ديون الولايات المتحدة مفرطة وتستفحل.. لكنها تحت السيطرة

لم يعُد مطروحاً أن نشهد نمواً اقتصادياً فائقاً في المستقبل رغم سرعة نمو التقنيات الجديدة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: غيتي إيمجز
Gary Shilling
Gary Shilling

A. Gary Shilling is president of A. Gary Shilling & Co., a New Jersey consultancy, a Registered Investment Advisor and author of “The Age of Deleveraging: Investment Strategies for a Decade of Slow Growth and Deflation.” Some portfolios he manages invest in currencies and commodities.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

حين يتعلق الأمر بالاحتياطي الفيدرالي والسياسة النقدية، لا قصور في من يقولون إنّ البنك المركزي لا يستطيع أن يفرط برفع الفائدة لئلا يفجر "قنبلة الديون". يعني هذا أن رفع الفائدة ولو بقدر صغير نسبياً قد يجبر الحكومة على الاقتراض أكثر لمجرد خدمة الدَّين نتيجة فرط الديون الاتحادية.

هذه نظرية لطيفة لكن لا تدعمها الأرقام، إذ إنّ الفائدة التي ندفعها في خدمة الديون يجب أن تتضاعف حتى نعود إلى ذروة 1991 في تكلفة تمويل الديون كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، وهي لم تفجر آنذاك قنبلة الديون، ثم تزيد بأكثر من ذلك بكثير حتى يحدث انفجار في تكلفة التمويل.

الاحتياطي الفيدرالي يتجه بالاقتصاد نحو سقطة مؤلمة

تسببت عمليات الإنقاذ الحكومية لمواجهة أزمة 2008 المالية، علاوة على الإنفاق أخيراً على الاقتصاد خلال فترة انتشار جائحة كورونا، بقفزة في ديون الولايات المتحدة الاتحادية إلى 28 تريليون دولار العام الماضي، أو 123% من إجمالي الناتج المحلي.

ارتفعت الديون القائمة من 3 تريليونات دولار منذ عقدين، وستستمر هذه الديون بالتضخم مع توقعات بأن يبلغ عجز الموازنة العامة نحو تريليون دولار أو أكثر سنوياً على مدى العقد المقبل.

لا حدود

لكن لم تتسبب زيادة الاقتراض بقفزة كبيرة في أسعار الفائدة بالسوق، وتقول النظرية النقدية الحديثة إنه لا توجد حدود فعلية للعجز ولا للاقتراض الاتحادي.

تتوفر واقعياً الأموال التي يتطلبها تمويل العجز بكثرة، وجاء كثير منها من المستهلكين الذين ادخروا 1.9 تريليون دولار من حزمة التحفيز المالي التي تلقوها في أبريل 2020، و508 مليارات دولار من حزمة يناير 2021، و1.4 تريليون دولار من الأموال التي تلقوها في مارس 2021، حسب تقديرات بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.

استحوذ الكونغرس على نحو 5 تريليونات دولار من أموال تخفيف أثر الجائحة، ومع دوران هذه الأموال استخدم بعضها لتمويل العجز المالي الفيدرالي.

هل ستستحضر كل تلك الزيادات في أسعار الفائدة الركود الاقتصادي؟

اشترى الاحتياطي الفيدرالي إضافة إلى ذلك سندات خزانة بقيمة 4.8 تريليون دولار منذ بداية الجائحة في أوائل 2020، إذ ارتفعت قيمة الأصول بحوزته من 4.2 تريليون دولار إلى 8.9 تريليون. كان بين أهم المشترين أجانب أيضاً، ويحوزون 7.7 تريليون دولار، أو 31% من ديون الخزانة القائمة. لا شك أنهم سيشترون مزيداً من السندات بحثاً عن ملاذات آمنة بعد غزو روسيا لأوكرانيا. كما أن الآسيويين منتجون ومصدّرون يتميزون بالنشاط والقوة، غير أن استهلاكهم ضعيف للغاية. نتج عن "فائض المدخرات" ذلك عجز في حساب الولايات المتحدة الجاري بقيمة 975 مليار دولار، جرى تمويله مع زيادة ملكية الأجانب لأصول الولايات المتحدة، بما فيها سندات الخزانة.

حصالة المسنين

يُعَدّ جيل أواسط القرن الماضي، الذي يدخل الآن مرحلة الشيخوخة، مصدراً آخر من مصادر تمويل العجز المالي الاحتياطي. يتجه الناس مع كبر السن لنقل محافظ استثماراتهم إلى مجالات أقل خطراً، بما في ذلك ديون حكومة الولايات المتحدة.

تجاوز كل هذا الطلب على سندات الخزانة الكمية المعروضة منها، كما يتبين من انخفاض سعر الفائدة على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات من 8% في أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى 1.8%، فيما انخفض العائد على سندات أجل 30 عاماً من 8% إلى 2.1%. كما شكّل انخفاض التضخم على مدى هذه الأعوام، وهو أهم عوامل تحديد العوائد على سندات الخزانة، ضغطاً هبوطياً على تكاليف الاقتراض.

مستثمرو السندات يراهنون على رفع الفائدة الأمريكية 7 مرات في 2022

ستستمر الديون والعجز المالي الاتحادي في الزيادة رغم ذلك، فأطفال فترة ما بعد الحرب الثانية الذين يهرمون الآن سيطالبون بمزيد من نفقات الضمان الاجتماعي. ستقفز تكلفة هذا الضمان، مضافاً إليها تكاليف نظامَي الرعاية الصحية "ميديك-كير" و"ميديك-إيد"، من 10.9% من إجمالي الناتج المحلي في 2021 إلى 15.6% في 2050، وفقاً لحسابات مكتب الموازنة بالكونغرس.

وصل معدل الدَّين الفيدرالي إلى إجمالي الناتج المحلي إلى نسبة 106% في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم انخفض إلى 23% في 1975، ليس بسبب سداد الديون وإنما بسبب نمو الاقتصاد نمواً سريعاً بعد الحرب. غير أن ذلك انتهى تماماً، ولم يعُد مطروحاً أن نشهد نمواً اقتصادياً فائقاً في المستقبل رغم السرعة الكبيرة في نمو التقنيات الجديدة عالية الإنتاجية مثل استخدام البصمات الخلقية والذكاء الصناعي والسيارات ذاتية القيادة.

تداني الذروة

سيؤدي انخفاض معدل المواليد وتدهور نسبة المشاركة في قوة العمل والتقاعد المبكر إلى خفض التوظيف والنمو الاقتصادي.

كذلك دفعت زيادة العجز المالي واستفحال ديون الحكومة نسبة الديون إلى إجمالي الناتج المحلي إلى 96% في الربع الثالث من 2021، حتى اقتربت من ذروتها المسجلة في أوائل أربعينيات القرن الماضي.

يعود السبب الرئيسي وراء عدم انزعاج أسواق المال من انفجار العجز المالي الاتحادي والديون إلى أسعار الفائدة المنخفضة، التي حافظت على تدني تكلفة تمويل الديون.

يبلغ متوسط تكلفة الفوائد اللازمة لتمويل الديون 1.4% عند متوسط مدة استحقاق على التزامات الخزانة يبلغ 6 أشهر تقريباً، وقد وصلت تكلفة الفوائد إلى نحو 1.5% من إجمالي الناتج المحلي العام الماضي.

عودة اقتصادات العجز

سجّل أعلى معدل لتكلفة الفوائد إلى إجمالي الناتج المحلي بعد الحرب العالمية الثانية 3.1% في 1992، غير أن ذلك لم يترتب عليه موجة صعود تنتج عن تسبب فوائد الديون بزيادة العجز، وبالتالي الديون نتيجة ارتفاع تكلفة التمويل وانفجار الديون. لكن تتصاعد هذه المخاطر مع زيادة تكاليف الفوائد، لأن تكلفة التمويل تصبح مركبة.

صممنا محاكاة لمعدل تكلفة الفوائد إلى إجمالي الناتج المحلي على مدى 10 سنوات تتراوح فيها أسعار الفائدة على ديون الخزانة من 2% إلى 8%. وفي كل عملية حسابية افترضنا معدل نمو اسمي لإجمالي الناتج المحلي بنسبة 4% سنوياً، تتضمن 2% نمواً حقيقياً و2% تضخماً في الأسعار. كما افترضنا عجزاً فيدرالياً يبلغ تريليون دولار في كل سنة من السنوات العشر. تنخفض نسبة الديون إلى إجمالي الناتج المحلي فعلياً مع سعر فائدة يبلغ 2% بمعدل بسيط يتراوح بين 2% إلى 1.7% بحلول 2032. لكن يقفز هذه المعدل مع سعر فائدة يبلغ 8% من 7.5% إلى 12.9% في 10 سنوات، مع صعود كبير لمعدل الزيادة بمرور الوقت، وهكذا إن ارتفعت الفائدة كثيراً فإنها تتسبب في قنبلة الديون.

توجهات البنوك المركزية العالمية ترسم نهايةً لحقبة "الأموال السهلة"

حتى تصل أسعار الفائدة إلى هذا المستوى المرتفع، ينبغي أن يقفز التضخم على الأرجح إلى أرقام من خانتين، أي 10% أو أكثر، أو أن يحدث انهيار مفاجئ في الثقة بالجدارة الائتمانية لحكومة الولايات المتحدة. كما يجب أن تستمر هذه الأزمة لفترة طويلة تكفي لإعادة تدوير الديون الحالية التي يبلغ متوسط استحقاقها ستة أعوام على أسعار الفائدة المرتفعة تلك.

قد يفزع رفع الاحتياطي الفيدرالي للفائدة وتحول تكلفة فوائد تمويل الديون الاتحادية إلى تكلفة مركبة الكونغرس ومن يسكن البيت الأبيض بما يكفي ليتشككوا حيال المجانية التي تعدنا بها النظرية النقدية الحديثة، ويخفضوا الإنفاق الاتحادي والعجز المالي. رغم ذلك قد يتطلب الأمر أزمة كما هو معتاد للدفع نحو اتخاذ إجراء فعال.