فوضى عارمة تجتاح مسارات الرحلات مع إغلاق المجال الجوي الروسي

تُظهر لوحة المغادرة الرحلات الجوية الملغاة في مطار شيريميتييفو الدولي في موسكو يوم 28 فبراير
تُظهر لوحة المغادرة الرحلات الجوية الملغاة في مطار شيريميتييفو الدولي في موسكو يوم 28 فبراير المصدر: وكالة "ألمي"
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كانت روسيا جزءاً لا يتجزأ من خريطة الطيران العالمي، حتى خلال الفترة التي سبقت سقوط الاتحاد السوفييتي؛ إذ اعتادت مئات الرحلات الجوية عبور أجواء مساحتها الأرضية الشاسعة كل يوم، لربط أوروبا والولايات المتحدة بآسيا. وتُعَدّ الخطوط الجوية الروسية "إيروفلوت" (Aeroflot) من بين أقدم شركات الطيران في العالم، وقدّمت خدماتها عبر نحو 50 دولة باستخدام أحدث الطائرات التي تتراوح بين طُرز شركتَي "إيرباص" و"بوينغ". كما شكّلت حقوق التحليق، التي منحتها روسيا لأكثر من 300 ألف طائرة تستخدم مجالها الجوي كل عام، أحد مصادر دخل الحكومة عبر تحصيل ملايين الدولارات كرسوم.

اقرأ أيضاً: "إياتا": خطر النزاع الروسي-الأوكراني على انتعاش الطيران حتمي

لكنَّ الغزو الروسي لأوكرانيا قلب عقوداً من التحالفات المتزايدة في قطاع الطيران التجاري. وعقب حظر المملكة المتحدة لشركة "إيروفلوت"، وشركات الطيران الروسية الأخرى، دخول مجالها الجوي أواخر الشهر الماضي، وفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات شاملة على روسيا؛ ردَّت الأخيرة بالمثل، وحظرت فعلياً على كل دول أوروبا -بما في ذلك سويسرا المحايدة تاريخياً- استخدام مجالها الجوي. وسرعان ما حذت الولايات المتحدة حذو حلفائها الأوروبيين، وأغلقت مجالها الجوي أمام روسيا.

أحدثت هذه الخطوة فجوة هائلة في خريطة الطيران العالمية، إذ يُعَدّ عبور الأجواء الروسية الطريق الأسرع بين أوروبا وشمال آسيا، فيما يُعَدّ الالتفاف حول هذا البلد الشاسع أمراً صعباً للغاية. وبالفعل؛ قالت "فين إير" (Finnair)، الناقل الوطني لجمهورية فنلندا، التي تعتمد رحلاتها الطويلة إلى سيول، وشنغهاي، وطوكيو على الوصول إلى المجال الجوي لسيبيريا، إنَّ العديد من الرحلات الجوية لم يَعُد منطقياً من الناحية الاقتصادية.

زمن الحرب الباردة

يذكّرنا هذا الانتقام بحقبة الحرب الباردة، عندما كان المجال الجوي السوفييتي مغلقاً لفترة طويلة أمام شركات الطيران الغربية، مما أجبرها على التوقف عند قواعد التزوّد بالوقود، مثل أنكوريج في ألاسكا، أو سلوك المسار الجوي الأبعد الممتد عبر لندن-الهند-هونغ كونغ. تقول إليزابيث براو، الزميلة البارزة في معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة، والمتخصصة في القضايا الأمنية: "لقد استخدم الروس أداة قوية بشكل لا يصدق عبر إغلاق مجالهم الجوي. إنَّه بمثابة الطريق السريعة بالنسبة إلى الطيران الدولي. ومن الواضح أنَّ ذلك يشكّل تطوراً سيئاً بالنسبة إلى الاقتصاد المعولم".

يبلغ عدد الطائرات التي تستخدم المجال الجوي الروسي كل عام نحو 300 ألف طائرة

لكن على الرغم من أنَّ الطائرات الحديثة تتمتع بالقدرة على التحليق لمسافات أبعد بكثير-تحمل الخطوط الجوية السنغافورية الرقم القياسي في هذا الصدد برحلاتها من نيويورك إلى سنغافورة التي تستغرق ما يقرب من 19 ساعة دون توقف- إلا أنَّ الرحلات المعاد توجيهها تستغرق وقتاً طويلاً، وتزيد من التلوث، ومن المحتمل أن تشكّل عبئاً مالياً كبيراً على صناعة ما تزال تعاني من تداعيات جائحة "كورونا". عملياً؛ أدى تجنّب المجال الجوي الأوكراني إلى إطالة أوقات الرحلات عبر الممرات الجوية التي تربط محاور مثل: لندن، وأمستردام، وفرانكفورت بمطارات في الخليج العربي، كما طالت مسافات وأوقات الرحلات الجوية بين المدن في أوروبا وآسيا.

مسارات أطول وكلفة أعلى

في الوقت الذي توقَّفت فيه شركات الطيران عن تسيير العديد من خطوط الركاب منذ إغلاق روسيا لمجالها الجوي؛ فإنَّ رحلات الشحن توضح مشكلات التخطيط التي تواجه شركات الطيران التي تنجح في التحليق. وفقاً للخبير الاستشاري في قطاع الخدمات اللوجيستية، برايان كلانسي؛ فإنَّه في ظل حظر المسارات الجوية عبر سيبيريا في الوقت الحالي، أصبحت رحلات البضائع المنقولة جواً إلى أوروبا من المصانع في الصين وكوريا الجنوبية واليابان، تتخذ المزيد من الطرق الملتوية التي تزيد من أسعار الشحن المرتفعة بالفعل. وبحسب موقع "فلايت رادرا 24" (FlightRadar24) لتعقب حركة الطائرات التجارية في الوقت الفعلي؛ فإنَّ رحلة شركة "لوفتهانزا للشحن" (Lufthansa Cargo) المنتظمة من فرانكفورت إلى طوكيو، أصبحت أطول بمقدار 2000 كيلومتر (1،243 ميلاً) عما كانت عليه قبل الحظر، الأمر الذي زاد من وقت الرحلة بأكثر من ساعتين، واستهلاك حوالي 18 طناً إضافية من وقود الطائرات.

اقرأ المزيد: "لوفتهانزا": الأزمة الأوكرانية تخيّم على آفاق التعافي مع تحليق أسعار النفط

من جهةٍ أخرى، لا تقتصر المعاناة على الطيران التجاري. فقد استهدفت العقوبات، أيضاً، الأثرياء الروس الذين اعتادوا على التجول في السماء بطائراتهم النفاثة من إنتاج شركات "داسو" (Dassault)، و"غلف ستريم" (Gulfstream)، و"بومباردييه" (Bombardier). مؤخراً؛ بدأت بعض الطائرات المملوكة لأثرى أثرياء الروس، والذين يخضعون لقيود الاتحاد الأوروبي، في التحرك. في 28 فبراير، أقلعت طائرة "إيرباص" من طراز "إيه 340" (A340) المملوكة لقطب صناعة المعادن، أليشر عثمانوف، من ميونيخ تاركة المجال الجوي للاتحاد الأوروبي.

كعقوبة اقتصادية؛ ما يزال بإمكان معظم شركات الطيران الأوروبية الاعتماد على مساراتها المربحة عبر المحيط الأطلسي لجلب الجزء الأكبر من أرباحها بعيدة المدى. ولكن كلما طالت مدة الحظر؛ زادت الفرص المحتملة كي تملأ شركات الطيران الصينية والآسيوية الأخرى، والتي لم يتم حظرها، بعض الفراغ في قطاع الطيران.

شركات التأجير

كانت العقوبات التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي في 27 فبراير قد شملت حظر إمداد روسيا بـ"جميع السلع والتكنولوجيا" المرتبطة بالطائرات. الأمر الذي دفع شركات تأجير الطائرات، التي تمتلك جزءاً كبيراً من الأساطيل العالمية، إلى التوقف عن التعامل مع شركات الطيران الروسية، والسعي لاستعادة مئات الطائرات -وهو أمر قد لا يكون ممكناً في ظل الظروف الحالية. وفقاً لشركة "إشكا" (Ishka) لاستشارات الطيران؛ فإنَّ أكبر ست شركات تأجير أجنبية تمتلك حوالي 300 طائرة في روسيا.

يقول جون ستريكلاند، مدير شركة "جيه إل إس كونسلتنغ أسوشيتس" (JLS Consulting Associates)، ومقرها لندن: "إنَّها لحظة حزينة؛ إذ يشكّل الطيران أكبر عامل تمكين للتبادل الثقافي بين الدول. منذ نهاية الحرب الباردة، أراد الروس السفر إلى جميع أنحاء العالم، وهناك العديد من شركات الطيران التي اتخذت من ذلك مجال عمل لها". في الوقت الحالي، أظلمت السماء المقسّمة فوق روسيا، مستقبل السفر الحر.