الطلب على "العمل عن بُعد" مستمر.. رغم بدء عودة الحياة إلى طبيعتها

رسم: لاريسا هوف/ بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عندما أجرى نيكولاس بلوم، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، دراسته الأولى بخوص العمل عن بُعد في عام 2004، كان المجال الأكاديمي راكداً، حيث كان هذا الشكل من أداء الوظائف مقتصراً على أقل من 5% من مجموع أيام العمل، ما يعني أن الموضوع برمته كان ذا أولوية منخفضة بالنسبة إلى كليات إدارة الأعمال وقادة الشركات، إلى أن جاء وباء "كوفيد-19"، وغيَّر كل شيء. يقول بلوم: "البداية كانت في شهر مارس 2020". اليوم، وبعد مرور عامين على بداية جائحة كورونا، لا يزال بلوم يتلقى مكالمتين أو ثلاث يومياً من شركات، ومستشفيات، ومدارس، وهيئات حكومية، وجامعات، تبحث عن إرشادات.

اقرأ أيضاً: إذا كان مديرك نكداً.. فربما يمكنك لوم الوباء على ذلك

يصارع قادة الأعمال في كل مكان، مع انحسار متحور "أوميكرون"، لجعل العمل من المنزل من سمات مؤسساتهم. فهل يجب أن يبتعدوا تماماً، ويلجؤوا إلى توفير أموال العقارات، بغض النظر عن إضرارهم في المقابل بالإنتاجية أو الثقافة؟ أو هل يطالبون بعودة الموظفين إلى دوام كامل في أماكن العمل تشجيعاً للعمل الجماعي، مع مخاطرتهم كذلك بفقدان الكوادر أمام المنافسين الأكثر مرونة؟ بالنسبة إلى الكثيرين، يعتبر نظام العمل الهجين، أكثر إقناعاً، لكنه مزعج في الوقت ذاته.

اقرأ المزيد: انحسار "كورونا" يثير جدلاً حول جدوى نظام "العمل الهجين"

ينشغل الأساتذة الذين يدرسون العمل من المنزل بالتشاور مع المديرين التنفيذيين، وجمع البيانات وإدارة المشاريع البحثية، وكتابة الكتب، وإدخال الاكتشافات في دورات ماجستير إدارة الأعمال، ما يعني حصول الطلاب على نتائج حديثة. تقول تسيدال نيلي، الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال ومؤلفة كتاب "ثورة العمل عن بُعد: النجاح من أي مكان": "يكاد صندوق الرسائل الواردة الخاص بي ينفجر يومياً. والآن أكثر من ذي قبل لأن الناس يدركون أن العمل عن بعد لن ينتهي، وهم قلقون بشأن القيام بذلك بالطريقة الصحيحة".

اقرأ أيضاً: "لاغارد" ترى استمرار العمل من المنزل جزئياً بعد الجائحة

العمل الهجين

تقول نيلي، نقلاً عن بيانات استقصاء الموظفين، إن 70% على الأقل من العاملين في صناعة المعرفة، يريدون أن يوفر مكان العمل نظام العمل الهجين، ولذا فإن تقديم مثل هذه الترتيبات أصبح أمراً حاسماً لجذب الكوادر والمحافظة عليها، باعتباره اتجاهاً شاملاً للإقلاع عما يُعرف باسم "الاستقالة الكبرى" المستمرة، في حين يتوقع نحو 20% من الموظفين أو من أسمتهم نيلي بـ"السكان المحليين عن بعد"، والذين انضموا إلى الشركات أثناء تفشي الوباء، مواصلة العمل من المنزل، حتى بعد أن يصبح "كوفيد-19" مستوطناً.

يؤدي ذلك إلى مجموعة من التحديات المعقدة: فهل يجب على الموظفين اختيار الأيام التي يعملون فيها من المكتب؟ كيف يجري تنسيق الجداول، بحيث يكون الأشخاص المناسبون في المكان ذاته وفي الوقت ذاته؟ وكيف يمكنك التأكد من أن المديرين لا يلجؤون إلى التمييز بين العاملين عند الجدولة، أو عندما يتعلق الأمر بالترقيات وزيادة الرواتب؟

تقول ليندا غراتون، أستاذة ممارسة الإدارة في كلية لندن لإدارة الأعمال، إنها وضعت كتابها "إعادة تصميم العمل: كيفية تحويل مؤسستك وجعل العمل الهجين للجميع"، لمساعدة الشركات على معالجة هذه الأسئلة، وإنها أجابت عن هذه الأسئلة في أقل من عام. وتسببت قصة غراتون على غلاف مجلة "هارفارد بيزنيس ريفيو" في عددها لشهري مايو- يونيو 2021، في أن يأتي عدد من الناشرين إليها ويقولون "انظري، أنت بحاجة إلى قول المزيد حول كيفية القيام بذلك"، على حد قولها.

أربع خطوات

يحدد الكتاب عملية من أربع خطوات لمساعدة الشركات على فهم التحديات التي تواجهها وتخيل مناهج جديدة واختبار تلك الأفكار وتنفيذها. وتقول غراتون: "لم أر أبداً مثل هذه الفرصة المذهلة لإعادة تصور العمل خلال الثلاثين عاماً التي قضيتها في كلية لندن للأعمال. وقد لا يتكرر هذا الأمر مرة أخرى".

يقول الأكاديميون مثل غراتون، إننا نشهد، على حد تعبيرها "أكبر تحول عالمي في بيئة العمل لمدة قرن". وتبدو أنها الأكثر طلباً من المتشككين مثل بيتر كابيلي، أستاذ الإدارة في كلية وارتون في جامعة بنسلفانيا. يتحدث كابيلي في مقالاته ومحادثاته وكتابه "مستقبل المكتب: العمل من المنزل، والعمل عن بُعد، والخيارات الصعبة التي نواجهها جميعاً"، عن أنه على الرغم من رغبة معظم الموظفين في العمل عن بُعد، إلا أن هذا قد لا يكون دائماً في مصلحة الشركة للسماح لهم بذلك. ولم تحل الشركات الأمريكية هذا التوتر بعد.

خلال العام الماضي، تصدرت شركات التكنولوجيا، ومن بينها "تويتر" و"فيسبوك" التي أصبحت الآن "ميتا بلاتفورمز"، العناوين الرئيسية بعد إعلانها أن العديد من الموظفين يمكنهم العمل عن بُعد بشكل دائم. ولا تزال البنوك، بما في ذلك "غولدمان ساكس" و"جيه بي مورغان تشيس آند كو"، تخطط لإعادة معظم موظفيها إلى مكاتبهم في أقرب وقت ممكن. وفي هذه الأثناء، تحدثت شركة "سيلز فورس دوت كوم" قبل عام عن السماح للموظفين بالعمل عن بعد تماماً، ولكن يبدو أنها تراجعت في نوفمبر بعد مقال كتبه برينت هايدر، الرئيس التنفيذي للشركة، على موقعها الإلكتروني بعنوان "لماذا تقوم (سيلز فورس) بإعادة موظفيها إلى مكان العمل". ما هي الطريقة التي تميل إليها معظم الشركات في الوقت الحالي؟ يقول كابيلي: "أعتقد بأن معظم الشركات تتجاهل المشكلة، وتأمل أن تختفي".

ترقب وحيرة

لا يرن هاتف كابيلي أبداً مع تبني أسلوب الانتظار والمراقبة هذا. يقول كابيلي عبر البريد الإلكتروني: "أنا في حيرة من أمري، وهذا ليس جيداً عندما يتعلق الأمر بالاستشارات". ويضيف: "يلجأ الأشخاص الذين يريدون فعل شيء إلى مستشارين ليخبرونهم بأنها فكرة جيدة. كانت لدي قصة غلاف على مجلة (هارفارد بيزنيس ريفيو) التي صدرت في الخريف الماضي، ولم أسمع شيئاً عنها إلا من الأكاديميين".

يعتبر موضوع العمل عن بُعد وما يتعلق بالإنتاجية، من أبرز النقاشات الحاصلة اليوم في أوساط الخبراء. يقول معظم الموظفين إنهم أكثر إنتاجية في العمل من المنزل، كما تظهر الاستطلاعات، إلا أن أصحاب الأعمال منقسمون بشأن هذا السؤال. أظهر بلوم، في دراسة أجريت في عام 2015، أن العاملين في مركز اتصالات صيني كانوا أكثر إنتاجية بنسبة 13% عند العمل من المنزل، لكن كابيلي يحذر من أنها ليست بيئة مكتبية نموذجية، ويقول: "لم أر في الولايات المتحدة دليلاً ثابتاً على زيادة أو نقص الإنتاجية".

تشق مثل هذه المناقشات طريقها إلى الفصول الدراسية. تقول غراتون: "العمل عن بعد هو مجرد جزء من كل شيء نقوم بتدريسه الآن".

دعا برنامج مستقبل العمل الخاص بها في كلية لندن للأعمال مؤخراً، رئيس قسم التكنولوجيا في شركة استشارية هندية للتحدث عن كيفية تأثير التكنولوجيا على مكان العمل، وجرى تنظيم فصول دراسية، بعضها بحضور أشخاص والبعض الآخر كان افتراضياً. تقول غراتون: "لا أعتقد بأن أياً من كليات إدارة الأعمال تعرف إلى أين سيقودنا هذا، ولكن هناك قدر كبير من التجارب الجارية".

حسم الجدال

سيتمكن الأكاديميون من التحول من استطلاعات الرأي والنظريات والتنبؤات اليوم، إلى تحليل بيانات العالم الحقيقي على مدار السنوات القليلة المقبلة، ومع استمرار التجربة العالمية للعمل عن بُعد. يعد هذا الاحتمال مثيراً بالنسبة إلى بلوم، الذي يتوق إلى معرفة ما إذا كان ما يسميه "الاختيار أو التنسيق" سينتصر: هل سيختار الموظفون الأيام التي يأتون فيها كل أسبوع؟ أم أن المسؤولين هم من سيقررون أنه يمكن للناس العمل من المنزل يومي الإثنين والجمعة، على سبيل المثال، ولكن يجب عليهم الحضور أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس؟ يقول بلوم: "توقعي هو أن معركة التنسيق ستنتصر، لأن الناس عندما يأتون إلى المكتب يريدون أن يكونوا مع زملائهم".

بينما تجري مناقشة هذه الأسئلة بشكل مركز، يقتنع بلوم بأن الجدال بين الحضور شخصياً والعمل عن بعد ونظام العمل الهجين قد تمت تسويته. فبعد التحدث إلى أكثر من 300 شركة خلال العامين الماضيين، توصل بلوم إلى بعض الاستنتاجات التي تؤكد قراره بتركيز طاقته على مثل هذا الموضوع المثير مع التداعيات الهائلة على الاقتصاد العالمي. ويؤكد بلوم أن السماح بالعمل من المنزل لا يرفع الإنتاجية بشكل طفيف فحسب، بل يحسن من معدلات الاحتفاظ بالموظفين بشكل ملحوظ، ما يمنح المؤسسات الحافز الذي تحتاجه للسماح للموظفين بتسجيل الدخول. ويقول بلوم: "لقد انتهت تلك المعركة، وفاز نظام العمل الهجين".