بعد حرب أوكرانيا..هل حان الوقت لمحاصرة الأموال السرية في الملاذات الآمنة؟

ثروات المليارديرات الروس تفتح المجال مجدداً لمواجهة العالم السري للأموال
ثروات المليارديرات الروس تفتح المجال مجدداً لمواجهة العالم السري للأموال المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

عندما كنتُ أحاول تتبّع الشبكة المتداخلة للشركات والأشخاص حول شركة المدفوعات الألمانية "وايرد كارد" (Wirecard AG)، قبل وبعد انهيارها في عملية احتيال تقدّر بمليارات اليورو عام 2020؛ أمضيتُ ساعات كثيرة، وأنفقتُ قدراً كبيراً من المال في البحث عن السجلات المؤسسية بعدد من الدول.

هذا الجهد جعلني أكثر دراية من معظم الناس بشأن المعايير المتباينة لسجلات الملكية والبيانات الأخرى المُتبعة بعدد من الدول. فعلى سبيل المثال؛ يتسم السجل في سنغافورة بأنَّه شامل، لكنَّه مكلّف في الاستخدام. أما في الهند؛ فهو منخفض التكلفة، وغالباً ما يكون جيداً جداً، فيما تعد السجلات في لوكسمبورغ وألمانيا هزيلة نسبياً، لكنَّها مفيدة إلى حد ما. وفي المملكة المتحدة، يمكن الوصول إليها مجاناً وهي مفيدة جداً، لكنَّها تفتقد بانتظام إلى المعلومات المطلوبة أيضاً.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تُعزز مكافحة غسيل الأموال في أوروبا؟

مشكلة السجلات

ما تزال هناك مشكلة كبيرة، حتى في أفضل السجلات، وتتمثل غالباً في حالة الغموض التي تشوب المساهم صاحب الحصة المسيطرة، المعروف أيضاً باسم المالك المنتفع. فالأشخاص الذين يرغبون في الاختباء يمكن أن يستخدموا بسهولة مرشحين من وكالات التوظيف الخاصة بالشركات، وقد يقومون بإدراج المالك بصفته شركة أو صندوق استئمان في أحد الملاذات السرية، مثل جزر العذراء البريطانية أو سيشل. وهذا هو المكان الذي تصل فيه عملية التتبّع غالباً إلى طريق مسدود.

السرية المالية تأتي في صدارة جداول الأعمال السياسية مجدداً، إلى جانب جهود معاقبة الأوليغارشية الروس المتهمين بدعم حرب الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا. يمكن أن تكون العقارات واليخوت وغيرها من أوجه الرفاهية للأثرياء، مثل الشركات الخاصة، مملوكة غالباً من خلال شركات وهمية وصناديق استئمان تجعل من الصعب تتبّع المالك الحقيقي.

اقرأ أيضاً: غسيل الأموال.. إن كنت لا تعلم فلا يعني أنك لست شريكاً بالجريمة

يتعيّن أن تكون هذه لحظة تُتخذ فيها خطوة كبيرة لتضييق الخناق حول المجرمين والفاسدين وغيرهم من الأفراد غير المرغوبين الذين يريدون إخفاء الأموال، على الرغم من قلق الخبراء من أنَّ الاهتمام السياسي السائد اليوم لن يستمر مستقبلاً. فالحرب أو الكوارث أو الصراع الاقتصادي، كلها عوامل يمكن أن تحث السياسيين على المضي قدماً في إجراء تغييرات كبيرة؛ فقد تم سنّ الكثير من قوانين مكافحة غسيل الأموال في مجال التمويل المتبعة اليوم نتيجة الهجمات على نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001، عندما قادت الولايات المتحدة حملة ملاحقة عالمية على تمويل الإرهاب.

نقص الموارد

بعد مرور عقدين من الزمان وسلسلة من الفضائح التي تلتها، بدءاً من قضية سماح "إتش إس بي سي" (HSBC Holdings Plc) لأباطرة المخدرات بالوصول إلى الذراع المكسيكي التابع له، إلى قضية غسيل الأموال لبنك "دانسك" (Danske) في إستونيا بقيمة تزيد عن 200 مليار دولار؛ فقد تبيّن أنَّ المراقبة والتنفيذ يحتاجان إلى موارد. وتظهر الغرامات التي يتم فرضها بمليارات الدولارات أنَّ القانون يجري تنفيذه بالفعل، لكنَّ حقيقة استمرار هذا التنفيذ تُظهر أنَّ المشكلة لم يتم حلّها. على سبيل المثال، دفع بنك "إيه بي إن أمرو" (ABN Amro) ما يقرب من 600 مليون دولار للسلطات الهولندية العام الماضي فقط.

اقرأ أيضاً: محافظ بنك إنجلترا: العملات المشفرة وسيلة لجذب "مجرمي الإنترنت" وغسيل الأموال

لكن مع تركيز المزيد من الجهود في القضاء على غسيل الأموال من خلال البنوك الكبيرة؛ نمت صناعة إخفاء تدفقات الأموال، وملكية الأصول من خلال الشركات الوهمية والصناديق الاستئمانية. إذ ما تزال الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أكبر المتورطين في هذا الأمر. كما يجري تعزيز التشريعات، لكن بوتيرة بطيئة تنطوي على ثغرات متداخلة.

في الشهر الماضي، عززت "مجموعة العمل المالي"، وهي هيئة حكومية دولية تضع معايير لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، معاييرها لتسجيل ملكية المنتفع. ويتعيّن على كل الدول الآن تنفيذ القواعد التي تلبي هذه التشريعات، وهي تتطلّب تسجيل ملكية الشركات والعقارات والأصول الأخرى بدقة، إذ يجب التحقق منها، وتحديثها، وإمكانية الوصول إليها على الأقل من قبل أجهزة إنفاذ القانون والضرائب وغيرها من السلطات المختصة الأخرى.

ثغرات قانونية

يعد الوصول العام الكامل إلى هذه البيانات أفضل، إذ يسمح لأي شخص مهتم بالمساعدة في مراجعة كل ما تم تقديمه والتحقق منه. وقد تكون قاعدة بيانات "كامبنيز هاوس" (Companies House) بالمملكة المتحدة حافلة بالثغرات، لكن على الأقل يمكن لأي شخص أن يستدلّ بها، ويحدث ضجّة.

وفقاً لجمعية المصرفيين السويسريين؛ فقد كانت السرية لمدة طويلة نقطة رواج رئيسية للمصارف السويسرية، لكنَّ الحملة التي قادتها الولايات المتحدة على التهرب الضريبي من قبل الأفراد الأثرياء بعد عام 2008 أنهت فعلياً ذلك بالنسبة للعملاء الدوليين، على الأقل للأغراض الضريبية. وما تزال لدى مصارف سويسرا أصول تتجاوز قيمتها 200 مليار دولار تابعة لأثرياء روس، وفقاً لتقديرات البنك الوطني السويسري (SNB)، على الرغم من أنَّ البنوك سارعت إلى تجميد حسابات أولئك الخاضعين للعقوبات.

اقرأ أيضاً: 100 شركة أموال إلكترونية بريطانية تواجه مخاطر غسيل الأموال

تقول مايرا مارتيني، المتخصصة العالمية في غسيل الأموال بمنظمة الشفافية الدولية، إنَّ الامتثال والإشراف في سويسرا ما يزالان محلّ عدة تساؤلات. وتضيف بأنَّه لا توجد متطلّبات تلزم إظهار ملكية الشركة هناك، ولا حاجة للمحامين لتقديم تقارير المعاملات المشبوهة المتعلّقة بتأسيس الشركات.

تعمل عدّة دول على تسليط مزيد من الضوء على الملكية. وقالت حكومة المملكة المتحدة إنَّها ستعزز القواعد الخاصة بـ "كامبنيز هاوس"، إذ أصدرت للتو القوانين لإجبار مالكي العقارات الأجانب على الكشف عن أنفسهم. تقول "مارتيني"، إنَّ كندا تسرّع القواعد الخاصة بشفافية الشركات. وتضيف أنَّ نيوزيلندا تتبع النهج نفسه، على الرغم من أنَّ جهودها تتجاهل صناعة الثقة المتنامية.

لو تسنّى لأي دولة أن تستفيد من قوتها الاقتصادية لتصل إلى عملتها خارج الحدود الإقليمية لتطبيق معايير أكثر صرامة، فلا بد أن تكون إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد اعترفت بأنَّ أمريكا لديها إخفاقات كبيرة فيما يتعلق بغسيل الأموال، لكن ما تزال هناك مقترحات لتحسين القواعد، مع أنَّها غير مُرضية بعد.

اقرأ أيضاً: 64 مليون جنيه إسترليني غرامة ضد "HSBC" لإخفاقه في مكافحة غسيل الأموال

في عام 2020، أقرّ الكونغرس الأمريكي قانون شفافية الشركات، وفي ديسمبر الماضي اقترحت شبكة مكافحة الجرائم المالية بوزارة الخزانة (FinCEN) إضافة قاعدة لهذا القانون بشأن ملكية المنتفع، لكن هناك العديد من القيود والاستثناءات التي يجب أن يطلق عليها قانون "الغموض المؤسسي"، كما يصفها روس ديلستون، وهو محامٍ أمريكي مستقل وخبير مكافحة غسيل الأموال، ومقره في واشنطن العاصمة.

لن يتسنى الوصول إلى هذه القاعدة إلا لسلطات إنفاذ القانون والبنوك، في حين أنَّها لن تنطبق حالياً على العديد من أنواع الشركات أو الصناديق الاستئمانية، التي أصبحت مصدراً رئيسياً للسرية المالية على مستوى العالم.

حشد الرأي العام

تضم ساوث داكوتا، وهي موطن ازدهار السرية المالية، صناديق استئمانية مبهمة تقدّر بأكثر من 350 مليار دولار، وذلك وفقاً لتقديرات صحيفة "غارديان". وعلى سبيل المقارنة، قُدّرت قيمة العقارات بالمملكة المتحدة والمملوكة لشركات خارجية، كوسيلة شائعة أخرى لجني الأموال، بأكثر من 170 مليار جنيه إسترليني (223 مليار دولار).

يمكن حتى الآن تنظيم عمل الصناديق الاستئمانية الأمريكية من خلال قانون ملكية المنتفع، الذي أعدّته شبكة مكافحة الجرائم المالية بوزارة الخزانة، وفقاً لإحاطة معلومات أساسية من مسؤول كبير في وزارة الخزانة. قال المسؤولون، إنَّ القانون قيد التطوير، وسيمضي إلى ما هو أبعد مما جاء بالمقترح، دون تقديم أي تفاصيل بشأن القانون. وأضافوا أنَّ أحداث اليوم حشدت الرأي وجعلت السرية المالية محور تفكير كثير، بالإضافة إلى المناقشات المركّزة.

اقرأ أيضاً: حرب بوتين تمنح الغرب فرصةً لـ "تنظيف الأموال القذرة"

لكنَّ الآخرين قلقون من مرور هذه اللحظة، إذ إنَّ الملكية والسرية هما أمران مجردان للغاية بالنسبة لكثير من الناخبين.

قد لا يكون للغزو الروسي لأوكرانيا أي تأثير دائم على الناخبين الأمريكيين أو الأوروبيين. وقد يرى الناخبون الأمريكيون هدفاً من معاقبة بعض الروس، لكن لا يُنظر إلى الأوليغارشية و"بوتين" على أنَّهم يهاجمون الولايات المتحدة بشكل مباشر، كما يقول "ديلستون".

فمن يستفيدون من أعمال السرية المالية يجدون أنَّه من السهل إثارة نقاش عام حول مفاهيم شعبية عن التحرر من قبضة حديدية للحكومة، والمخاوف المتعلقة بالخصوصية. لكن هذه الصناعة مدمّرة، وتساعد على التهرب الضريبي والسرقة والفساد على نطاق واسع، إذ إنَّها تساعد الدول على نشر أموال سرية لتمويل الهجمات على الحكومات والأشخاص الآخرين، وقد حان الوقت للتخلص منها.