أزمة تختمر على جبهة بوتين الداخلية

هل هي بداية النهاية؟
هل هي بداية النهاية؟ المصدر: بلومبرغ
Clara Ferreira Marques
Clara Ferreira Marques

Columnist for Bloomberg Opinion in Hong Kong. Commodities, ESG, Russia & more. Via Singapore, Mumbai, London, Milan, Moscow, Paris, Cape Town, Lisbon.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

هذا درس في القيادة المتناقضة. من جهة، يظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التلفزيون الرسمي وهو يوجه أوامره من بعيد إلى مسؤولين ذوي وجوه متحجرة وسمات قاسية، تفصله عنهم منضدة طويلة، يجلس هو على طرف منها وهم على الطرف المقابل؛ ومن جهة أخرى يرتدي الزعيم الأوكراني زياً عسكرياً كاملاً وهو يسير في شوارع كييف، ويتحدث مباشرة إلى مواطنيه (وإلى العالم) عبر "تيليغرام"، يدعوهم إلى التحلي بالشجاعة، متعهداً بالبقاء في المدينة وتحت القصف.

اقرأ أيضاً: طوابير أمام الصرافات الآلية في روسيا لسحب دولارات وسط مخاوف من انهيار الروبل

واحد مصاب بجنون العظمة، ومولع بالقتال، ويعاني من العزلة، يعمد إلى تضخيم خطر حكومة كييف، ويقول إنها تعجّ بالنازيين و"مدمني المخدرات"، وآخر ممثل كوميدي أصبح رئيساً للبلاد، وكانت شعبيته تتراجع، لكنه تحول إلى زعيم يتمتع بالشعبية في زمن الحرب، عبر لمسة ذهبية من وسائل التواصل الاجتماعي.

اقرأ أيضاً: بإمكان بوتين أن يربح معركة كييف.. لكن ليس الحرب

يتزايد الوضوح في التناقض بين الرجلين، مع فشل الحرب الروسية في المضي وفق المخطط لها، وتضاعف عواقبها الاقتصادية الكارثية.

أما النتيجة؟ فهناك زيادة مستمرة في التأييد الخارجي للتحرك ضد موسكو، فيما تظهر النخب ذاتها في الداخل، دلائل على التوتر.

اقرأ المزيد: العدوان الروسي على أوكرانيا يضع أردوغان في مأزق

بطبيعة الحال، يسهل أن نبالغ في هذه المسألة. مازلنا في الأيام الأولى من صراع قد يستمر طويلاً، وقد استطاع بوتين من قبل أن يصمد، وأن يمرِّر حتى أكثر تحركاته التي لاقت رفضاً شعبياً عميقاً. إذ أنه يحكم قبضته على السلطة السياسية في روسيا، وبوجه عام، يسيطر على التلفزيون الذي يعتمد عليه معظم الشعب في متابعة الأخبار.

ربما يتوجه الروس إلى نشرات الأخبار التابعة للدولة بدرجة أقل حالياً مما اعتادوا من قبل، غير أنهم لا يثقون بالضرورة في البدائل الغربية. وقبل الغزو الروسي، وجَّه معظمهم اللوم إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي في تصعيد التوتر، وفق الرؤية الروسية للأحداث.

حقائق واضحة

غير أن هناك أيضاً مخاطرة، في ضباب هذه الأحداث، بأن نسمح للنقد بأن يغطي على الحقائق الواضحة. هذه الحرب هي بدرجة كبيرة حرب بوتين على جميع الجبهات – العسكرية والاقتصادية والدعائية – وهو يصارع فيها.

كان الرئيس الروسي يأمل في أن يشن هجوماً سريعاً على أوكرانيا، يحل ما كان يراه مشكلات أمنية، عبر تصفية القوة العسكرية للدولة المجاورة، ويجبر الحكومة القائمة على الهرب، ثم يعين حكومة موالية لموسكو بدلاً منها. كل ذلك كان يمكن تسويقه داخلياً، باعتباره "عملية" بلا تكلفة وغير مؤلمة، وليست حرباً.

نشرات الأخبار التابعة للدولة التزمت هذه الرواية. فقد ركزت على سرعة التقدم المزعومة، ممررة قصصاً تفتقد إلى المصداقية عن أوكرانيين يلقون السلاح، وجماهير تهتف وترحب – ورغم أنها ذكرت في النهاية وجود ضحايا، إلا أنها لم تورد أي تفاصيل بشأنهم. كلمات مثل "الغزو" ممنوعة تماماً، وكذلك أي تلميح عن وحشية حرب تدور في بلد يرتبط بها كثير من الروس بروابط قوية.

غير أن استمرار ذلك يصبح صعباً أكثر فأكثر، مع استخدام حتى محارق الجثث المتحركة بوضوح في تغطية ضحايا المعارك، مع تجنب الصور المزعجة للأكياس التي تحمل جثثاً والجنازات.

الرواية والصورة

يعود ذلك جزئياً إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها عدد من الروس اليوم أكبر مما كان عليه الحال في عام 2014. غير أن هناك حقيقة أخرى: فرغم امتلاك روسيا المعدات المادية، فإن أوكرانيا تمتلك قوة الرواية. لقد ظهرت صور صادمة للغاية. جثة جندي روسي متروكة على الأرض ومغطاة بالثلوج، وصورة نساء أوكرانيات وقد تحولن إلى مقاتلات للدفاع عن كييف، أو عائلات تكدست في محطات قطار الأنفاق هرباً من الصواريخ الروسية.

هناك قصص عن البطولة والدعابة، مثل ذلك السائق الأوكراني الذي أوقفته آلية روسية نفد منها الوقود، وسأل الجنود إذا كانوا بحاجة إلى المساعدة بأن يجرهم في طريق "العودة إلى روسيا" قبل أن يقود سيارته بعيداً. أو كما حدث مع نقطة عسكرية على جزيرة وجدت نفسها في مواجهة بارجة حربية روسية. وقد صارت إجابتهم المهينة على مطالبتهم بإلقاء السلاح، شعاراً لحشد الجماهير.

لا توجد روايات روسية تعادل هذه الروايات لدعم الرأي العام محلياً أو في الخارج.

على الدرجة ذاتها من الأهمية، أدرك زيلينسكي وإدارته، القوة الكامنة في التواصل المباشر مع الروس العاديين عبر الحدود، وقد فعل ذلك، وتحدث إليهم حديثاً عاطفياً بلغته الروسية الأصلية.

تنشر كييف صوراً للأسرى، وكثير منهم مجندون صغار، وقد أطلقت موقعاً على الإنترنت للعائلات الروسية التي تبحث عن معلومات عن المقاتلين الذين ماتوا أو وقعوا في الأسر. هذه الآلام لن يتم إسكاتها بسهولة.

ضربات اقتصادية

الأمر الحيوي على الجبهة الداخلية، أن يأتي كل ذلك وسط توالي الضربات الاقتصادية. معظم الروس ينتظرون أن يكونوا بمنأى عن التأثر بالعقوبات على الأقل في المدى القصير – غير أنهم يواجهون الآن طوابير طويلة على ماكينات الصرف الآلية لسحب العملة الأجنبية، مع انهيار الروبل، وتحول البنك المركزي نفسه -وهو الداعم ذو الأهمية الحاسمة في النظام المالي- إلى هدف للعقوبات الغربية.

ارتفع سعر الفائدة الرئيسي في البلاد بما يتجاوز الضعف إلى 20%، وأصبح من الصعب احتواء زيادة الأسعار. لقد سعى بوتين منذ زمن طويل لأن يطرح نفسه في صورة منقذ البلاد وجالب الاستقرار بعد الفوضى الاقتصادية خلال تسعينيات القرن الماضي – غير أن المشاهد الحالية في مراكز التسوق في موسكو، تذكرنا بما حدث أثناء أزمة العملة في عام 1998.

نعم، إن كثيراً من الغضب والانزعاج ما زال مكتوماً وغير علني. وهذا النظام لم يمت، وإن كان جريحاً ومحاصراً بدرجة خطيرة.

رغم ذلك يصرِّح الروس، بأعداد غير عادية ومن جهات غير عادية، بتململهم وغضبهم. فقد حوَّلت الحرب خطراً غير محدد تمثله قيادة أوتوقراطية مستبدة إلى خطر ملموس، وتهديد حقيقي جداً يواجه البلاد والأسر العادية ومستقبل أفرادها.

اعتقالات بالآلاف

مظاهرات الشوارع تكشف عن ذلك، بأعدادها المهمة على خلفية مستوى القمع المرتفع. يقول مرصد "أو في دي إنفو"، وهو منصة حقوقية روسية مستقلة، إن السلطات اعتقلت 5933 شخصاً. وينضم المشاهير إلى الاحتجاجات، تعلو أصواتهم التي إن لم تكن ضد بوتين، فهي ضد الحرب التي يشنها – من لاعب التنس أندري روبليف في بطولات دبي للتنس، إلى فنان الهيب هوب أوكسيميرون، الذي ألغى مجموعة من الحفلات الموسيقية قائلاً: "أعرف أن معظم الناس في روسيا ضد هذه الحرب، وأنا على ثقة بأنه كلما زادت أعداد من يعلنون عن رأيهم، كان إنهاء هذا الكابوس ممكناً بوتيرة أسرع".

في مؤتمر عالمي يجمع علماء المناخ، اعتذر عضو في الوفد الروسي "نيابة عن جميع الروس" عن عجزه عن منع هذا الصراع.

بدأت الشروخ تظهر أيضاً وسط قطاع الأعمال، وهو القطاع الأهم على الإطلاق بالنسبة إلى قدرة النظام على الاستمرار، وكذلك وسط النخبة، بسبب دمار أصول وممتلكات الأوليغارشية وأبنائها نتيجة العقوبات، وقد أخذوا فجأة بتحول بوتين العدواني، خصوصاً بعد أن اكتشفوا أخيراً بوصلتهم الأخلاقية.

وصف الملياردير ميخائيل فريدمان المولود في أوكرانيا هذه الحرب بأنها "مأساة"، في حين أن أوليغ دريباسكا، وهو الرجل الذي تحمّل من قبل إهانة بوتين له على شاشة التليفزيون دون أن ينبس بكلمة، يدعو الآن إلى التفاوض.

ربما هكذا تبدو، بداية النهاية.