جنود من الحرس الوطني يحرسون الساحة الحمراء في موسكو المصدر: بلومبرغ

الروس يوشكون على تلقي دروس ألمانية

هربت بدل أن أقاتل.. وهذا يجعلني مسؤولاً.. من يهرب لا يمكنه التنصل من المسؤولية الجماعية

Leonid Bershidsky
Leonid Bershidsky

Leonid Bershidsky is Bloomberg Opinion's Europe columnist. He was the founding editor of the Russian business daily Vedomosti and founded the opinion website Slon.ru.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

ستكون لحرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا عواقب وخيمة على كثيرين، خصوصاً الأوكرانيين، سواء من فروا من البلاد أو من بقوا لقتال الجيش الغازي أو لتحمل الدمار بلا حول ولا قوة. لكن أثرها في الروس سيكون هائلاً أيضاً، سواء أدركنا ذلك الآن أم لم ندركه. حان الوقت لنحاول نحن مواطني الدولة المعتدية أن نضع أنفسنا مكان الألمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ستبدو المقارنة مبالغاً فيها لكثيرين، ذلك أن النازيين ارتكبوا إبادة جماعية واسعة النطاق ودمروا مدناً في بلدان عديدة كما أنشأوا معسكرات الموت. يصعب على بوتين بلوغ مستوى جنون هتلر القاتل مهما حاول، لكننا نعيش في 2022 لا في الأربعينيات.

لا يبدو وداع بوتين وشيكاً

وُثقت جرائم الحرب التي ارتكبها بوتين على الفور على وسائل التواصل الاجتماعي، وتغير أيضاً منطق محاكمة الجمهور العالمي ليعتبر أنه بغضّ النظر عن محدودية قصف المدنيين فإنّ أول صاروخ استهدف منطقة سكنية هو أمر لا يُغتفر. مع وفرة الأدلة، لا يتطلب الأمر أن تخسر روسيا الحرب ليتحمل شعبها -وليس بوتين شخصياً فقط- المسؤولية حتى لو كانوا في أراضٍ بعيدة عن روسيا وأوكرانيا.

لا يلوم عديد من الروس أنفسهم على الحرب، خصوصاً أولئك الذين يغادرون البلاد هرباً من هستيريا الحرب الرسمية والعواقب الاقتصادية، وعلى أسلوب حياة العقوبات الغربية غير المسبوقة، فلم يعُد هناك "إيكيا" ولا "إتش أند إم" (H&M).

لم أصوّت له

نشر عديد من مشاهير روسيا عبارات "لا للحرب" أو "أنا مع السلام" على الشبكات الاجتماعية دون اتخاذ الخطوة التالية، أي الدعوة لوضع حدّ لعدوان بوتين المجنون، فهم لا يشعرون بمسؤولية شخصية عن دمار أحياء خاركيف وماريوبول. كل ما سمعته منهم كان: "لم أصوت لبوتين قط... ماذا علي أن أفعل حيال هذا؟ أنا ضد الحرب".

يقول الجميع إنهم مع السلام بالطبع، حتى بوتين يقول ذلك. تحدَّث هتلر عن "حبه للسلام" وعزمه على "إحلال السلام على الحدود الشرقية" في خطابه أمام "رايخستاغ" أو مجلس النواب في 1 سبتمبر 1939. مع ذلك فإنّ المسؤولية الفردية تتوقف على ما فعله المرء لجعل الحرب مستحيلة، وتنبع المسؤولية الجماعية، بغض النظر عن الكيفية التي نكره بها ذلك، من عدم قدرة الحاضنة الشعبية على تجنب الديكتاتورية التي لا يمكن إلا أن تؤدي إلى الحرب، كما نرى الآن.

"ثمن هتلر".. كيف أصبحت ألمانيا الحلقة الأضعف أوروبياً في الأزمة الأوكرانية؟

هذا هو المنطق الذي يقف وراء ميل عديد من الأوكرانيين إلى إلقاء اللوم على الشعب الروسي، لا على بوتين فقط. أظهر استطلاع جديد أجرته "ريتينغ غروب" (Rating Group) الأوكرانية أن 38% من المشاركين يقولون إنّ الروس كدولة يتشاركون المسؤولية عن الحرب، وتصل هذه النسبة إلى 42% في وسط أوكرانيا و46% في غربها.

بعد أن هاجرت من روسيا في 2014 بسبب معارضتي لضمّ شبه جزيرة القرم، شعرت بقشعريرة حين قال الأوكرانيون إنّ هذه الخطوة لا تلغي مسؤوليتي. كنت على يقين من أنني لم أكن لأفعل أي شيء لتغيير طبيعة النظام الروسي. صرخت في وجه الأوكرانيين الذين يتهمونني: "اذهبوا أنتم لقتال بوتين، لنرى ما الذي ستستطيعون فعله". أشعر بالخزي حين أتذكر ذلك الآن، لأنهم بالطبع يقاتلونه وأنا أكتب هذا، ولم نفعل ذلك حتى حين لم يكن الأمر بالخطورة التي تشكلها بيئة القمع القاسي الحالية.

لا مبالاة كارثية

تولى هتلر السلطة في 1933 بناءً على تصويت وطني بنسبة 44%، ما يعني أن غالبية الألمان لم يكونوا يدعمونه. لم يكن لديه حتى ثلث الأصوات قبل عام واحد من ذلك، ولم يكن الأوان قد فات لوقفه، لكن قلة من الألمان اهتموا بما يكفي لفعل ذلك.

هذا صحيح لدينا أيضاً. لقد تقبلنا الانتخابات التي يزكم زيفها الأنوف، وكانت احتجاجاتنا في 2011، رغم أنها كانت كبيرة بشكل مثير للإعجاب، مسالمة جداً ولطيفة جداً، ما أفقدها أهميتها.

لقد تقبلنا الخنق التدريجي لوسائل الإعلام المستقلة، وتجاهلنا الفساد الهائل و"التربية الوطنية" التي تزداد جنوناً، الموجهة إلى أطفالنا. تكيفنا مع تحوُّل الحكومة إلى اللاعب الاقتصادي الوحيد الفعال، ومع تضخم الدولة البوليسية، التي تتغذى على عجزنا وإفلاتها من العقاب.

أزمة تختمر على جبهة بوتين الداخلية

رضينا بشكل عام بغزو القرم، كما أصبح المشاهير الروس بارعين في الإجابات الإبداعية حين يسألهم أوكرانيون أمام الكاميرا: إلى مَن تنتمي شبه جزيرة القرم حقاً؟ استمتع كثير منا إبان ذلك بمظاهر الحياة الطبيعية والعلامات التجارية والنوادي وناطحات السحاب والتقنية والمال. انهار كل شيء الآن مثل مشهد مصنوع من الورق المقوى، كما كانت حاله دائماً.

لقد تحولنا إما إلى أشخاص غير مبالين يتبعون بوتين، وإما إلى مراقبين غير مؤثرين بلا حول ولا قوة يقبعون خارج حدود روسيا. كان من الذين غادروا من يحاول عقلنة ما كان يحدث في الوطن. أعلم أنني فعلت ذلك. نحن جعلنا بوتين أمراً ممكناً ثقافياً، وجعلناه ملكاً لنا حتى ونحن نبتعد عنه، وسمحنا له بوضع القواعد حتى عندما تشبثنا بالوهم بأننا لم نكن ضمن اللعبة.

أنا مذنب

لا يهم أنني كنت ضد كل ذلك. أنا مذنب لأنني لم أفعل ما يكفي لتأكيد احتجاجي. هربت بدل أن أقاتل، وهذا يجعلني مسؤولاً. من يهرب مذعوراً من روسيا الآن، وكثير من معارفي يستقلّون الطائرات إلى أي مكان لا تزال تطير إليه، أو يتخلون عن كل شيء ويقودون سياراتهم طوال الليل إلى الحدود، لا يمكنهم التنصل من المسؤولية الجماعية.

بمجرد أن خسر هتلر الحرب وبدأ الحلفاء المنتصرون بالتوضيح للألمان، بمن فيهم المدنيون، أنهم يتشاركون المسؤولية عن فظائعه، قاوم كثيرون قائلين إنهم لم يدعموا النازيين قَط ولم يباركوا فظائعهم أو حتى علموا بها. كانوا يعانون مما وصفه عالما النفس ألكسندر ومارغريت ميتشرليش بـعدم القدرة على الحزن على ضحايا الجرائم النازية. استبدلوا بهذا النوع من الحزن الندم على خسائرهم.

بوتين قادر على قمع الروس المعارضين للحرب.. لكن ليس إلى الأبد

كتب الكاتب كلاوس مان لدى عودته إلى ألمانيا بعد الحرب من الولايات المتحدة: "لا يُظهِر الألمان أي أثر للشعور بالمسؤولية، ناهيك بالذنب. لم يتمكنوا من فهم أن تعاستهم الحالية هي النتيجة المحتومة لما فعله الشعب الألماني بالعالم في السنوات الأخيرة".

كتب توقعاً مريراً في رسالة إلى والده توماس مان، جاء كما يلي: "ستكون هذه الأمة المؤسفة الرهيبة مشوهة جسدياً ومعنوياً ومشلولة لأجيال". لقد كان محقاً بشكل ما، فلم تختفِ أعراض التشوُّه تماماً حتى الآن. يجب أن ننتبه، أنا أرى الأعراض نفسها لدى عديد من الروس الذين أقرأ لهم أو أتحدث معهم.

نتائج ثانوية

لن يأتي الثمن بالنسبة إلى من بقوا على شكل شح في المشروبات المستوردة أو نضوب اليورو من أجهزة الصراف الآلية أو بطاقات ائتمان توقفت نتيجة إقصاء البنوك من نظام رسائل معاملات "سويفت" (SWIFT)، فلا يزال عديد من الروس يتذكرون شعور ما يشبه الاكتفاء الذاتي. ستعود العادات السوفييتية بسرعة إلى أولئك الذين قرروا البقاء على كوكب بوتين. كما قد يعود بعض بوادر الحياة الطبيعية بعد الحرب كما يأمل كثيرون ممن بقوا أو ينوون العودة.

لن يأتي الثمن بالنسبة إلى أولئك الذين غادروا على شكل اعتداءات صغيرة لا مفر منها، مثل كتابات على الجدران وعلى نوافذ مدرسة ثنائية اللغة في برلين، وأنماط جديدة من التنمر التي سيتحملها الأطفال الروس من زملاء تناقشوا حول الأخبار مع آبائهم.

ما العقوبات التي ستكون أكثر إيلاماً بالنسبة إلى الرئيس بوتين؟

يُرجَّح ألا يكون هناك رد فعل خطير بأساليب القرن العشرين كالطرد الجماعي أو معسكرات الاعتقال، حتى في ما يواجه الغرب روسيا، فإن قادته يتأكدون من عدم إلقاء اللوم على الروس كشعب. هذا مهمّ بشكل خاصّ للألمان، الذين كانوا يواجهون مواقف مماثلة منذ عقود.

قال المستشار الألماني أولاف شولتز الأسبوع الماضي: "أعرف مدى صعوبة هذا الوضع على مواطني بلدنا الذين وُلدوا في أوكرانيا أو في روسيا. لذلك لن ندَع هذا الصراع بين بوتين والعالم الحر يفتح جراحاً قديمة أو يؤدي إلى تشوهات جديدة".

اهتمام قصير الأمد

كما تتلاشى الصورة السلبية للأمة التي ارتكبت جرائم حرب بسرعة نسبياً بالنسبة إلى معظم الأشخاص الذين لم يتأثروا بشكل مباشر بجرائم الحرب. وجدت دراسة حول المواقف تجاه الألمان في نيوزيلندا أن المشاعر السلبية تجاههم بلغت ذروتها في السنوات الأولى بعد الحرب الأولى حين أُعلن عن أهوال معسكرات الاعتقال على نطاق واسع، لكنها انخفضت إلى "مستويات اللامبالاة" بحلول 1953. قد لا يكون الروس منبوذين على المستوى اليومي بعد عام أو اثنين من انتهاء الحرب في عصر الاهتمام قصير الأمد هذا، بغضّ النظر عمّن يفوز عسكرياً. سيستمر هذا الموقف فقط في أوكرانيا، إذ لن تنسى المدن المدمرة والجنود القتلى لأجيال.

كيف كان ريغان سيعامل بوتين لو عاصره؟

يأتي الثمن الحقيقي عبر الاضطرار إلى البدء مجدداً، ليس من الصفر، بل من حطام جهودنا لبناء دولة جديدة بعد سقوط الشيوعية. كل ما فعلناه منذ الأيام التي تلت 1991، عندما كانت الأسوار تتهاوى ويبدو العالم مستعداً لاحتضاننا، قادنا إلى هذا: صواريخ على أرصفة خاركيف، وانفجارات تدوي في شوارع كييف الفارغة، وقطارات اللاجئين التي تحمل البؤس غرباً.

إلى أين يفرّ المرء من جبل الركام ذاك؟ ليس لدي إجابة جيدة. كل ما يمكنني فعله هو أن أدندن لنفسي أغنية "كيندرهيم" (Kinderhymne) لبيرتولت بريخت وهانز إيسلر، الأغنية التي أرادها كثير من الألمان ذات يوم كترنيمة للبلاد الموحدة. رغم أن بريخت لم يتخلَّ عن شيوعيته، قد تكون هذه الأغنية ما يميز مرحلة ما بعد بوتين بالنسبة إلينا معشر الروس، فلْنُغنِّها آملين..

أن يقلع الناس عن الجفول

من جرائم نستحضر ذكراها

أن يمدّ الناس أيديهم بصداقة

كما يفعلون تجاه الآخرين

لأننا سنجعله أفضل

دعونا نحرس وطننا ونحبه

نحبه كأعز بلد لنا

كما يحب الآخرون أوطانهم