نفاد الملاذات يعرّض ثروات المليارديرات الروس للخطر

أشخاص يقفون أمام العلم الوطني لجمهورية قبرص. في الأسابيع الأخيرة، تم نقل بعض أكبر الأصول التي يمتلكها أغنى أغنياء روسيا من قبرص في ظل العقوبات المتزايدة على روسيا ورجال الأعمال الروس الأثرياء المساندين للرئيس فلاديمير بوتين
أشخاص يقفون أمام العلم الوطني لجمهورية قبرص. في الأسابيع الأخيرة، تم نقل بعض أكبر الأصول التي يمتلكها أغنى أغنياء روسيا من قبرص في ظل العقوبات المتزايدة على روسيا ورجال الأعمال الروس الأثرياء المساندين للرئيس فلاديمير بوتين المصدر: أ.ف.ب
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إذا ألقينا نظرة خاطفة على خريطة العالم، سنجد أن قبرص بالكاد تشكل نقطة صغيرة مقارنة بالامتداد الروسي الشاسع عبر الخريطة، حيث تبلغ مساحة الجزيرة المتوسطية 0.05% فقط من حجم الدولة الأكبر في العالم، غير أنها تشكل أهمية بالغة بالـنسبة لـ0.05% من المواطنين الروس-وهم قوام النخبة في السلطة والمليارديرات. لسنوات عديدة، احتضنت قبرص نصيباً كبيراً من ثروات هؤلاء، وفي بعض الأحيان كان ما يحتفظون به في وطنهم لا يشكّل شيئاً بالمقارنة مع ثرواتهم المودعة في الجزيرة. أو على الأقل، هكذا كان الحال قبل عسكرة القوات الروسية على حدود أوكرانيا.

في الأسابيع الأخيرة، وتم نقل بعض أكبر الأصول المملوكة لأثرى أثرياء الروس من قبرص، تحت ضغط من الجهات التنظيمية التابعة للاتحاد الأوروبي التي فرضت عليهم عقوبات من جهة، ومطالب الرئيس فلاديمير بوتين بإعادة ثرواتهم إلى الوطن من جهة أخرى.

قبل أسبوعين من فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليه، نقل الملياردير الروسي فيكتور راشنيكوف حصة بقيمة 4 مليارات دولار في واحدة من أكبر شركات صناعة الصلب في روسيا من شركة وهمية في قبرص إلى بلاده خلال الشهر الماضي.

كما اتخذ قطب الصلب، أليكسي مورداشوف، خطوة مماثلة في 28 فبراير، في نفس اليوم الذي شهد فرض العقوبات عليه من قبل الاتحاد الأوروبي. غيّر مورداشوف الترتيبات الخاصة بنقل جزء من حصة بقيمة 1.5 مليار دولار في شركة " توي إية جي" (TUI AG) الألمانية للرحلات السياحية من شركة قبرصية إلى أخرى في جزر فيرجن البريطانية.

حتى قبل الحرب، كان فلاديمير بوتانين- أغنى شخص في روسيا بثروة تصل إلى 24.7 مليار دولار- ينقل أصوله من قبرص، فقد غادرت شركته القابضة الجزيرة أواخر العام الماضي لصالح منطقة اقتصادية خاصة في فلاديفوستوك، والتي كان بوتين قد أنشأها لتشجيع الأثرياء على إعادة أموالهم إلى الوطن. يذكر أن بوتانين لم تُفرض عليه أية عقوبات.

وفي حين أصبحت روسيا منبوذة بصورة متزايدة داخل النظام المالي العالمي، انحسرت خيارات المليارديرات -الذين سعوا حثيثاً إلى حماية ثرواتهم في الخارج- بشأن أماكن الاحتفاظ بأموالهم بشكل مفاجئ. تُعدّ إعادة الأصول إلى بلد يتجه صوب الانهيار الاقتصادي، ووضعها في متناول الرئيس بوتين بمثابة اقتراح مخيف. لكن إبقاءها في الولايات المتحدة، أو المملكة المتحدة، أو في الولايات القضائية التابعة للاتحاد الأوروبي، مثل قبرص أو منطقة البحر الكاريبي، يُعدّ أمراً مخيفاً كذلك، حيث تواجه الأصول الروسية مخاطر التجميد أو الحصار أو ربما المصادرة.

اقرأ أيضاً: أثرى أثرياء روسيا يحصون خسائر بلغت 83 مليار دولار

في هذا الشأن قال رونين بالان الأستاذ والخبير في الملاذات الضريبية في جامعة "سيتي" بلندن، إن أفضل رهان للأثرياء الروس يتمثل في اختيار مكان محايد نسبياً. وبالفعل عزّزت الحرب في أوكرانيا حجم الأموال الروسية المتدفقة إلى دبي، والتي حثت حكومتها على إيجاد حل "سلمي" للصراع بين الجارتين. أيضاً، تشكل هونغ كونغ ملاذاً محتملاً آخر، على الرغم من أن التأثير الممتد للرئيس شي جين بينغ في الصين يمثل تهديداً محتملاً للهدف الأساسي وراء نقل الروس أموالهم إلى الخارج. كما تشمل المواقع المحايدة الأخرى موريشيوس وجزر المالديف.

وبحسب بالان يكمن "السبب الرئيسي وراء قيام الأثرياء في روسيا بسحب الأموال هو حماية أصولهم. الأمر لا يتعلق بالتهرب الضريبي كما نعتقد في الغرب".

يُصنّف حوالي 20 روسياً من بين أغنى 500 شخص في العالم، حيث تبلغ قيمة ثرواتهم مجتمعةً 261 مليار دولار، وقد استغل أكثر من نصفهم الشركات القابضة القبرصية للاحتفاظ بأصولهم الرئيسية، وفقاً لتقارير تنظيمية.

لعقود، ربطت روسيا نفسها بثقافة الجزيرة واقتصادها منذ دعمها للأغلبية القبرصية اليونانية في البلاد أثناء انقسامها. وازدهرت الجزيرة المتوسطية كملاذ بفضل عوامل اقتصادية وسياسية من بينها الضرائب المنخفضة، وعضوية الاتحاد الأوروبي، والنظام القانوني القائم على القانون العام الإنجليزي.

من جهةٍ أخرى، يتمتع عدد قليل من المليارديرات بحيازات في جزر فيرجن البريطانية، أو في مكان آخر في منطقة البحر الكاريبي، والتي تشتهر بالسرية الصارمة.

يستغل ما لا يقل عن ثلاثة مليارديرات آخرين شركات أخرى في أوروبا، إذ يستخدم ميخائيل فريدمان وبيتر أفين وجيرمان خان-الذين يخضعون جميعاً لعقوبات مفروضة من قبل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة- شركات لوكسمبورغ للسيطرة على مجموعة "ليتر ون" (LetterOne) للاستثمار، والتي تمتد حيازاتها عبر قطاعات الطاقة وتجارة التجزئة والاتصالات.

في الشهر الماضي، تولى رومان أبراموفيتش زمام السيطرة على حصته البالغة 445 مليون دولار في شركة "إيفراز" (Evraz) لصناعة الصلب، ومقرها في لندن، ونقل أسهم شركة قابضة في جزر فيرجن البريطانية إلى حيازته بشكل مباشر، لكن المملكة المتحدة فرضت عقوبات على أبراموفيتش في 10 مارس.

المملكة المتحدة تجمد أصول أبراموفيتش.. وتضع مستقبل "تشيلسي" على المحك

للحرب ميادين أخرى.. كيف حوّل الغرب الفن والرياضة سلاحاً ضد روسيا؟

قد تواجه تلك الخطوات من قبل الأثرياء الروس بعض التحديات مع تصاعد وتيرة العقوبات، حيث قالت السلطات الألمانية، يوم الجمعة، إنها منعت موردشوف من نقل بعض أصوله إلى جزر فيرجن البريطانية أثناء التحقيق في الصفقة. من جانبه، وصف مورداشوف حرب أوكرانيا بأنها "مأساة"، وقال، إنه لا يفهم سبب خضوعه للعقوبات.

رفض المتحدثون باسم موردشوف وأبراموفيتش التعليق على الأمر، كما لم يرد ممثل عن راشنيكوف على طلبات التعليق. ففي الوقت الذي نقل فيه حصته في "ماغنيتوغورسك أيرون أآد ستيل وركس" (Magnitogorsk Iron & Steel Works)، قالت الشركة، إن قبرص أصبحت "أقل جاذبية" للاستثمارات الروسية، وأن راشنيكوف يريد الاستفادة من المزايا القانونية والتنظيمية في وطنه.

أضافت الشركة في بيان أصدرته يوم 18 مارس، أن العقوبات المفروضة على راشنيكوف "غير عادلة ولا تستند إلى أي أساس".

بالتأكيد، تدعم العقوبات مطالبة بوتين للأثرياء بإعادة ثرواتهم المترامية إلى الوطن بطريقة ما. يعود إنذار الرئيس الروسي الأخير إلى غزو القرم في عام 2014، عندما ساعدت جولة أولية من العقوبات على الأثرياء الروس المتنفّذين والمليارديرات في دفع تشريعات القوانين المتعلقة بما يسمى بمكافحة نقل رأس المال أو المصالح التجارية إلى حسابات خارجية في البلدان الأجنبية المعروفة بأنها ملاذات ضريبية.

وفي هذا الإطار، استخدم غينادي تيموشينكو، الذي عاقبته الولايات المتحدة في عام 2014 على خلفية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، شركة من لوكسمبورغ لضمان مصالحه في شركة "نوفاتك" (Novatek) الروسية المنتجة للغاز قبل أكثر من عقد، غير أن منتجة الغاز الروسية وضعت قيد التصفية في عام 2017- قبل فترة وجيزة من فرض الولايات المتحدة عقوبات على المليارديرات الروس الآخرين، بمن فيهم أوليغ ديريباسكا- والآن، يدير تيمشينكو ثروته إلى حد كبير من خلال الشركات الروسية، وفقاً لملفات الإيداعات. لكن المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضا عقوبات على الملياردير الروسي في الشهر الماضي.

قالت بايفي كارهونين، الأستاذ في جامعة "آلتو" في مدينة إسبو، فنلندا، والتي تدرس استخدام روسيا للكيانات الخارجية، إنه حتى مع نضوب خيارات إخفاء الأموال، فإن المبلغ الذي يوجهه الروس إلى المراكز الخارجية إجمالاً يمكن أن يرتفع بشكل كبير؛ فاقتصاد البلاد ليس في حالة سقوط حر فحسب، بل إن الاستثمار في شركة خارجية يمكّن المستثمر من تنظيف آثاره الروسية بشكل فعال. أضافت: "إذا تمكنوا من إخفاء أصلهم الروسي بطريقة ما، فيمكنهم الاستثمار في شركات أخرى".

أما بالان من جامعة "سيتي"، فقال، إن الدول التي انضوت تحت لواء الاتحاد السوفييتي سابقاً في آسيا الوسطى، مثل كازاخستان-وإن لم تكن ملاذات خارجية بشكل رسمي- إلا أنها يمكن أن تصبح قنوات غير رسمية لتمرير الأموال التي تغادر روسيا. لقد سارع الروس من الطبقة الوسطى، بالفعل، إلى فتح حسابات مصرفية في البنوك الصربية بغية الحفاظ على قدرتهم على نقل أموالهم إلى الخارج.

أيضاً، قد تنتهي الأموال الروسية بالوصول إلى أمريكا. وتعتقد لاكشمي كومار، مديرة السياسات في مؤسسة "النزاهة المالية العالمية" غير الربحية، أن هياكل الشركات القابضة يمكن أن تحجب هوية أو جنسية المستفيد، وأنها تسمح للمالكين بتجنب القواعد المتعلقة بالعقوبات على الملاك المستفيدين كذلك. وتقول كومار ،إن الحد الأدنى من متطلبات الإفصاح حول ملكية الشركات الخاصة والممتلكات في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يزيد من احتمالية تمكّن الأموال الملوثة من "إعادة تسويق نفسها تحت أسماء جديدة، بشكل أساسي، واستغلال الثغرات".

وتلفت كومار إلى أنه لكي تنفذ الولايات المتحدة والدول الأخرى العقوبات بشكل فعّال، فلا يمكنها أن تصبح "عن غير قصد ملاذاً آمناً".