مهاجرون فنزويليون يعودون إلى الوطن مع تبني مادورو الرأسمالية

يتجه المهاجرون جنوباً نحو بوليفيا
يتجه المهاجرون جنوباً نحو بوليفيا المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

على مدى سنوات، دفعت المآسي المتتالية التي ألمَّت بالفنزويليين إلى مغادرة بلادهم. فبسبب التضخم الهائل، والمجاعة، وتفشي الملاريا، وانهيار الشبكة الكهربائية الذي أغرق فنزويلا في ظلام دامس لأسبوع، فرّ ستة ملايين فنزويلي من بلادهم، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث في النصف الغربي للكرة الأرضية.

لكن اليوم، يبدو أن موجة هجرة عكسية قد بدأت مع عودة عشرات الآلاف من الفنزويليين إلى وطنهم.

اقرأ أيضاً: حظر النفط الروسي يعزّز فرص الإنتاج الفنزويلي بالعودة إلى السوق

شكّل هذا التحول صدمة، لدرجة أن الفنزويليين الذين يرحّبون بالعائدين إلى أرض الوطن لا يكادون يصدقون ما يجري، إذ كانت وطأة الوباء قاسية على المهاجرين المنتشرين في شتى أصقاع الأرض، بسبب الشحّ في الوظائف، والتصاعد المتسارع في رهاب الأجانب. في غضون ذلك، وعلى عكس التوقعات، يبدو أن الوضع الاقتصادي في وطنهم الأم بدأ يستقرّ. فبعد سنوات من التدخلات الحكومية الثقيلة التي أدت إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي في الدولة الغنية بالنفط إلى جزء صغير ممّا كان عليه في السابق، أطلق الزعيم الاشتراكي نيكولاس مادورو حزمة من الإجراءات الإصلاحية المستندة إلى السوق الحرة، التي بدأت تؤتي ثمارها وتسهم في تحقيق النموّ.

اقرأ المزيد: عملة فنزويلا تستقر بعدما فقدت 99.99% من قيمتها

هذا نصر كبير لمادورو، الحاكم المستبدّ الذي خضع نظامه قبل سنوات لموجة من العقوبات الأمريكية، مشابهة لتلك التي فُرضت على حليفه المقرب فلاديمير بوتين خلال الأسبوعين الماضيين. وفي مؤشر على مدى سيطرة مادورو على السلطة اليوم، ومدى التحسن المفاجئ في المكانة المالية لفنزويلا، أرسلت إدارة بايدن مبعوثاً إلى كاراكاس هذا الأسبوع من أجل التفاوض على احتمال رفع العقوبات. وفي حال التوصل إلى اتفاق، سوف تتمكن فنزويلا من تصدير مزيد من النفط، ما سيسهم في التخفيف من وطأة فقدان براميل النفط الروسية من الأسواق العالمية، في وقت تحلّق فيه الأسعار.

أسواق مزدحمة

من شبه المستحيل إحصاء عدد العائدين بدقة، أو حتى معرفة ما إذا كانت هذه ستستمر الموجة لسنوات أو تزول في غضون أشهر، لكن الإشارات على عودتهم تنتشر في كلّ مكان في كاراكاس، سواء من خلال ازدهار سوق تأجير الشقق، أو الارتفاع الكبير في تسجيل التلاميذ في المدارس الخاصة، أو في الطرقات المزدحمة بالسيارات، بعد أن تُركت مهجورة بسبب الهجرة الجماعية، أو أيضاً في العدد الكبير من المتاجر المطلية حديثاً التي تفتح أبوابها أمام الزبائن للمرّة الأولى. يظهر الأمر أيضاً في البلدات الصغيرة على الحدود الغربية مع كولومبيا. فلسنوات طويلة كان السير في اتجاه واحد نحو الخارج، لكن اليوم يقول السكان المحليون إنّ عدد العائدين إلى الوطن بات يوازي عدد المغادرين.

أليخاندرو ريفاس هو أحد أولئك العائدين.

تحدث ريفاس فيما كان ينتظر زحمة الغداء في مطعم البيتزا الصغير الذي يملكه في وسط كاراكاس في أحد أيام الأسبوع العادية، وقال: "لن أختار الهجرة مجدداً". عاد ريفاس البالغ من العمر 34 عاماً في العام الماضي من جمهورية الدومينيكان، إذ كان يدير مطعماً هناك أيضاً، وقد افتتح مطعمه "مامانديني" -ويعني "مفلس" باللغة المحكية المحلية- في ديسمبر الماضي مع ثلاثة شركاء.

تحسن أوضاع العمال

بعد تجاوز التحديات التي ترافق الاستثمار في جوّ اقتصادي منهار، مثل اضطراره إلى إعادة بناء الرصيف أمام المطعم، تلقى ريفاس مفاجأة سارّة حين رأى نسبة مبيعات البيتزا (نحو 12 فطيرة بيتزا في اليوم) وأطباق اللازانيا (30 طبقاً) والمعكرونة (33 طبقاً). لا ينتمي زبائنه إلى طبقة النخبة، بل هم في الغالب من العمال العاديين، الذين باتوا فجأة قادرين على إنفاق خمسة دولارات لتناول وجبة طعام في الخارج.

كان مثل هذا الأمر مستحيلاً حين غادر ريفاس البلاد عام 2015. ولكن بعد بضع سنوات قام مادورو بواحدة من أهم خطواته الإصلاحية، تمثلت في تبني الدولار الأمركي عملة غير رسمية في البلاد. واليوم بات عدد متزايد من المواطنين يتلقون رواتبهم بالدولار، كما تجري الصفقات التجارية بالدولار. وقد لعب ذلك دوراً رئيسياً في الحدّ من التضخم وتحسين بعض القدرة الشرائية التي كان العمّال قد خسروها.

يظهر التغير في الوضع المالي لسائق سيارة أجرة يدعى أليخاندرو باريتو، مدى حجم هذا التأثير.

كان باريتو قد غادر كاراكاس في الأيام الأكثر صعوبة من الأزمة الاقتصادية. في ذلك الوقت، كان بالكاد يحصل على خمسين دولاراً في الشهر من عمله سائق سيارة أجرة. انتقل إلى ليما، عاصمة ألبيرو، إذ حصل سريعاً على وظيفة في مصنع للطباعة على القمصان مقابل 350 دولاراً في الشهر. ولكن حين حلّ الوباء فقدَ وظيفته وبات يبيع الحلوى في الشارع، فعاد ليجني نحو 150 دولاراً في الشهر. وقال بصوت بائس: "كانت حياة وحيدة من دون عائلة أو أصدقاء".

لذا، ركب الحافلة إلى كاراكاس وعاد ليعمل سائق أجرة. واليوم، غالباً ما يجني نحو 350 دولاراً في الشهر مثلما كان يفعل في متجر القمصان في ليما. وقال باريتو البالغ من العمر 35 عاماً: "خيار العودة كان أفضل قرار اتخذته مؤخراً".

تغير الاشتراكية

قدرة بعض المهاجرين على تحقيق المردود المالي نفسه في وطنهم كالذي يجنونه في الخارج، تُلقي الضوء على واحدة من الغرابات الفعلية في فنزويلاً تحت الحكم الاشتراكي، فالسياسات الفردية والبيزنطية حوّلت البلاد إلى جزيرة منعزلة منيعة في وجه القوى الخارجية الأوسع.

لذا، وبينما لا تزال الاقتصادات على امتداد أمريكا اللاتينية تصارع من أجل التعافي من الانهيار الناجم عن الوباء، تحسّن الاقتصاد الفنزويلي بشكل ملحوظ. فقد توقف الناتج المحلي الإجمالي أخيراً عن التقلص، إذ يتوقع مصرف "كريدي سويس" سنة ثانية من النموّ في عام 2022، فيما تراجع معدل التضخم عن الذروة التي كان بلغها قبل بضع سنوات حين سجّل 2,000,000%. هذا التحسن لا يقتصر على الأشخاص الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، بل وحتى أولئك الذي يحصلون على عملة البوليفار، إذ تباطأت مستويات التضخم إلى وتيرة سنوية تبلغ 25% خلال الأشهر الستة الماضية، وفق مؤشر أعدته "بلومبرغ". كذلك، بدأ إنتاج النفط في التحسن أخيراً، متجاوزاً مستوى 800 ألف برميل في اليوم.

للتوضيح، لم يأتِ هذا الاستقرار إلا بعد سنوات من الانهيار الكارثي الذي عاش خلاله الملايين في عوز شديد. حسب إحدى الدراسات، يجب أن ينمو الاقتصاد بنسبة 10% سنوياً لـ18 سنة متواصلة حتى يعود إلى الحجم الذي كان عليه عام 1997، قبل عام من فوز هوغو تشافيز، سلف مادورو وقدوته، بالرئاسة للمرّة الأولى.

كذلك لا أحد يدّعي أن الأزمة الإنسانية قد انتهت أيضاً، فالآلاف لا يزالون يغادرون البلاد سنوياً، إلا أن وتيرة الهجرة تباطأت بشكل كبير، فقد انخفض التدفق الصافي إلى الخارج بنسبة 60% في العام الماضي مقارنة بمعدلات عام 2020، حسب دراسة أجرتها شركة البحوث "داتاناليسيس" (Datanalisis)، فيما ارتفع عدد العائدين بشكل كبير، بالأخص في الأحياء التي تقطنها الطبقة الوسطى قرب وسط المدينة في كاراكاس.

قال لويس فينسينت ليون، الذي قاد دراسة " داتاناليسيس"، إنّ "الناس يعودون، وهذا الأمر واضح"، ما يدفع صافي معدل الهجرة نحو الصفر (لا تنشر الحكومة الأرقام المتعلقة بالهجرة، ولم تستجِب لطلبات التعليق).

استضافت كولومبيا، الجارة الغربية لفنزويلا، العدد الأكبر من المهاجرين، إذ انتقل نحو 1.8 مليون فنزويلي للإقامة هناك، في تحول اقتصادي كبير، بعدما كان العمال الكولومبيون لعقود يجتازون الحدود نحو فنزويلا الثرية بحثاً عن فرص عمل.

إغلاقات الجائحة

معظم الوظائف التي شغلها الفنزويليون في كولومبيا كان في المحال التجارية والمطاعم والفنادق، وهي بالضبط القطاعات الأكثر تأثراً بالإغلاقات الناجمة عن الوباء. ثمّ بعد تبخر الوظائف بدأ الجزء الثاني من الأزمة المالية مع ارتفاع معدلات التضخم في كولومبيا وفي عديد من الدول الأخرى التي تستضيف المهاجرين. في تشيلي ارتفع معدل التضخم بأكثر من الضعف خلال أقل من عام إلى نسبة 7.8%، فيما ارتفع في البرازيل إلى نسبة 10.4%.

أوقدت المصاعب الاقتصادية رهاب الأجانب على امتداد المنطقة، وأصبحت المظاهرات المناهضة للمهاجرين أمراً شائعاً في تشيلي مثلاً، التي لطالما كان يُنظر إليها على أنها مكان مرحِّب بالمهاجرين الذين يواجهون المِحَن. وقد انتشر مؤخراً وسم على "تويتر" يمكن ترجمته إلى "هذه ليست هجرة، إنه غزو". وفي جزيرة ترينيداد الصغيرة على بُعد بضعة أميال فقط عن فنزويلا، أطلق خفر السواحل مؤخراً النار على مركب مليء بالمهاجرين، ما أدى إلى مقتل طفل.

مادورو الذي لاحظ هذا التحول، أطلق برنامجاً لإعادة المهاجرين، سماه "العودة إلى أرض الوطن". وحسب الأرقام الحكومية، نجح البرنامج في إعادة 28 ألف شخص عبر رحلات جوية أو بحرية. وقد حثّ مادورو في خطابه مؤخراً عبر التليفزيون الرسمي المغتربين الفنزويليين على العودة إلى الوطن، كاشفاً عن خطة لمضاعفة عدد الرحلات التي يوفرها البرنامج ثلاث مرّات. وقال: "توقفوا عن المعاناة في الخارج، وعودوا".

مسرحية سياسية

بالنسبة إلى فيكتور سوتو، الأمر لا يتعدى كونه مجرد مسرحية سياسية. فمثل كثير من الفنزويليين الذين يقيمون في الخارج، هو ليس معجباً بمادورو. مع ذلك، يخطط سوتو البالغ من العمر 37 عاماً للعودة إلى مدينة باركيسيميتو الصغيرة الضبابية في غرب كاراكاس.

يعيش سوتو في حيّ قرب البحر في ليما، تقطنه الطبقة العاملة، ويحظى بشعبية لدى المهاجرين الفنزويليين. حين وصل إلى هناك في عام 2017 كان تقريباً جميع سكان المبنى الذي يقيم فيه من الفنزويليين، لكنّ كثيرين منهم غادروا اليوم، سواء للعودة إلى الوطن أو لتجربة حظهم في دول أخرى. واليوم يشكل الفنزويليون أقل من نصف عدد السكان.

الأخبار التي ترد إلى سوتو من أصدقائه في الوطن ترسم صورة مختلفة تماماً عن فنزويلا التي تركها. فرفوف المتاجر مليئة، ولم تعُد هناك طوابير طويلة لشراء الحاجيات الأساسية. وما عاد التضخم يدمّر فوراً قيمة المال، فهو يخطط لفتح مطعم صغير في باركيسيميتو، ويأمل أن يجني منه ما يكفي من المال ليعادل الـ300 دولار شهرياً التي يجنيها من عمله بوّاباً في ليما.

يقول سوتو إنّ أولويته الكبرى هي إعالة والدته، فرؤيتها تقف في تلك الطوابير نهاراً وليلاً لشراء الطعام بالأسعار المحددة من الحكومة هو ما دفعه إلى البحث عن عمل في ليما. وقال: "في فنزويلا أعتقد أن بإمكاني أن أمنح أمي راحة البال المادية نفسها التي أؤمنها لها من البيرو". كما أنه يرغب فعلاً في العودة إلى وطنه. وقال: "بقاء مادورو في السلطة لن يمنعني من ذلك".