اضطرابات أسواق الطاقة تهدّد بنقص إمدادات الغاز الطبيعي لسنوات

أنابيب وخزانات في منشأة تخزين وتوزيع الغاز الطبيعي المسال التابعة لشركة "إناغاز" (Enagas) في ميناء برشلونة، إسبانيا، يوم 29 مارس 2029. شحنات عديدة من الغاز الطبيعي تصل إلى أوروبا، بعد تحويلها عن مساراتها الأساسية.
أنابيب وخزانات في منشأة تخزين وتوزيع الغاز الطبيعي المسال التابعة لشركة "إناغاز" (Enagas) في ميناء برشلونة، إسبانيا، يوم 29 مارس 2029. شحنات عديدة من الغاز الطبيعي تصل إلى أوروبا، بعد تحويلها عن مساراتها الأساسية. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يتداعى التوازن الدقيق في سوق الغاز الطبيعي، ما يضع الاقتصاد العالمي تحت ضغط إضافي، في وقت تسعى الدول جاهدة لتأمين ما يكفي من الوقود.

تخلق الحرب والتحول في مجال الطاقة، إلى جانب الطقس القاسي والطلب المتزايد، فترة من الاضطرابات التي تؤدي إلى تقليص العرض بشكل غير مسبوق، ما يدفع الدول والشركات إلى تأمين ما يكفي من الغاز لدعم التعافي الاقتصادي من الوباء، في ظل أزمة الطاقة التي تضرب العالم.

اقرأ أيضاً: تخلي أوروبا عن الغاز الروسي أصبح أعلى تكلفة

يُعتبر الغاز الطبيعي مكوّناً رئيسياً في الاقتصاد العالمي، إذ أنه ضروري لتشغيل المصانع وإضاءة المنازل وتدفئتها. ومن هنا، وفي ظل الإمدادات المحدودة من الوقود، فإن المنافسة ستزداد حدة مع بقاء الظروف الراهنة على حالها، بما يهدّد بزعزعة الاقتصادات وزيادة التضخم وتوقف سلاسل التوريد، نظراً للأسعار المرتفعة والفجوة بين العرض والطلب.

اقرأ المزيد: اقتصاديون ألمان يحذّرون من الركود حال توقف إمدادات الغاز الروسي

قالت سوزان إل ساكمار، الأستاذة المساعدة الزائرة في مركز القانون بجامعة هيوستن: "تُعدّ السوق اليوم من أكثر التحديات التي رأيتها على الإطلاق". وأضافت أن "العالم بحاجة إلى كمية طاقة أكبر لتقاسمها. وإذا استبعدنا حدوث ركود عالمي أو مزيد من عمليات الإغلاق المرتبطة بـ(كوفيد) والتي تبطّئ النمو، أعتقد بأن أجزاء كثيرة من العالم ستواجه نقصاً في الطاقة".

اقرأ أيضاً: كيف تهدد الحرب في أوكرانيا الانتعاش الاقتصادي في العالم؟

الطقس وتقلبات الأسعار

واجه العالم بالفعل خلال الشتاء، خطر نقص إمدادات الغاز في ظل انتعاش الطلب خلال فترة ما بعد الوباء، وتجاوزِه حجم العرض. وقد كانت الأزمة تتشكّل منذ سنوات، إذ أصبحت دول عديدة أكثر اعتماداً على الغاز، مع تقليص المرافق العامة استهلاكها من الفحم، وتوسيع مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة، في وقت أُغلقت مفاعلات نووية في أعقاب كارثة فوكوشيما عام 2011. وكل ذلك، ترافق مع تباطؤ في زيادة الإنتاج لدى الموردين.

لحسن الحظ، أدت درجات الحرارة المعتدلة خلال الشتاء في جميع أنحاء أوروبا وفي أجزاء من آسيا، إلى كبح الطلب على وقود التدفئة، ما سمح للمرافق بالمحافظة إلى حدٍّ ما على المخزونات المتاحة لديها.

يُطلِق تجار في قطاع الطاقة دعابات تقول إن الصلاة من أجل طقس معتدل، ستصبح تقليداً موسمياً، إذ أن عاصفة ثلجية في بكين أو موجات حر في المملكة المتحدة، يمكن أن تؤدي إلى تقلبات قياسية في الأسعار وعجز مدمر في الإمدادات.

أوروبا تنافس آسيا

في هذه المرحلة، وجهت الحرب ضربة مدمرة وغير متوقعة، لمثل هذه السوق الهشة.

إن جهود أوروبا لوقف معظم واردات الغاز الروسي، تعني أنها ستتنافس مع آسيا للحصول على إمدادات الغاز الطبيعي المسال الفائضة، بينما لا توجد استثمارات كافية في عمليات إنتاج جديدة لتلبية الطلب المتزايد. أما اقتراح الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع بحظر واردات الفحم الروسي، فلا يعني سوى المزيد من الضغط على السوق، إذ قد يتعين على منتجي الطاقة التحول أكثر فأكثر إلى الغاز لتوليد الكهرباء.

من المتوقع على المدى الطويل، أن يتعرض ميزان العرض والطلب على الغاز الطبيعي المسال، لأكبر قدر من الخلل، خصوصاً في حال استبعاد الغاز الروسي. فقد تشهد السوق العالمية نقصاً بحدود 100 مليون طن سنوياً بحلول منتصف هذا العقد، وفقاً لتقرير "كريدي سويس" الذي أصدره الشهر الماضي، أي ما يعادل أكثر من الطلب السنوي من جانب الصين، وهي أكبر دولة مشترية للغاز الطبيعي المسال في العالم.

قال جيمس تافرنر، أحد كبار المديرين في "ستاندرد آند بورز غلوبال" (S&P Global): "حتى قبل الأزمة الروسية الأوكرانية، كانت سوق الغاز الطبيعي المسال العالمية ضيقة وتشهد ارتفاعاً قياسياً في الأسعار". وأضاف أنه "من المرجح استمرار نقص المعروض وزيادة الطلب خلال السنوات القليلة المقبلة، وبالتالي، فإن الأسعار ستظل تشهد تقلبات شديدة من يوم إلى آخر".

لا شك في أن الأسعار الفورية للغاز الطبيعي مازالت مرتفعة للغاية، لدرجة أن كبار المشترين في العالم في شمال آسيا يختارون عدم إعادة تعبئة المخزونات بمشتريات إضافية من الخارج.

قال متعاملون طلبوا عدم الكشف عن هويتهم بسبب الطبيعة الخاصة لمناقشة التفاصيل، إنهم يراهنون بدلاً من ذلك على أن يكون هذا الصيف معتدلاً، أو أن إبرام اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا سيؤدي إلى انخفاض الأسعار.

الاعتماد على المخزونات

قال متعاملون، إن مستوردي الغاز الطبيعي المسال في الصين والهند خفّضوا بشكل كبير مشترياتهم من السوق الفورية، وبدلاً من ذلك، يزيدون الإمدادات المحلية ويستهلكون الغاز المتوافر في المستودعات. هذه الإستراتيجية تحديداً، ستساعد في توفير الأموال، لكنها تواجه مخاطر هائلة، كونها لا تتيح مجالاً كبيراً لحدوث مفاجآت- وهو رهان لم يؤت ثماره في الآونة الأخيرة.

في حال حدوث ارتفاع مفاجئ في الطلب على الغاز، أو إذا تعذر تسليم شحنة متعاقد عليها بسبب مشكلة في الإنتاج، فقد يعاني بعض كبار المستهلكين في آسيا من نقص في الغاز خلال الصيف أو الشتاء المقبلين، وسيضطرون إلى العودة للسوق الفورية، وشراء شحنات من الوقود بأسعار باهظة، أو تقليص شحنات الغاز للمستهلكين في المنازل.

الإمدادات الروسية

سيعوّل الأوروبيون أيضاً على صيف معتدل في آسيا، بسبب الحاجة إلى شراء الغاز الطبيعي المسال في التعاملات الفورية وتعبئة المستودعات الخاصة بهم. ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى تحقيق هدف مستوى تعبئة المستودعات بنسبة 80% بحلول نوفمبر، مقارنة بنحو 26% حالياً. ويمكن تحقيق ذلك إذا كانت تدفقات الغاز عبر خطوط الأنابيب الروسية مستقرة والأسعار الأوروبية تفوقت على نظيرتها الآسيوية لجذب الغاز الطبيعي المسال المتاح، وفقاً لـ"بلومبرغ إن إي إف".

في الوقت الحالي ، تواصل روسيا تزويد السوق بالغاز، وقد تجنّبت أوروبا فرض عقوبات على الغاز الروسي. ومع ذلك، فإن الانخفاض المفاجئ في الصادرات الروسية -إما من خلال العقوبات أو من خلال إجراءات أحادية من جانب موسكو- من شأنه أن يحدث فوضى شاملة، ليكون تقليص الطلب هو الخيار الوحيد المتاح للمحافظة على توازن السوق.

يُعتبر الغاز الروسي مهماً جداً بالنسبة إلى ألمانيا، لدرجة أن الوقف الفوري للواردات من روسيا، من شأنه أن يؤدي إلى ركود اقتصادي، وفقاً لما قاله كريستيان سوينغ، الرئيس التنفيذي لمصرف "دويتشه بنك"، إذ سيؤدي ذلك إلى تكثيف الاندفاع عالمياً نحو مخزونات الغاز، ما يدفع الأسعار إلى مستويات مرتفعة جديدة، ويترك العديد من البلدان من دون وقود كافٍ لتشغيل اقتصاداتها.

تشكل أزمة الطاقة العالمية المتفاقمة مخاطر أعلى من تلك التي حملتها معها صدمات النفط في سبعينيات القرن الماضي، وفقاً لمؤرخ الطاقة، دانييل يرغين.

قال برغين خلال مقابلة مع "تلفزيون بلومبرغ": "لا تتعلق الأزمة بالنفط فحسب، بل تشمل الغاز الطبيعي والفحم، وتشمل دولتين تصادف أنهما قوتان نوويتان عظميان". وفي حال حدوث انقطاع في توصيل الغاز، "سنشهد إغلاقاً لصناعات، وسنرى الأسعار ترتفع. وهذا يعني أنه سيتعين تخفيض توقعات الاقتصاد الكلي"، حسب ما قاله برغين.

معاناة الدول الناشئة

بالنسبة إلى الدول الناشئة التي تعاني من ضائقة مالية في جنوب آسيا وأمريكا الجنوبية، فإن الوضع خطير، حيث قد تضطر الحكومات إلى الحد من استخدام الكهرباء أو وقود التدفئة للأسر.

لقد دفعت الأرجنتين حوالي 750 مليون دولار لثماني شحنات من الغاز الطبيعي المسال للتسليم في الفترة بين مايو ويونيو خلال عطاء الشهر الماضي، أي ما يزيد بحوالي 20 مرة على السعر الذي دفعته مقابل شحنات مماثلة في عام 2020، الأمر الذي يهدّد برفع فواتير الكهرباء.

كذلك، تجد باكستان نفسها في وضع صعب، حيث لم تعد الحكومة قادرة على شراء شحنات الوقود من الخارج، وهي تكافح من أجل إيجاد بدائل. فالوقود نفد من محطات الطاقة في باكستان، فيما تناشد الحكومة لتوفير المزيد من الإمدادات، وفقاً لتقارير محلية.

في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، تبرز مخاطر أيضاً من أن يمتد نقص الوقود ليصل إلى بنغلاديش والهند وتايلاند.

قال سول كافونيتش، محلل شؤون الطاقة في "كريدي سويس": "يمكن أن تحدث حالة من الفقر في مجال الطاقة في أجزاء من آسيا، بسبب تحويل شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، بعيداً عن وجهاتها المحددة أساساً".