استثمار "BP" في روسيا مجرد "مقامرة" منذ البداية

للبيع.. نفط روسي بسعر 25 مليار دولار، أو بأفضل عرض ممكن
للبيع.. نفط روسي بسعر 25 مليار دولار، أو بأفضل عرض ممكن المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في الثامن من فبراير، وبعد تحقيق أعلى ربح ربع سنوي خلال عقد من الزمان، قدم الرئيس التنفيذي لشركة "بريتيش بتروليوم"، (بي بي BP)، برنارد لوني، دفاعاً قوياً عن العلاقات العميقة لشركته مع أكبر منتج للنفط في روسيا. لم تكن عندها الدبابات الروسية قد عبرت الحدود إلى أوكرانيا بعد. لكن مع وجود 130 ألف جندي على حدود البلاد في ذلك الوقت، كانت التوترات تتصاعد بسرعة. وكان يعني وجود حصة لشركة "بي بي" تبلغ 20% في شركة "روسنفت" (Rosneft) المدعومة من الكرملين، أنه لدى شركة النفط العملاقة التي تتخذ من لندن مقراً لها، الكثير على المحك.

اقرأ أيضاً: "بريتش بتروليوم" تدرس بيع حصتها في "روسنفت" لشركائها الروس

مرتدياً سترة بياقة على شكل حرف (V)، وقميصاً أبيض عادياً من دون ربطة عنق، عرض لوني في مقابلة تلفزيونية سبباً منطقياً بسيطاً لمواصلة عمليات شركته في روسيا: "مهمتنا هي التركيز على الأعمال التجارية... نحن نتجنب السياسة".

اقرأ المزيد: "بي بي" قد لا تجد مشترٍ لحصتها في "روسنفت" الروسية

بعد أكثر من أسبوعين بقليل، أصبحت السياسة أمراً لا مفر منه. ومع استيعاب حقيقة وقوع الغزو الروسي غير المبرر في الساعات الأولى من يوم 24 فبراير، سرعان ما أدرك المسؤولون التنفيذيون في شركة "بي بي" أنهم بحاجة إلى إنهاء علاقة الشراكة مع "روسنفت"، التي هي ثمرة 30 عاماً من الاستثمار في روسيا.

اقرأ أيضاً: نزوح جماعي للشركات الأجنبية من روسيا بعد غزو أوكرانيا

طلب حكومي

في اليوم الذي أعقب الغزو، اجتمع مجلس إدارة "بي بي" – بعضهم شارك بشكل شخصي، والبعض الآخر افتراضياً - في مقرها الرئيسي في لندن. في الساعة الخامسة مساءً، انغمس المسؤولون التنفيذيون، بما في ذلك لوني، في اجتماع طارئ مع وزير الأعمال البريطاني كواسي كوارتنغ، الذي أوضح أن الحكومة تريد منهم إنهاء العلاقة مع "روسنفت".

يقول جوناثان إلكايند، الباحث البارز في "مركز سياسة الطاقة العالمية" (the Center on Global Energy Policy)، والمسؤول السابق في وزارة الطاقة الأمريكية: "يميل العالم إلى أن يبدو مختلفاً جداً بعدما يقوم بلد ما بغزو بلد مجاور".

اجتمع مجلس الإدارة مرة أخرى يوم الأحد، 27 فبراير، ووافق على أن لوني والرئيس السابق لشركة "بي بي"، بوب دودلي، سيستقيلان من مجلس إدارة "روسنفت". ستبيع "بي بي" حصتها في الشركة وفي كل المشاريع الأخرى في روسيا. وبعد إبلاغ قيادة "روسنفت"، كشفت "بي بي" عن القرار للعلن.

تكلفة مرتفعة

كم هي التكلفة على مساهمي شركة "بي بي"؟ حوالي 25 مليار دولار، أي أكثر من ربع القيمة السوقية للشركة. ومع وجود احتمال ضئيل في العثور على مشترٍ أو جعل الكرملين يدفع ثمن الأسهم، اضطرت شركة "بي بي" للاعتراف بأنها على الأغلب ستفقد القيمة الكاملة لاستثماراتها.

اقرأ المزيد: "توتال إنرجيز" لن تستثمر في أي مشروعات روسية جديدة

يقول جيمس هندرسون، الذي يرأس أبحاث تحول الطاقة في "معهد أكسفورد لدراسات الطاقة"، ومؤلف كتاب سيصدر قريباً عن تاريخ "روسنفت": "من أي زاوية تنظر إلى الوضع، ستجد أنه ليس جيداً". وهو يوافق الرأي القائل إن هناك فرصة ضئيلة للغاية، لأن تجد شركة "بي بي" طريقاً لاستعادة أموالها.

مغادرة الشركات

أطلق قرار شركة "بي بي" المفاجئ موجة مغادرة شركات الطاقة من روسيا. في عالم النفط والغاز، غادرت كل من "رويال داتش شل"، و"إكوينور" (Equinor) النرويجية، ثم تلتهما شركة "إكسون موبيل". بعد ذلك بيوم واحد، كان وضع شركة "توتال إنرجي" الفرنسية مبهماً أكثر، إذ قالت إنها لن توفر رأس المال لمشاريع تطوير جديدة، لكنها تمسكت في النهاية باستثماراتها.

إلى جانب قطاع الطاقة، نمت قائمة الشركات التي قطعت العلاقات أو أوقفت أنشطتها التجارية مع روسيا، بما في ذلك شركات مثل "أبل"، و"هارلي ديفيدسون"، (Harley-Davidson)، و"ماستركارد".

يرى مراقبو الصناعة أن هذه الخطوة كانت أكثر من مجرد مبادرة علاقات عامة. يقول إلكايند: "هذه مبادرة ذات فضيلة بثمن باهظ جداً... الواقع هنا هو أن صانعي القرار الحكوميين ورجال الأعمال التنفيذيين على حد سواء، كان عليهم مواجهة الواقع غير المرغوب فيه بتاتاً، بأن غزو روسيا لأوكرانيا" غيّر كل شيء.

البداية بعد الحقبة السوفيتية

جون براون، الذي كان آنذاك أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة "بي بي"، فكر للمرة الأولى في إمكانية الاستثمار في روسيا، أثناء رحلة عمل إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1990. وبعد خمس سنوات، أصبح براون الرئيس التنفيذي، وهو المنصب الذي شغله لمدة 12 عاماً.

استغرق الأمر حتى عام 1997 لتقوم "بي بي" بأول استثمار لها في البلاد، حيث دفعت 500 مليون دولار مقابل حصة بلغت 10% في "سيدانكو أويل" (Sidanco Oil)، وهي شركة إنتاج رئيسية يديرها أحد أفراد الأوليغارشية، وهو فلاديمير بوتانين. سرعان ما تعثر الاستثمار بسبب استخدام بعض المديرين المحليين لقوانين الإفلاس الغامضة لبيع الأصول بسعر رخيص لمصلحتهم الخاصة، لكن براون كان قادراً على إنقاذ ما تبقى من الأعمال من خلال ضخ المزيد من الأموال في روسيا.

استثمار بـ8 مليارات دولار

قام براون بضخ مبلغ 8 مليارات دولار إضافي مقابل 50% من أسهم شركة النفط التابعة لميخائيل فريدمان "تي إن كيه" (TNK). أدى ذلك إلى إنشاء شركة "تي إن كيه-بي بي" (TNK-BP)، وهي مشروع مشترك مربح جعل من شركة "بي بي" أكبر مستثمر أجنبي في روسيا، وثاني أكبر شركة إنتاج خاصة للنفط والغاز في العالم، بعد شركة "إكسون موبيل".

كتب براون في مذكراته، أنه بحلول الوقت الذي غادر فيه شركة "بي بي" في عام 2007، كانت الشركة قد استردت استثماراتها في عملية "تي إن كيه"، وكانت في طريقها لكسب أربعة أضعاف الأموال التي وضعتها في المشروع.

رغم ذلك، كانت تلك الزيجة مليئة بالمطبات. ففي النهاية، توترت العلاقة بين المالكين الروس وشركة "بي بي"، إذ أن الشركاء من أفراد الأوليغارشية، كانوا غير راضين عن أمور عدة، بما في ذلك التكاليف المتضخمة لتزويد الموظفين المغتربين المرتبطين بشركة "بي بي" برواتب عالية ونفقات معيشية باهظة، وشنوا حملة مطولة ضد رئيس المشروع المشترك، دادلي، مستخدمين الدعاوى القضائية وفحوصات للعمالة والضرائب، بهدف ممارسة الضغط من أجل تغيير الصفقة. في النهاية، هرب دادلي من روسيا، قائلاً إنه تعرض لـ"مضايقات مستمرة".

حصة في "روسنفت"

وجدت شركة "بي بي" والشركاء الروس، حلاً من خلال تنظيم صفقة معقدة حصلت بموجبها شركة النفط العملاقة في لندن على 12.5 مليار دولار وحصة 19% في "روسنفت" مقابل حصتها في "تي إن كيه". خرج أفراد الأوليغارشية بالمال مقابل حصتهم.

حصلت شركة "بي بي" مرتين في العام، على أرباحها من شركة "روسنفت"، التي يرأسها إيغور سيتشين، الشريك المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من أن "بي بي" كان لها تأثير ضئيل على عمليات "روسنفت" اليومية، إلا أن الحصة أضافت ملايين البراميل إلى احتياطياتها، وشكلت حوالي ثلث إنتاجها اليومي.

للوهلة الأولى، يبدو التأثير على شركة "بي بي" من سحب الاستثمارات الروسية الذي يلوح في الأفق، شديداً. شكلت "روسنفت" ما يقرب من نصف احتياطيات الشركة. خصصت "بي بي" قسماً في نتائجها ربع السنوية لحصتها من أرباح "روسنفت". لكن هذا كان مجرد أمر محاسبي: فلم تكن لدى شركة "بي بي" إمكانية الوصول إلى براميل النفط والغاز هذه، ولم تحصل على حصة من الأرباح الفصلية من الشركة الروسية الكبرى، ولم يكن عليها المساهمة بأموال في الإنفاق الرأسمالي لشركة "روسنفت" كل عام. بدلاً من ذلك، كانت إلى حد كبير مستثمراً سلبياً، يجمع توزيعات أرباح مجزية.

يقول هندرسون: "لو لم يكن هذا خروجاً قسرياً، فقد تكون شركة (بي بي) قادرة على بيع أسهمها مقابل شيء ما، لكن ذلك لن يكون سهلاً على الإطلاق... لمجرد أن لديها حصة 19% في شركة حكومية كبرى".

خسارة في كل الأحوال

الآن يبدو أن احتمال الحصول على أفضل سعر لحصتها في "روسنفت" أصبح موضع نقاش. يقول بيراج بورخاتاريا، المحلل في "رويال بنك أوف كندا": "إن الوضع الحالي يترك فعلياً تصور القرار بعيداً عن أيدي (بي بي) - أي أن السوق قد يكون أكثر تسامحاً بشأن عدم حصول (بي بي) على قيمة عادلة لقاء حيازتها". يضيف بورخاتاريا: "نشك في أنهم كانوا سيحصلون على القيمة العادلة لأي عملية بيع في ظل معظم الظروف... أعتقد بأن السوق سيتجاهل الانخفاض غير النقدي، وسيركز على خسارة الأرباح". يتوقع "رويال بنك أوف كندا" أن تكون خسارة توزيعات الأرباح ملياري دولار سنوياً، لكن بورخاتاريا يقول إن ذلك "أكثر من أن يعوَّض من خلال ارتفاع أسعار السلع الأساسية".

كقاعدة عامة، مقابل كل دولار يرتفع فيه السعر القياسي لخام برنت، تضيف شركة "بي بي" 340 مليون دولار إلى أرباحها قبل الضرائب. منذ أن أعلنت شركة "بي بي" عن خروجها من شركة "روسنفت"، ارتفع النفط بمقدار 29 دولاراً للبرميل.

إنها المقامرة

يمكن أن يساعد الانقسام أيضاً في الطموحات الخضراء لشركة "بي بي"، إذ أنها واحدة من مجموعة شركات الطاقة الأوروبية الكبرى التي تعِد بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول منتصف القرن. ولطالما أثار استياء المجموعات البيئية والمستثمرين البيئيين والاجتماعيين وحوكمة الشركات، واقع أن أهداف الشركة البريطانية لم تأخذ في الحسبان الانبعاثات الناتجة عن حصتها في "روسنفت". الآن، مع خروج شركة النفط الروسية من الصورة، تبدو إستراتيجية التحول في مجال الطاقة لشركة "بي بي" أكثر مصداقية.

يقول هندرسون: "نعم، على المرء أن يأخذ بعين الاعتبار أن الشركة قد تتكبد خسائر محتملة تبلغ 25 مليار دولار، "لكن إذا نظرت إلى السجل الخاص باستثمارات شركة (بي بي) في روسيا على مدى السنوات الثلاثين الماضية، ستجد أنه سجل إيجابي، وليس سلبياً، على الرغم من الألم على المدى القصير".

هذا بالتأكيد أكثر مما ساوم عليه براون عندما أخذ اقتراحه باستثمار 500 مليون دولار في روسيا لمجلس إدارة شركة "بي بي" قبل عقود.

كتب براون في مذكراته، أنه قال لمجلس الإدارة في ذلك الوقت: "يجب أن نعتبرها مقامرة بحتة... يمكن أن نخسر كل شيء".