مستقبل محطة الفضاء الدولية يبدو قاتماً

محطة الفضاء الدولية كما تبدو من نافذة كبسولة "سبيس إكس كرو دراغون إنديفور" في 8 نوفمبر 2021.
محطة الفضاء الدولية كما تبدو من نافذة كبسولة "سبيس إكس كرو دراغون إنديفور" في 8 نوفمبر 2021. المصدر: ناسا
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لم يكن الأمر مضحكاً كما هو الحال في مقاطع الفيديو الساخرة، حيث تمّ تعيين هذا المقطع الذي تبلغ مدته 57 ثانية على موسيقا البوب الروسية، ونُشر على تطبيق "تيليغرام" (Telegram) في يوم 5 مارس. ويُظهر الفيديو لحظة توديع روّاد الفضاء في محطة الفضاء الدولية لرائد فضاء أمريكي وهم يعانقونه، ثم يصعدون إلى الجزء الروسي من المحطة، وبعدها ينفصلون عن المحطة الدولية ليطيروا بعيداً. ورحّبت وحدات التحكّم الأرضية الروسية بهذه الخطوة بحفاوة.

تسبّبت هوية مؤسسة "روسكوزموس" (Roscosmos) الحكومية للأنشطة الفضائية، النظير الروسي لوكالة "ناسا" (NASA)، باعتبارها المؤسسة التي صنعت مقطع الفيديو، في إضفاء طابع حزين عليه على الرغم من أنه يبدو خفيفاً ظاهرياً لما أشار إليه الفيديو بأنه سيحدث بعد ذلك. فمع فصل الجزء الروسي عن المحطة، لن يكون لمحطة الفضاء الدولية أي محركات دفع للحفاظ على مدارها. وكل شيء سيكون محكوماً عليه أن يهبط على الأرض. بغمزة وابتسامة، كانت روسيا تقترح أنها قد تقضي على المحطة الدولية.

هل ستردّ موسكو بالقضاء على المحطة الدولية في ظل فرض الغرب عقوبات على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا؟ لا أحد يعلم، لكن قد يتحوّل هذا الاحتمال إلى حقيقة. يقول رون غاران، رائد الفضاء السابق في وكالة "ناسا" والذي قضى خمسة أشهر على متن المحطة في عام 2011: "أعتقد أن هذا هو أكبر تهديد للشراكة الدولية في تاريخها".

اقرأ أيضاً: صراع الفضاء.. هكذا انتصر إيلون ماسك على فلاديمير بوتين

أصبح الآن أكبر مشروع دولي والأكثر تعقيداً على الإطلاق عرضة للخطر، فهو بمثابة شهادة قيمتها 100 مليار دولار دليل على براعة الإنسان والتعاون عبر الحدود. يبلغ وزن محطة الفضاء الدولية نحو 490 طناً، وتطلبت أكثر من 40 عملية إطلاق فضائية لإتمام بنائها. تمتدّ المحطة على مساحة أكبر من ملعب لكرة القدم. ولطالما كانت مأهولة بالروّاد على مدار 21 عاماً، وهو رقم قياسي بالنسبة لرحلات الفضاء المأهولة. وأجريت أكثر من 100 تجربة علمية على متن المحطة، ولا تزال المزيد من التجارب قائمة. وعلى الرغم من أن المحطة تبدو هشة مثل اليعسوب، إلا أنها صامدة في ظل تعرّضها للتوهجات الشمسية وتأثيرات النيازك الدقيقة وتسربات الهواء وأعطال المعدات. وفي نهاية ديسمبر الماضي، أعلنت إدارة بايدن أنها ستمدّد فترة تمويل محطة الفضاء الدولية من عام 2024 إلى عام 2030.

ومع ذلك، كانت كل هذه الأشياء الغريبة ما هي إلا واجهة زائفة للغرض الأصلي لمحطة الفضاء الدولية والمتمثل في إبعاد العلماء الروس عن الساحة. وتراجعت إحدى أكثر صناعات الإطلاق الفضائية تقدماً في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نظراً لأنه يمكن أيضاً استخدام نفس التكنولوجيا التي تضع المركبات الفضائية في مدارها لإطلاق قنبلة نووية، فقد كانت الولايات المتحدة حريصة على ضمان عدم استيلاء إيران، أو ليبيا، أو كوريا الشمالية، أو أي قوة أخرى غير صديقة على كل تلك القدرات والتكنولوجيا. كانت المحطة الفضائية مشروعاً مثيراً وكبيراً بما يكفي لاستيعاب الكثير من مهندسي الفضاء العاطلين عن العمل. (سيتطلب ذلك بالمناسبة الكثير من العقود الكبيرة لمقاولي الفضاء الأمريكيين وإعطاء مكوك الفضاء البارد وغير المستغل بشكل كافٍ مكاناً للذهاب إليه).

يقول غاران: "لقد وقّعنا كافة الأوراق اللازمة لقبول الروس في الشراكة في خضمّ حرب أهلية في روسيا"، مشيراً إلى الأزمة الدستورية في عام 1993، والتي أمر خلالها الرئيس الروسي بوريس يلتسين القوات بقصف المبنى الذي كان يضم السلطة التشريعية. وأضاف: "كانت الدبابات تطلق النار فعلياً خارج المباني حيث كان دانيال غولدن، مدير وكالة (ناسا) يوقّع الأوراق مع الروس داخل المبنى. وكانت تلك الشراكة في الفضاء مهمة للغاية لدرجة أن كلا الجانبين كان على استعداد للمخاطرة بالحياة من أجلها".

اختلال العلاقة

كانت لفكرة أن محطة الفضاء الدولية هي تعبير عن الشراكة غير قابلة للكسر تأثير على تصميمها، حيث إن الولايات المتحدة وروسيا لم تتعاونا فقط من أجل بناء هذه الملكية المشتركة، بل كان لكل منهما وظيفة حاسمة سيتحكّم فيها لاحقاً. ستوفر أمريكا الكهرباء لتشغيل المحطة، المتولدة من أربع مجموعات من الألواح الشمسية، بينما سيوفر الروس عملية دفع المركبات الفضائية، لتعزيز ارتفاعها عندما ينحدر مدارها ولتحويل موقعها لتجنب الحطام الفضائي. يقول تود هاريسون، أحد كبار الباحثين في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وهو مؤسسة فكرية في واشنطن: "لم تُبن المحطة لتتواجد بدون الوحدة الروسية".

تغيّر توازن العلاقة في عام 2011، وذلك عندما تم إنهاء برنامج مكوك الفضاء. واضطرت الولايات المتحدة إلى استئجار رحلات على متن صواريخ "سويوز" الروسية في ظل عدم وجود وسيلة تمكنها من الوصول إلى محطة الفضاء الدولية بمفردها. ترك هذا الاعتماد للأمريكيين القليل من النفوذ عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 ودعمت الحركات الانفصالية المسلحة التي استولت على أجزاء من منطقتي دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا. وعندما قدمت إدارة أوباما لائحة عقوبات رداً على ذلك، بما في ذلك على الصادرات الروسية عالية التقنية، أطلق ديمتري روغوزين، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء آنذاك، انتقادات حادة على "تويتر": "بعد تحليل العقوبات المفروضة على صناعة الفضاء لدينا، أقترح أن تسلّم الولايات المتحدة رواد فضائها إلى محطة الفضاء الدولية مستخدمة الترامبولين".

تَبيّن أن جهود "ناسا" لاستبدال مكوك الفضاء كانت أبطأ وأكثر تكلفة مما كان متوقعاً. وأخيراً، أُطلقت كبسولة الفضاء "كرو دراغون" (Crew Dragon) في عام 2020، محمّلة باثنين من رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية على متن صاروخ "سبيس إكس فالكون 9" (SpaceX Falcon 9). وكانت هذه هي المرة الأولى التي تمكّنت فيها الولايات المتحدة من الوصول إلى المحطة الفضائية بمفردها منذ تسع سنوات.

بحلول ذلك الوقت، تم تعيين روغوزين مديراً عاماً لـ"روسكوزموس"، الذي ظل يتمتع بنفس اللباقة. وبعد غزو روسيا لأوكرانيا وردّ الغرب بفرض عقوبات عليها، بما في ذلك على روغوزين نفسه، أخبر شبكة تلفزيونية مملوكة للدولة أن روسيا ستتوقف عن بيع محركات الصواريخ للولايات المتحدة التي تمكّنها من الوصول إلى محطة الفضاء الدولية، وأنه يمكن للأمريكيين "الطيران على مكانسهم". وبعد أن انتقده رائد الفضاء السابق في "ناسا" سكوت كيلي، قال روغوزين في تغريدة على "تويتر": "انزل أيها الأحمق! وإلا سيكون دمار المحطة الدولية على يديك".

تداعيات الغزو على الفضاء

لم تكن محطة الفضاء الدولية هي المشروع الفضائي الوحيد الذي عصفت به تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث سحبت روسيا قوتها العاملة من مجمع الإطلاق التابع لوكالة الفضاء الأوروبية في غويانا الفرنسية. كما علقت وكالة الفضاء الأوروبية برنامج "إكسومارس" (ExoMars) الفضائي المشترك مع روسيا. وفي خطوة للانتقام من المملكة المتحدة بسبب عقوباتها، ألغت روسيا إطلاق 36 قمراً صناعياً لصالح شركة "ون ويب" (OneWeb) الناشئة للأقمار الاصطناعية، ومقرها لندن والمملوكة جزئياً للحكومة البريطانية. وعليه، ألغت شركة "ون ويب" سجل طلباتها بالكامل مع روسيا. ويقول الباحث هاريسون: "لقد كانت هذه إشارة واضحة إلى جميع البلدان والشركات الأخرى بأنه لا يمكنك الاعتماد على الروس. وبصراحة، أعتقد أن الروس قتلوا أعمالهم التجارية الدولية تماماً".

إذا قررت روسيا قلب ميزان اللعبة ومعاودة أدراجها، فلن يكون الأمر بهذه البساطة التي أظهرها مقطع الفيديو على "تيليغرام". تقول آن كابوستا، التي عملت في وحدة التحكم الأرضية الأمريكية في السابق في محطة الفضاء الدولية والتي تشغل الآن منصب المديرة التنفيذية لمؤسسة "سبيس فرونتير فاونديشن" (Space Frontier Foundation): "هذا الفيديو هو مجرد دعاية". و"هناك الكثير من الترابط، والكثير من الرسائل تتنقل ذهاباً وإياباً، بحيث يتعين القيام بمجموعة من عمليات السير في الفضاء لفصل الوحدة فعلياً عن المحطة".

سيكون أبسط طريق لروسيا للانسحاب من محطة الفضاء الدولية هو سحب طاقمها ورفض توفير عمليات الدفع بعد الآن. وفي هذه الحالة، فإن الكمية الضئيلة من الغلاف الجوي الموجودة على ارتفاع 250 ميلاً فوق سطح الأرض تكفي لسحب المحطة الفضائية تدريجياً إلى مدار منخفض، حتى تتفكك في نهاية المطاف على هيئة كرة نارية وتتحطم. وتقول كابوستا إن الأمر سيستغرق من 9 إلى 12 شهراً تقريباً حتى يحدث ذلك.

وفي حال توصلت البلدان إلى اتفاق انفصال أكثر ودية، فإنه يمكن لروسيا أن تحصل على تعويضات وتستمر في دعم محطة الفضاء الدولية بشكل مؤقت بينما تبني الولايات المتحدة وتثبت بدائل للمعدات الروسية. وقد يمهّد هذا النوع من الخروج التدريجي الطريق أمام أحد شركاء محطة الفضاء الدولية الآخرين، مثل وكالة الفضاء الأوروبية، أو كندا، أو اليابان، لزيادة دورهم، أو انضمام دول جديدة ترتاد الفضاء. وتقول كابوستا: "هناك مجموعة من الشركاء المحتملين للدولة الحرة والذين يرغبون في الحصول على فرصة للبدء في هذا العمل".

لكن هل تريد روسيا حقاً المغادرة؟ تتعرض الصناعة عالية التقنية الروسية للهجوم بسبب العقوبات الدولية عليها. لكن محطة الفضاء الدولية تُعدّ نصباً تذكارياً لم يتأثر ببراعة روسيا الهندسية. ويقول هاريسون: "تُعدّ محطة الفضاء إحدى النقاط الرئيسية التي تفتخر بها روسيا عندما يتعلق الأمر بالفضاء. وما أعنيه هو أنه ليس لديهم الكثير ليشيروا إليه".

يحتفظ روغوزين في الوقت الراهن بموقف صارم، حيث أحيا ذكرى وفاة أول رائد فضاء روسي في يوم 27 مارس، وأشار إلى أنه إذا لم ترفع القوى الغربية بعض عقوباتها، فقد تعلن "روسكوزموس" قريباً الانسحاب من محطة الفضاء الدولية. أضاف روغوزين، وفقاً لوكالة الأنباء الروسية "تاس": "ننتظر رداً من وكالة (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية في موعد أقصاه 31 مارس فيما يتعلق بحقيقة رفع العقوبات عن روسيا". وفي حال عدم وجود استجابة في الوقت المناسب، ستحدد روسيا بنفسها "المدة التي ستعمل فيها محطة الفضاء الدولية".

تلتزم روسيا حتى الآن بالجدول الزمني المتفق عليه مسبقاً لإطلاق رواد الفضاء وعودتهم. ففي يوم 18 مارس، انطلق صاروخ "سويوز" كما هو مقرر من قاعدة "بايكونور" الفضائية في كازاخستان، ونقل على متنه ثلاثة رواد فضاء روس إلى محطة الفضاء الدولية. ويوجد الآن خمسة رواد روس وأربعة أمريكيين وألماني في طريقهم إلى المحطة.

كان من المقرّر أن يصعد أحد الرواد الأمريكيين، مارك فاندي هي، على متن كبسولة "سويوز" في يوم 30 مارس بصحبة اثنين من الروس ويهبطون في كازاخستان. سيعتمد ما إذا كان مارك هو آخر رائد فضاء يقوم بذلك أم لا على ما سيقرره روغوزين وزملاؤه في اليوم التالي.

يعتقد البعض أن انسحاب روسيا من محطة الفضاء سيكون بئس المصير. وتقول كابوستا: "من منطلق المسؤولية، لا يجب أن نعمل مع شخص يتصرف بهذه الطريقة على الأرض. أعتقد أنه من مسؤوليتنا أن نقول إنه لن يكون لدينا ذلك التصرف في الفضاء، ولا نريد العمل معك بعد الآن. هناك طرق يمكننا المضي قدماً من خلالها دون الاستعانة بهم".