بقيادة باول.. الفيدرالي الأمريكي يستعد لهبوط اضطراري وسط ضباب الحرب

لوحة مركبة لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول تصوره كطيار أخرج رأسه من نافذة طائرة ويرفع إبهامه بإشارة ثقة أن الأمور ستسير على ما يرام
لوحة مركبة لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول تصوره كطيار أخرج رأسه من نافذة طائرة ويرفع إبهامه بإشارة ثقة أن الأمور ستسير على ما يرام المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

في يناير من العام 2009، قاد الكابتن تشيسلي سولينبرغر "سولي" طائرته المعطلة التابعة لـ"أميركان ايرلاينز" بأمان إلى هبوط اضطراري في المياه المتجمدة لنهر هدسون ونجح في إنقاذ جميع ركابها البالغ عددهم 155، فيما أطلق عليه اسم "معجزة على نهر هدسون".

يوشك جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على هبوط اضطراري صعب، يحاول فيه كبح التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته في 40 عاماً دون أن يصاب الاقتصاد بالركود بسبب رفع سعر الفائدة الذي يحتاج أن يقوم به بالقدر الكافي لتهدئة الطلب فقط دون أن يتسبب في القضاء عليه. نجح الاحتياطي الفيدرالي في تحقيق تلك المهمة بشكل مثالي مرة واحدة فقط في الفترة 1994-1995 عندما نجح ألان غرينسبان في هبوط اضطراري سلس وقدم مثالاً يُحتذى به.

أصبحت المهمة أكثر صعوبة عقب الغزو الروسي لأوكرانيا الذي تسبب في اضطراب أسواق المال والطاقة العالميين إلى جانب الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز والذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع التضخم. كما قد يؤدي ارتفاع فواتير الطاقة -بالتزامن مع تراجع أسواق الأسهم والائتمان- إلى استنزاف طلب المستهلكين وزيادة فرص حدوث ركود اقتصادي.

يقول مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في "موديز أناليتكس": سيكون الأمر صعباً للغاية. فالاقتصاد يهبط نحو المدرج بسرعة عالية للغاية مصحوباً برياح شديدة نتيجة الوباء وضباب كثيف بسبب حالة عدم اليقين الناجمة عن التوترات الجيوسياسية.

عقب نحو سنتين من خفض سعر الفائدة إلى الصفر استجابة لتداعيات الجائحة، بات من المؤكد أن يعلن باول وباقي أعضاء "اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة" عن رفع معدل الإقراض الرئيسي قصير الأجل ربع نقطة مئوية في 16 مارس.

ترى إيلين زينتنر الخبيرة الاقتصادية في "مورغان ستانلي" أن تلك الخطوة ستكون الأولى ضمن سلسلة من خطوات رفع الفائدة هذا العام، بهدف موازنة الطلب بشكل أفضل مع العرض المتاح وتخفيف الضغط المتصاعد على أسعار كافة السلع كلحوم البقر والسيارات المستعملة.

كيف سهلت حرب بوتين وظيفة جيروم باول؟

لماذا تخطئ البنوك المركزية في توقعاتها بشأن التضخم؟

كيف سيؤثر سحب السيولة المالية الكبيرة في الأسواق؟

يتزامن رفع الفائدة مع تخفيض لم يتم تحديده بعد في الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي والتي تبلغ حالياً 8.9 تريليون دولار نتيجة شرائه حجماً كبيراً من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري لدعم الاقتصاد. سيؤدي هذا التخفيض إلى انحسار السيولة في النظام المالي واحتمال حدوث تداعيات غير مؤكدة على أسواق السندات والأسهم.

يكمن الخطر أنه في حال عدم استجابة التضخم بالانحسار نتيجة تلك التحركات الأولية، سيندفع صانعو السياسة النقدية إلى زيادة سعر الفائدة إلى مستويات مرتفعة للغاية تتسبب في دفع الاقتصاد والأسواق المالية إلى الركود.

يقول المحافظ السابق في الاحتياطي الفيدرالي لورانس ليندسي الذي يتوقع بأكثر من 50% حدوث انكماش في نهاية 2023: عندما تخطئ الاتجاه بشكل مؤلم، يتعين عليك بنهاية المطاف تحمل التداعيات الثقيلة للتحول إلى الاتجاه الآخر.

رغم الإشادة بدوره الذي أسهم في منع تحول الركود بسبب كوفيد-19 إلى كساد محقق، يتعرض باول لانتقادات من الجميع بسبب السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة. حيث دفعه كلٌّ من الجمهوري ريتشارد شيلبي من ألاباما والديمقراطي كاثرين كورتيز من نيفادا للإقرار بأن الاحتياطي الفيدرالي أخطأ في التعامل مع ارتفاع الأسعار خلال جلسة استماع في اللجنة المصرفية في "مجلس الشيوخ" انعقدت في 3 مارس. في اعتراف نادر لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي ينتظر المصادقة على توليه رئاسة الاحتياطي الفيدرالي لفترة ثانية، قال باول: "تأخرنا في إدراك أنه كان يجب علينا التحول في وقت سابق".

حذر وزير الخزانة السابق لورانس سمرز منذ شهور من تخلف الاحتياطي الفيدرالي بشكل كبير عن المسار. أشار سمرز -وهو أحد واضعي السياسة الديمقراطيين لفترة طويلة ومساهم في تلفزيون بلومبرغ- إن خطر بدء ركود خلال الثلاثين شهراً القادمة عقب الانتخابات الرئاسية لعام 2024 أصبح "مؤكداً بنسبة 50%".

لا يوجد تعريف محدد للهبوط السلس رغم الاتفاق على نطاق واسع بأن ما حدث في 1994-1995 يعتبر نموذجاً، حيث تمت مضاعفة أسعار الفائدة على مدار عام ونجح الاحتياطي الفيدرالي وقتها بقيادة غرينسبان في خفض التضخم، مع الحفاظ على سوق العمل وهو ما تمّ اعتباره بعد ذلك التوظيف الكامل. وقد أسهم ذلك الإنجاز في تمهيد الطريق لست سنوات من التوسع الاقتصادي بدعم من الطفرة الإنتاجية بقيادة الإنترنت.

رغم نجاح الاقتصاد في تجنب الركود لكن العديد من مستثمري السندات تعرضوا لخسائر حادة. وكان من بين الضحايا مقاطعة أورانغ في كاليفورنيا التي رفعت دعوى إفلاس هو الأكبر لمجلس بلدي في تاريخ الولايات المتحدة. كذلك كانت المكسيك من بين الضحايا، حيث اضطرت لخفض قيمة عملتها وسعيها لسداد ديون الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي.

يقول آلان بليندر نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في ذلك الوقت، إن الفيدرالي حقق عدداً من الإنجازات "بطريقة سلسة جداً" على مدار النصف القرن الماضي عندما عانى الاقتصاد في عام 2001 مما أسماه "ركود" -انكماش طفيف وقصير للغاية– عقب رفع أسعار الفائدة الفيدرالية قبل ذلك بعامين وانفجار فقاعة سوق الأسهم التي شكّلتها شركات الإنترنت.

معرفة التوقيت المناسب

يعتقد باول أن الاحتياطي الفيدرالي قد غيّر مساره في أوقات عديدة بسبب أحداث خارجة عن سيطرته، وهو نفس ما حدث في عام 2020 قبل تفشي الوباء عندما كان الاقتصاد مستعداً لمواصلة توسع قياسي طويل، بعد سلسلة من تحركات أسعار الفائدة، إلى أن تم وقف الأنشطة الاقتصادية لاحتواء كوفيد.

يقول دونالد كوهن، صاحب الخبرات الطويلة والمشارك في حملة التشديد النقدي لـلاحتياطي الفيدرالي عام 1994، إن مفتاح نجاح الجهود المبذولة في ذلك الوقت ترتكز إلى استباق المركزي الأمريكي التحرك قبل أن يرتفع التضخم بشكل ملحوظ، وهو ما لم يحدث هذه المرة.

بعد سنوات من عدم الوصول لمعدل التضخم المستهدف البالغ 2%، تبنى الاحتياطي الفيدرالي سياسة نقدية جديدة في أغسطس 2020. وقال آنذاك، إنه لن يتصرف بشكل استباقي لاحتواء التضخم لكنه سينتظر حتى يصل إلى 2% وأنه على استعداد لتجاوز ذلك المستوى بشكل طفيف لبعض الوقت بما يسمح لسوق العمل بالحصول على الوقت الكافي للتعافي.

يقول ناثان شيتس المسؤول السابق في الاحتياطي الفيدرالي والذي يشغل الآن منصب كبير الاقتصاديين العالميين في "سيتي غروب": "عندما كان الفيدرالي يعيد هيكلة سياساته كان يفكر في عالم مختلف تماماً عما نشهده اليوم حيث نشهد مجموعة من صدمات العرض والطلب وتضخم أسعار المستهلكين بنسبة تصل إلى 7.5%".

يقول كوهن نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق والذي أصبح حالياً زميلاً بارزاً في "معهد بروكينغز" المؤسسة الفكرية التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، إنه من المهم معرفة توقيت وقف تشديد الائتمان حتى يتم تحقيق هبوط سلس، ويتطلب ذلك توقع الوضع الذي من المرجح أن يستقر فيه التضخم.

التضخم وعدم اليقين

يتفق معظم الاقتصاديين مع باول على تراجع التضخم هذا العام في ظل تحرر سلاسل التوريد وتباطؤ النمو الاقتصادي عن وتيرة العام الماضي المرتفعة. ولكن من المحتمل أن يبقى التضخم رغم التراجع مرتفعاً عن هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2% في ظل الانحسار الشديد في سوق العمل، حيث يتعين على الشركات دفع أجور أعلى للحصول على ما تحتاج من العاملين والاحتفاظ بهم ما سيدفعهم إلى رفع الأسعار لتعويض ارتفاع تكاليف العمالة.

اعترف باول للنواب في 2 مارس بأن الأمر "سيستغرق بعض الوقت" حتى يتمكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي من السيطرة على التضخم. وقال باول، إن الاحتياطي الفيدرالي سيبدأ بحذر شديد في سحب الدعم الذي كان يقدمه للاقتصاد في ظل التداعيات المالية للهجوم الروسي على أوكرانيا وما يحمله الوضع من "حالة شديدة من عدم اليقين". لكنه أضاف أن الفيدرالي مستعد لاتخاذ إجراءات أكثر قوة إذا لم ينخفض ​​التضخم كما هو متوقع.

كيف تهدد الحرب في أوكرانيا الانتعاش الاقتصادي في العالم؟

العريان: الحرب في أوكرانيا قد ترفع التضخم الأمريكي إلى 10%

يعتقد آلان بليندر أن باول وباقي أعضاء الاحتياطي الفيدرالي لا تزال لديهم فرصة للوصول إلى هبوط "سلس" رغم تعقد الأمور بسبب غزو أوكرانيا. يتوقع بليندر أن تتلاشى العديد من العوامل التي تتسبب في ارتفاع الأسعار بشكل تلقائي، بغض النظر عن التأثير غير المعروف على أسواق الطاقة مما يمكّن الاحتياطي الفيدرالي من كبح جماح التضخم دون الحاجة لتشديد السياسة النقدية بشكل أكثر قوة. لكن الأستاذ في "جامعة برينستون" أشار إلى أنه إذا انتهت حرب بوتين بضرر دائم بالاقتصاد العالمي فإن ذلك يقلل من احتمالات نجاح جهود الاحتياطي الفيدرالي، ويقول: "سيكون الأمر صعباً جداً جداً. إنهم يحاولون الهبوط بالطائرة في طقس متقلب للغاية ليس كما حدث في التسعينيات".

الأميركيتان