الذكرى العاشرة للربيع العربي: لا سبيل لإهدار عَقد آخر من الزمن!

 تجمهر للعلمانيين احتجاجا على العنف الديني والسياسي في تونس في شارع الحبيب بورقيبة في تونس
تجمهر للعلمانيين احتجاجا على العنف الديني والسياسي في تونس في شارع الحبيب بورقيبة في تونس المصدر: رويترز
 فريد بلحاج
فريد بلحاج

فريد بلحاج نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ 2018. وبين عامي 2012 و 2017، عمل بلحاج مديرا إقليميا لدائرة المشرق بالبنك الدولي

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عشرة أعوام مضت على اندلاع انتفاضة الشعب التونسي ضدّ النّظام المستبدّ الذي كان يحكمه.

خرج التونسيون والتونسيّات إلى الشارع مندّدين بالنظام وسياساته، وفساد مؤسساته، وداعين إلى توفير الشغل والحرية والكرامة. فكانت تلك صرخة الملايين من الشباب الذين أحبطهم اِستِشراء المحسوبيّة، وعدم تكافؤ الآفاق الاقتصادية، والتّكميم الخانق لأي صوت يغرّد خارج السِّرب.

ورغم أنه لم يسبق أن أدت احتجاجات سلمية إلى تغيير نظام حُكْمٍ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلّا أنّ هَبّة الشارع التونسي سرعان ما لقيت صدًى في أرجاء المنطقة، إذ أدت موجات الأمل الأُولى هذه – والتي أطلق عليها البعض وصف "الربيع العربي"– إلى سقوط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن. على أن يتّضح بعدها للجميع أن هذه الموجة انحرفت عن مسارها لتدخل دوامة من خيبة الأمل، والانتهازية السياسية، والاستبداد، والعنف، وحتى إلى الحروب الأهلية.

بعد انقضاء عَقدٍ من الزمن على هذه الأحداث الأليمة، ماذا عن الكرامة والحرية؟ وماذا عن الوظائف وفرص العمل التي طالب بها المحتجّون؟ هل أصبح الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم أفضل حالاً مما كان عليه قبل "الربيع العربي"؟

رغم الطّموحات وانفتاح بعض الأنظمة السياسية، وحتى مع ظهور قدر أكبر من الحرية في إبداء الآراء المعارضة، فضلاً عن الدعم الكبير الذي قدّمه المجتمع الدولي، إلا أن بلدان المنطقة فشلت، بدرجات متفاوتة، خلال العقد الماضي في تحقيق إصلاحات اقتصادية عميقة.

فباستثناء بعض الحالات، تعاني بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تراكم ديون لا تطاق بحكم اعتمادها على الإعانات الخارجية. وفي حين أظهرت بعض بلدان المنطقة، ولا سيما دول الخليج، تحسّناً في مناخ الأعمال، لا تزال القدرة التنافسية للمنطقة دون مستوى إمكاناتها.

طبقاً لاستطلاع رأي جديد أجرته الجارديان ويوغوف، ورغم عدم ندم أغلبية من شملهم الاستطلاع في السودان، وتونس، والعراق، ومصر على التّغيير الذي لَحِق أنظمة الحُكمِ في بلدانهم، فإن أكثر من نصف المشاركين في سوريا، واليمن، وليبيا، والسودان اعتبروا أن حياتهم صارت في ظلّ الأنظمة الجديدة أسوأ ممّا كانت عليه.

في تونس، التي يُقال إنها البلد الأقرب لإنجاح تجربتها الديمقراطية، اعتبر 50% من الذين شمله الاستطلاع أن حياتهم باتت اليوم أسوأ، في حين لم يعرب سوى قرابة ربع المستطلعة آراؤهم عن رضاهم عمّا آلت إليه أحوالهم المعيشية. كما أظهر الاستطلاع تبدد آمال الشعوب بمستقبل أفضل، إذ عبّر أغلب المشاركين في اليمن، وسوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، وتونس عن تخوّفهم من أن يواجه أطفالهم مستقبلاً عَصِيبا من جرّاء عواقب ما يسمّى بالرّبيع العربي.

هذه الصورة القاتمة لمستقبل المنطقة ليست حتميّة إذ لا بدّ من التفاؤل بغدِ أفضل. لكن ما لم يتحقق تغيّر جذري وشامل، فمن المرجح أن تُهْدِرَ المنطقة عَقداً آخر من الزمان.

بناء عقد اجتماعي جديد

ربما أصبح اليوم السخط الذي أفضى إلى تحولات هائلة قبل عقد من الزمان أقوى من أي وقت مضى. فالآفاق مسدودة في وجه الشباب، والفرص أمامه منعدمة. ولتجنب إهدار عقد آخر من الزمان، يتعين على حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تصلح العقد الاجتماعي القديم والمتهالك، وان يعاد النظر في الدور الحقيقي للدولة التي تلعب حتى الان ومع الاسف دورا مكبِّلا وهدّاما للاقتصاد

فبحسب المعطيات الديموغرافية الحالية، تحتاج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى توفير 300 مليون فرصة عمل جديدة بحلول عام 2050. وهو مدى بعيد قريب، بحُكمِ التحدّي المهول الذي يواجهه اصحاب القرار؛ فطبقاً لتقديرات البنك الدولي، يتعين على بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – عاجلا وليس آجلا – البدء في خلق 800 ألف فرصة عمل شهرياً فقط لمواكبة الأعداد المتزايدة من الساعين لدخول سوق العمل.

لا حكومات المنطقة يمكنها توفير هذه الملايين من الوظائف الجديدة، ولا القطاع العام يستطيع استيعاب تلك الطاقات الشابة. الحل الوحيد يكمن في إنعاش الاقتصاد لاستيعاب تلك الفئة من الشباب من خلال:

- فتح المزيد من الأبواب أمام القطاع الخاص

- ترسيخ الشفافية، والمساءلة، والحوكمة في إدارة الشأن العام

- تعزيز اضطلاع الحكومة بدورها باعتبارها جهة تنظيمية تراعي مبدأ تكافؤ الفرص.

لكن هناك تحديات أخرى كبيرة تواجه المنطقة على كافة المستويات التعليمية والصحية والاجتماعية. فقطاع التعليم، في كثير من أنحاء المنطقة، لا يزال حبيس المناهج القديمة وأساليب التدريس البالية. وبينما كشفت جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) وبشكل مؤلم، مكامن الضعف في الأنظمة الصحية، فإن برامج الحماية الاجتماعية هي الأخرى آخذة في التصدّع.

وبحسب آخر تقرير لمؤشر رأس المال البشري الصادر عن البنك الدولي فإن الأطفال المولودين اليوم في المنطقة ستكون إنتاجيتهم أقل من النصف (57%) مما كان بإمكانهم تحقيقه لو استفادوا من خدمات تعليمية وصحية متكاملة.

ومن عجيب المفارقات، أنه على الرغم من أن بناء رأس المال البشري منوط بالدولة، فثمة غياب كبير في العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدورها القيادي في هذا المجال. ويتعين على الحكومات – إذا أرادت أن تضطلع بالدور المناط بها – أن تبذل جهوداً هائلة لتوفير ما يحتاجه شبابها للمنافسة والنجاح في بيئة باتت العولمة تسيطر عليها بشكل كبير.

ولا بد أن يتعدى الأمر الاستثمار المالي في تلك المجالات، فالمنطقة تنفق فعلياً جزءاً كبيراً من إجمالي ناتجها المحلي على الصحة والتعليم، ولكن دون تحقيق نتائج مُرضية. وجلّ ما تحتاجه المنطقة هو استغلال مواردها بشكل رشيد، وتحسين حوكمة نظمها الصحية والتعليمية وفتح المزيد من الفرص أمام النساء وتمكينهن اقتصادياً. فمن بين المفارقات في المنطقة أن النساء أكثر تعليماً وأفضل أداءً في الأوساط الأكاديمية مقارنة بالرجال، إلا أن مشاركتهن في النشاط الاقتصادي لا تزال دون المستوى المنشود.

كما يتعين على حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تعيد النظر في نهجها في تناول الحيطة الاجتماعية، والتي تسعى إلى تحقيقها من خلال سياسات تعتمد على إعانات مُكلفة وسيئة التوزيع. ولطالما جنحت الدول إلى خيار يفتقد للشجاعة على الصعيد السياسي، وكارثي على الصعيد الاقتصادي، لمواجهة العقد الاجتماعي المعتلّ، وذلك عبر توفير السلع والخدمات الأساسية بأسعار ”مدعّمة“ لشراء الولاءات السياسية وضمان ”السّلم الاجتماعي“.

لقد عفا الزمان على تلك السياسات، إذ لم يعد بإمكان الحكومات الاستمرار في دفع ذلك الثمن، ولم تعد شعوب المنطقة – ولا سيما شبابها – تقبل تلك المقايضة التي تسعى إلى كتم تظلّماتها وتكبيل طموحاتها.

وكان الفشل الذريع لهذا العقد الاجتماعي البالي والمعتلّ إلى حد كبير، من بين الأسباب التي أدت إلى الاضطرابات التي شهدتها المنطقة قبل 10 سنوات. و آن الأوان لاعتماد سياسات تخفف الأعباء التي لم تعد الدولة قادرة على تحمّلها، وتعيد توجيه الموارد الشحيحة نحو تعزيز رأس المال البشري وإعداد شباب اليوم لوظائف الغد.

دور الحكومة في الاقتصاد

في الاقتصادات السليمة، يكون الدور الرئيسي للحكومة هو تنظيم الاقتصاد لتوفير مناخ يساعد القطاع الخاص ورواد الأعمال على التطور والنمو. وينطوي تنظيم الاقتصاد على ثلاث ركائز أساسية، هي:

  • وضع قواعد واضحة وثابتة
  • تكريس بيئة تنافسية لمنع الممارسات الاحتكارية
  • تمكين النظام القضائي من فرض سيادة القانون.

هذه هي الأسس التي يقوم عليها أي اقتصاد سوق مفتوح والتي من شأنها جلب الاستثمار الأجنبي والمحلي على حد سواء.

ورغم التحديات، هناك بصيص من الأمل يتمثل في سعي بعض البلدان لتعديل مسارها التنموي، على غرار المغرب الذي انتهج طريق الانفتاح على العالم، والاستثمار بكثافة في الحداثة، في الوقت الذي يعمل فيه على حماية استقرار الاقتصاد الجمعي. وفي ظل تركيز أغلب بلدان العالم اليوم على الإدارة القصيرة الأمد لمكافحة جائحة فيروس كورونا، كان المغرب ينفذ إصلاحات رئيسية جديدة من شأنها أن تساعد في تحويل مستقبل البلد وشعبه.

ولكن دعونا نكون واضحين: فربما كانت مؤشرات الاقتصاد الجمعي مضللة اذ يمكن أن تخفي الحقائق الاجتماعية القاسية وضعف الحوكمة، كما كان الحال في تونس قبل 10 أعوام. هذا ما يدعو للمضي قدما في العديد من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في مختلف أنحاء المنطقة، واعطاء مؤشرات قوية على عدم التسامح على الإطلاق مع مظاهر الفساد المتفشية الى اليوم للأسف.

ومما يؤسف له أيضاً، أن هذه السياسات الإيجابية المشار اليها اعلاه تشكل الاستثناء وليس القاعدة. فلا تزال قطاعات كبيرة من اقتصادات المنطقة تدار بطريقة سيئة من قِبلِ هيئات مملوكة للدولة وجاهلة تماماً بواقع السوق. ويحمِّل المشهد الاقتصادي الراهن في المنطقة عبئاً ثقيلاً على دافعي الضرائب، ويغلق الباب أمام العديد من مستثمري القطاع الخاص.

المقصود هنا لا يعني بالضرورة خصخصة تلقائية للمؤسسات المملوكة للدولة. إن ما تحتاجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو فتح الأسواق للمنافسة، وإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، وإنعاش القطاعات الاقتصادية التي كانت ولا تزال تتسم بعدم الكفاءة أو الخمول. كما يتعين على الحكومات أن تتحلى بالشجاعة السياسية والشرعية اللازمة لشرح هذه الإصلاحات، واعتماد سياسات اجتماعية تحمي الفقراء والفئات الأكثر ضعفاً.

عقد بلا قيود

على الرغم من مرور 10 أعوام على أهم تحول في مستهلّ هذا القرن، لم يتم التوصل إلى حل واحد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا تزال عوامل الإحباط التي أشعلت فتيل ”الربيع العربي" مهيمنة وتتفاقم نتيجة تزايد العنف، والاضطرابات الاجتماعية – وفي كثير من الأحيان- بسبب وجود حكومات أكثر ضعفاً وفساداً. ولا يزال العديد من الشباب، الذي يحمل الكثير منه شهادات جامعية، يحلم بمستقبل أفضل في أماكن أخرى من العالم.

ولنتجنب السقوط في غياهب عقد آخر مهدور، فلا مناص من إطلاق نداء للصحوة يتردد صداه في مختلف أنحاء المنطقة – من "المحيط إلى الخليج". وتتلخص المهمة المباشرة هنا في إفساح المجال لمؤسسات القطاع الخاص، والتغلب على مقاومة تحرير الاقتصاد، وتمكين الشباب من الحصول على الفرص اللازمة التي تلائم إمكاناته المهولة. كما يتوجّب على الحكومات سن قوانين عادلة، واعتماد لوائح تنظيمية ملائمة، وفرضها بعدالة تحرص على تكافؤ الفرص. ذلك من شأنه أن يطلق العنان لطاقات الملايين من الشباب الذين سيختارون حينها خلق الفرص وتحقيق الثروة في أوطانهم، بدلاً من الهجرة بمواهبهم خارجها، أو المجازفة بحياتهم عبر أمواج البحار المتلاطمة.

يتعين إذا على بلدان المنطقة أن تترك زمام الأمور لرواد الأعمال، والمبدعين، والمبتكرين المستعدين لخوض غمار المخاطر العالية مقابل تحقيق عوائد تؤدي إلى تحويل اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى حال أفضل مما هو عليه. ومن ثم، سيخلقون فرصاً جديدة للعمل، وسيغرسون الأمل في نفوس شباب المنطقة.

امنحوا المجال والدعم لهؤلاء، واحذوا حذوهم، وشاهدوا كيف ستبدو ملامح هذا العقد المتحرر من القيود في جميع أرجاء المنطقة.