هل يتفادى الاقتصاد العالمي تجربة السبعينيات؟ وما هي الأضرار؟

سوق الخضار والفواكه في مدينة تارلاك في الفلبين يوم 24 فبراير 2022. ارتفاع أسعار السلع على مستوى العالم يؤرق الحكومات، في وقت تدفع الحرب الروسية على أوكرانيا الأسعار إلى مزيد من الصعود
سوق الخضار والفواكه في مدينة تارلاك في الفلبين يوم 24 فبراير 2022. ارتفاع أسعار السلع على مستوى العالم يؤرق الحكومات، في وقت تدفع الحرب الروسية على أوكرانيا الأسعار إلى مزيد من الصعود المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يمتلك الاقتصاد العالمي فرصة مناسبة لتجنّب تكرار جولة كاملة من الركود التضخمي بالطريقة نفسها على غرار ما شهدته فترة السبعينيات من القرن الماضي. ويتعلق هذا الأمر إلى حد ما، بما سيصدر من أخبار سارة.

أدى الصعود التاريخي في أسعار السلع الأساسية عقب غزو روسيا لأوكرانيا، والذي جاء بمثابة إضافة إلى التضخم المرتفع الناجم عن فترة تفشي "جائحة كورونا"، إلى بحث المستثمرين وخبراء الاقتصاد عن أوجه التماثل مع أزمات الطاقة التي وقعت قبيل أربعة عقود، والتباطؤ الاقتصادي الذي امتد لفترة زمنية طويلة في أعقابها.

اقرأ أيضاً: كيف تهدد الحرب في أوكرانيا الانتعاش الاقتصادي في العالم؟

قال موريس أوبستفيلد، كبير خبراء الاقتصاد السابق لدى صندوق النقد الدولي، إنَّ لدى المستثمرين والخبراء كل الحق، في الشعور بالقلق. وأضاف: "كلما طالت المدة الزمنية للأزمات المتواصلة"؛ زاد احتمال أن تتعرض الاقتصادات لـ"شيء مماثل لتجربة فترة السبعينيات من القرن المنقضي".

اقرأ المزيد: من أمريكا إلى الأسواق الناشئة.. 10رسوم بيانية ترصد موقف الاقتصاد العالمي

بصفة عامة؛ ما تزال هناك إمكانية لتفادي هذا المصير، بحسب ما يرى معظم خبراء الاقتصاد. بيد أنَّ أسباب تفكيرهم بهذه الطريقة غير مشجعة على الإطلاق، بالنسبة إلى الشركات والعمال.

ضعف النمو

ربما يكون ضعف النمو الاقتصادي، أو ربما يكون الركود، هو الثمن المدفوع للسيطرة على ارتفاع معدلات التضخم، في ظل ضعف نمو الاقتصادات الناشئة بشكل خاص.

اقرأ أيضاً: صندوق النقد الدولي: كورونا مازال الخطر الأكبر على الاقتصاد العالمي

قال كازو موما، الذي كان في السابق رئيساً للجنة السياسة النقدية في بنك اليابان المركزي: "يتعيّن أن نشعر بالقلق حيال تباطؤ النمو الاقتصادي الكبير على مستوى العالم"، أكثر من التضخم المنفلت.

يعود ذلك الأمر بطريقة جزئية إلى أنَّ البنوك المركزية، على غرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، تعلمت دروساً مستفادة من معدلات التضخم التي دامت فترة طويلة خلال السبعينيات، وذلك بطريقة كافية لمنع الانحدار في هذا "الطريق المظلم" مرة ثانية، بحسب ما ذكر مارك زاندي، كبير خبراء الاقتصاد في شركة "موديز أنالاتيكس".

يقول زاندي: "إنَّهم على استعداد لدفعنا للوقوع في الركود في توقيت مبكر كبديل عن الخوض في سيناريو الركود التضخمي والكساد الأكثر سوءاً فيما بعد".

اقرأ المزيد: صندوق النقد يُخفِّض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي من 4.9% إلى 4.4%

يتمثل السبب الأساسي الآخر الذي يجعل خبراء الاقتصاد لا يتوقَّعون تكرار ما حدث في فترة السبعينيات، في أنَّ العمال لن يكونوا قادرين على المساومة على زيادة رواتبهم، كما قاموا بذلك في تلك الفترة.

دور النقابات

على صعيد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أحجمت النقابات العمالية بطريقة هائلة عن القيام بدورها. حتى في ألمانيا، حيث تلعب النقابات العمالية دوراً أكبر، هناك حالة من الحذر حالياً إزاء ممارسة الضغوط للحصول على مكاسب كبيرة في الأجور.

يعني ذلك وجود احتمالية أقل لتكرار ما يطلق عليه ظاهرة حلزونية الأجور-الأسعار، والتي كانت عاملاً أساسياً لتسجيل معدلات تضخم مرتفعة في فترة السبعينيات من القرن الماضي. كما يترك الأسر عرضة لخطر ضيق المعيشة بطريقة كبيرة، مع إخفاق في التماشي مع الأسعار العالية في محلات الأسواق المركزية أو محطات الوقود.

ما تزال هناك أسباب لتصفح كتب التاريخ سريعاً. شهدت فترة السبعينيات من القرن الماضي موجتي صعود مزدوج في أسعار الطاقة ذات صلة بحظر منظمة "أوبك" لصادرات النفط في سنة 1973، والثورة الإيرانية عقب ذلك بـ6 أعوام.

تجاوزت أسعار النفط خلال الأسابيع التي أعقبت توجيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوامر ببدء اجتياح قواته أوكرانيا، 130 دولاراً للبرميل، علاوة على ارتفاعات في الأسعار على نطاق أوسع بكثير. تعتبر روسيا المنتج الرئيسي للسلع الأساسية، بدءاً بالقمح والأسمدة ووصولاً إلى النيكل، وقد أحدثت عمليات فرض العقوبات بقيادة الولايات المتحدة، هزة في تلك الأسواق.

مشكلة التضخم

خلال فترة السبعينيات والفترة الحالية؛ ضربت الأزمات الاقتصادات التي كانت تعاني بالفعل من مشكلات تعزز من معدلات التضخم. مثلاً، أظهرت أحدث البيانات، أنَّ مؤشر أسعار المستهلك في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 7.9% خلال شهر فبراير مقارنة بالسنة الماضية، وهو الرقم الأعلى الذي سجله منذ سنة 1982. وتتوقَّع "بلومبرغ إيكونوميكس" بلوغ مستوى ذروة يصل إلى نحو 9% خلال شهر مارس الجاري أو شهر أبريل المقبل.

أسباب ارتفاع الأسعار

هناك أيضاً العديد من مصادر ارتفاع التضخم. في السبعينيات؛ تم التخلي عن معيار الذهب، مما أدى إلى تخفيض قيمة الدولار، وتأثيرات متبقية لبرامج التحفيز الخاصة بفترة الستينيات. حتى الأنشوجة البيروفية، وهي عنصر أساسي في علف الماشية، كان لها دور عندما أسفر الانهيار في كميات الصيد سنة 1972، الناجم عن ظاهرة النينو المناخية، عن صعود أسعار الأعلاف ولحوم الأبقار.

خلال السنة الماضية، حفّزت تداعيات وباء "كوفيد-19" على خطوط الإمداد المنهكة، وعمليات الإنفاق الحكومي الهائلة، والسياسة النقدية المُيسرة، صعود الأسعار. كانت أوروبا بصدد مواجهة أزمة طاقة فعلياً حتى قبيل وقوع الغزو الروسي.

يعد استهلاك الطاقة الأقل بكثير في الاقتصادات المتقدّمة واحداً من بين أوجه الاختلاف مقارنة بما كان عليه الوضع في ذلك الحين.

يقول بول دونوفان، كبير خبراء الاقتصاد العالمي في "يو بي إس ويلث مانجمنت" (UBS Wealth Management): "يبلغ استهلاك النفط كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، مقداراً أقل بكثير، مع تحسّن في كفاءة استهلاك الطاقة أيضاً". ولا يقتصر الأمر على الطاقة فقط: "نستهلك أيضاً قدراً أقل من السلع الأساسية. يشكّل القمح 20% فقط من تكلفة رغيف الخبز".

برغم ذلك، ربما تتغير بعض هذه الأرقام، خلال الأزمة الراهنة.

عبء الطاقة

في قارة أوروبا، التي تحصل على النصيب الأكبر من النفط والغاز الروسيين، سيكون على الأرجح "عبء تكلفة الطاقة" على الاقتصاد، هو الأعلى منذ فترة السبعينيات من القرن الماضي، بحسب أليكس برازير، المسؤول السابق في بنك إنجلترا المركزي، والذي يشغل حالياً منصب العضو المنتدب في معهد "بلاك روك إنفستمنت".

تعني الجولة الأخيرة الناجمة عن ارتفاعات الأسعار في السلع الأساسية، زيادة في صعوبة تحقيق التوازن بالنسبة إلى مسؤولي البنوك المركزية، الذين يتوجب عليهم إجراء عملية توفيق بين مخاطر التضخم المتواصلة، وتباطؤ النمو، أو قلب مساره.

على صعيد الولايات المتحدة، على الأقل، ما تزال هناك توقُّعات لدى المستثمرين بزيادة سعر الفائدة الأساسي بمقدار ربع نقطة مئوية من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي خلال السنة الجارية، مع بدء الأسبوع المقبل. وتشير توقُّعات خبراء الاقتصاد في "سيتي غروب" إلى أنَّه عند نقطة ما؛ سيرفع البنك المركزي سعر الفائدة الأساسي بمقدار نصف نقطة مئوية.

قيود حكومية على الأسعار

قالت إيزابيلا ويبر، الخبيرة الاقتصادية في جامعة "ماساتشوستس أمهرست"، إنَّ الاعتماد على بنك الاحتياطي الفيدرالي للسيطرة على الأسعار، ربما تنجم عنه أضرار اقتصادية في غنى عنها. وأوضحت أنَّه من المفترض وجود نقاش جاد يتعلق بالقيود الحكومية على أسعار السلع الأساسية.

تسبّب هذا الاقتراح في انتقادات لاذعة كردِّ فعل من قبل خبراء الاقتصاد التقليديين عندما طرحت ويبر ذلك الأمر للمرة الأولى خلال شهر ديسمبر الماضي. ويعود ذلك بطريقة جزئية إلى ذكريات القيود المفروضة على الأسعار في فترة السبعينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة. بيد أنَّها أوضحت أنَّ الموقف أكثر صعوبة في الوقت الحالي، في ظل صعود أسعار الغذاء والطاقة.

توجد مؤشرات تدل على أنَّ صنّاع القرار الأساسيين، في الحكومة، لديهم حرص على عدم تكرار الأخطاء التي وقعت في فترة السبعينيات، عبر ترك الأسعار والأجور ترتفع.

في الولايات المتحدة، وجّه الرئيس الأمريكي جو بايدن تحذيراً للشركات من مغبة التلاعب بالأسعار. عندما أعلن الحظر على واردات النفط القادمة من روسيا يوم الثلاثاء، قال بايدن، إنَّ إدارته ستراقب قطاع البنزين للبحث عن أي دلائل على حدوث "ارتفاعات في الأسعار يُبالغ فيها، أو عبر تضخيم الأرباح".

الأجور والنقابات

على صعيد الأجور، شهدت دول عدة -على غرار الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- تراجعاً لافتاً في القوة التفاوضية منذ فترة السبعينيات من القرن الماضي، إلى حد أنَّ العمال لا يمتلكون قدرة كبيرة على المساومة من خلالها. تظهر ألمانيا، حيث بقيت النقابات العمالية تتمتع بقوة أكبر نسبياً، نموذجاً جلياً يقدّم القليل من الدروس المستفادة.

في أعقاب أزمة النفط التي تعود لسنة 1973؛ تصدّت النقابات العمالية للتضخم الذي وصل إلى 8% تقريباً، عبر المطالبة برفع الأجور بنسبة مكوّنة من رقمين. أسهم ذلك في تعريض الاقتصاد لركود هو الأسوأ منذ فترة الحرب العالمية الثانية، والقضاء على التوظيف الكامل عملياً.

في الوقت الراهن، تتوجه النقابات العمالية وأصحاب العمل نحو الحكومة طلباً للمساعدة. مارست "نقابة عمال المعادن" (IG Metall)، التي تعد أكبر اتحاد عمالي في ألمانيا، ورابطة اتحاد أصحاب العمل المتمثلة في "اتحاد أرباب العمل بقطاع الصناعات الهندسية المعدنية والكهربية" (Gesamtmetall)، عبر بيان صدر في 4 مارس الجاري، ضغوطاً من أجل اتخاذ "حزمة شاملة من التدابير" بهدف التصدي للتضخم.

الإعانات الحكومية

تعتمد دول أخرى على غرار فرنسا وإسبانيا أيضاً على السياسة المالية من أجل التخفيف من أزمة تصاعد معدلات التضخم، ومن خلال تقديم الإعانات لمساعدة الأسر التي لديها فواتير تضخم أكثر ارتفاعاً. يؤيد بعض خبراء الاقتصاد أيضاً تطبيق مقاربة مماثلة في الولايات المتحدة.

تمثل كل هذه الأمور، إضافات جديدة إلى الاقتصاد العالمي الذي بات يتمتع بقدرة أكبر على الصمود بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع في فترة السبعينيات من القرن الماضي، بحسب كريستوفر سمارت، كبير الخبراء الاستراتيجيين العالميين في شركة "بارينغز" (Barings). إذ لديه اعتقاد بأنَّه على الأرجح، ستكون أي مدة زمنية للركود التضخمي قصيرة الأجل.

برغم ذلك؛ أسفر غزو روسيا لأوكرانيا "عن حدوث أزمة حقيقية، ستتواصل على مدى أعوام مقبلة، وربما لعقود من الزمن"، على حدّ قوله.