعدد لا يحصى من رؤساء الشركات وغيرهم من الزعماء، ومن ذوي الشأن.

ما الفرق بين ترمب وبوتين؟

كما أنَّ هذا البلاء ليس بالضرورة من خصائص الأنظمة الاستبدادية، إذ تصرّف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أحياناً كما لو كان يحاكي أسلوب بوتين، وتعامل مع الواقع والحقائق بتحايل مشابه. الفرق هو أنَّ ترمب، الذي يعيش في ديمقراطية نابضة بالحياة مثل الولايات المتحدة، أمكنه فقط أن يقصي الآراء المناهضة في محيطه، في حين يستطيع بوتين، المسؤول عن الدعاية الاستبدادية وجهاز الأمن، قمع هذه الآراء في كل أرجاء الحياة العامة تقريباً.

ترمب يستعد بدهاء لانتخابات 2024 بجمع الأموال في الخفاء وتحييد المنافسين

لذا نحصل على مشاهد مثل التي نراها هذا الأسبوع، تلك التي تبدو كأنَّها ضرب من السخرية السياسية إلى أن يدرك المرء أنَّه يشاهد أحداثاً تاريخية. بدأت بعقد بوتين من وراء مكتب مذهّب لاجتماع لما يسمى بمجلس الأمن الروسي في قاعة مستديرة تحيط بها أعمدة كورنثية مزيفة. جلس المقرّبون منه على الكراسي البسيطة لمسافة كبيرة، إذ تركهم يتلوون من شدة القلق والارتباك. تلعثم بعضهم بما لا يفهم، ثم أمرهم بوتين أن يكونوا واضحين، ثم طالبهم أن يعتنوا باختيار الكلمات. حين أيّد أحدهم ضم دونيتسك ولوغانسك بالخطأ؛ ذكره بوتين أنَّهم اجتمعوا ليتم إقرار دعم استقلالهما في الوقت الحالي. لم يكن سوتونيوس، أو شكسبير، أو أورويل ليكتب نصاً يقذعه بقدر ما فعل الواقع.

ثم استرسل بوتين في محاضرة متخبطة كمؤرخ طارئ على التاريخ أثار عبرها استغراب العالم الخارجي. هل كان جدياً بطرح أنَّ أوكرانيا اخترعها لينين، وأنَّها دمية بيد الغرب الآن؟ أو أنَّ هناك إبادة جماعية للروس في شرقها؟.

عبقري أم حبيس أفكاره

غالباً ما يتكهن مراقبو بوتين فيما إذا كان الرجل يؤمن حقاً بهذا الهراء، أم أنَّه يسخر فحسب. لم يعد هذا التمييز مهماً في مرحلة ما؛ لأنَّ الناس حين يسمعون أنصهم أو من سواهم يكرر شيئاً مرات عديدة، يرونه صحيحاً. في كلا الحالين، لا يوجد حول بوتين من يستطيع إخباره بالحقيقة سواء الآن أم لاحقاً.

يبدو أنَّ بعض النقاد الغربيين يعتبرون بوتين عبقرياً شريراً، وعقلاً مدبراً سيتفوق علينا جميعاً. ربما صح ذلك. لكن ما يبدو معقولاً لي هو أنَّ بوتين إنسان عادي ظل وحيداً في غرفة يسمع صدى صوته لفترة طويلة جداً، بحيث لم يعد يسمع أي صوت من الخارج، أو هو كرجل كان يستخدم نظارة واقع افتراضي معززة للقوة حتى لم يعد بإمكانه رؤية أي شيء سوى واقعه الافتراضي. هذا يزيد خطورة بوتين، ولا يقلل منها.