أيهما يسبق.. التضخم أم عدم الاستقرار السياسي؟

يسهل العثور على أدلة على تحرك العلاقة السببية بين التضخم وعدم الاستقرار السياسي في اتجاهين

مظاهرة في البيرو بعد ارتفاع الأسعار
مظاهرة في البيرو بعد ارتفاع الأسعار المصدر: بلومبرغ
Stephen Mihm
Stephen Mihm

Columnist at Bloomberg (http://bloomberg.com/opinion). Author of A Nation of Counterfeiters; Crisis Economics (with Nouriel Roubini). Sleep-deprived father of three.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يُعامَل التضخم في الغالب على أنه ظاهرة اقتصادية تتجلى اقتصادياً في المقام الأول، ويهتم صانعو السياسات حالياً بتأثير التضخم في سوق الإسكان خشية ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومية. ربما لاحظوا تغييرات سلوك الأفراد الاقتصادي التي تظهرها معاناتهم للتوفير في متاجر البقالة، ويثير هذا مخاوف السياسيين بأن يزيحهم التصويت عن مناصبهم إن حمّلهم المقترعون مسؤولية التأثير الاقتصادي للتضخم.

لكن تلك الظاهرة الاقتصادية ترتبط بعوامل تتخطى علم الاقتصاد والحظوظ الانتخابية، فالتضخم مرتبط أيضاً بعدم الاستقرار السياسي. تحفل سجلات التاريخ بأمثلة عديدة ارتبط فيها التضخم ارتباطاً وثيقاً بإعادة تشكيل التحالفات السياسية الكبرى والانقلابات، بل حتى بثورات دامية. لذا يجدر أخذ هذه الأحداث التاريخية في الاعتبار بالتزامن مع تصدي الدول حول العالم لارتفاع الأسعار.

زمن تقديم الدعم المجاني قد ولى في الولايات المتحدة

قد يبدو بداهةً أن التضخم قد يغذي عدم الاستقرار السياسي أو أن تراجعه قد يزيد الاستقرار، لكن استنباط علاقة سببية بينهما أمر يسهل قوله أكثر من فعله. إنها معضلة بيضة ودجاجة تقليدية: أيهما يسبق؟ التضخم أم عدم الاستقرار السياسي؟

لنأخذ على سبيل المثال الدراسة التي أجراها المؤرخ الاقتصادي بيتر تيمين لتحليل اقتصاد روما القديمة. يتضمن هذا العمل الرائع تفحصاً للضغوط التضخمية التي استنزفت الإمبراطورية الرومانية المتأخرة، إذ تساءل تيمين عما إذا كان التضخم هو سبب عدم الاستقرار السياسي، أو العكس.

اعتمد تيمين للإجابة عن هذا السؤال مؤشرات متباينة لقياس عدم الاستقرار السياسي، مثل معدل تداول السلطة، سعياً لتحديد علاقة سببية بين الظاهرتين. لكن تبين له عدم إمكانية إثبات ذلك لكثرة التصورات المعقولة بنفس القدر التي يمكن استنباطها تفسيراً لسقوط روما.

تضخم يجرّ سخطاً

أشار تيمين في دراسته إلى أن الفوضى السياسية قد تدفع لمكافأة الجنود فتحفز إصدار الأموال، ما يؤدي إلى التضخم في نهاية المطاف. قد يستجلب التضخم بالمقابل سخطاً مفهوم الأسباب، فيدفع الجنود إلى التمرد على سادتهم، لكن كان من الصعب تحديد أيهما يسبق الآخر.

خلص تيمين في النهاية إلى أن متغيراً خارجياً ربما أطلق آلية متعاضدة لعدم الاستقرار والتضخم على نحو متبادل، من شأنها الإطاحة بروما. كان ذلك المتغير هو الطاعون الأنطوني الذي عصف بالإمبراطورية الرومانية بين عامَي 165 و180. طرح تيمين هذه النظرية قبل حلول وبائنا المعاصر، لكن المقارنة في هذا السياق مقلقة.

معدل التضخم الطبيعي الجديد ستكون نسبته 4% وعلينا أن نعتاده

قد يتساءل المشككون منطقياً حول فائدة استخلاص استنتاجات من أمر حدث منذ نحو 2000 عام، إذ لم يكن في روما القديمة عديد من أعراف النظام النقدي الحديث، وأبرزها البنوك المركزية، لكن لحسن الحظ توجد دراسات تتناول الأعراف الحديثة في عصرنا الحالي.

وجدت دراسة نموذجية بين 1960 و1999 وشملت 160 دولة أن عدم الاستقرار السياسي، الذي يحدده معدل تداول المناصب الحكومية والوزارية، أسهم في تقلب التضخم، لا سيما في الدول التي لديها بنوك مركزية تحظى باستقلالية محدودة عن النظام السياسي الأوسع نطاقاً.

على العكس من ذلك، كان أداء الدول التي تتمتع بمؤسسات قوية (البنوك المركزية المستقلة، بصورة أساسية) جيد نسبياً، حتى لو واجهت معدلات مرتفعة من التغيير السياسي. نذكر هنا إيطاليا على سبيل المثال، إذ تتغير الحكومات بمعدل مثير للقلق، لكن تمكَّن صانعو سياساتها من إبقاء التضخم تحت السيطرة بشكل معقول.

علاقة سببية

يسهل أيضاً العثور على أدلة على تحرك العلاقة السببية بين التضخم وعدم الاستقرار السياسي في الاتجاه المعاكس، فقد اختبر اثنان من العلماء السياسيين هذا الاحتمال في دراسة تناولت كيفية استجابة الناخبين للتضخم في 19 دولة صناعية بين 1970 و1994. ميز الباحثان بشكل لافت بين معدلات التضخم العامة وما سمّوه التضخم "غير المتوقع"، وهي الحالات التي ارتفعت فيها الأسعار بشدة رغم توقعات الجميع، بمن فيهم الاقتصاديون.

تشير النتائج إلى أن السياسيين والأحزاب السياسية يدفعون ثمناً باهظاً حين يفاجئ التضخم ناخبيهم. قد صمدت هذه النتيجة في ظل تقييمات إحصائية مختلفة للعلاقة بين الظاهرتين محل الدراسة، غير أن جميع التقييمات لا تبشر بخير لأي حزب يتولى سلطة الحكم حالياً ويشغل مناصب حكومية، مثل الديمقراطيين الأمريكيين، وعليهم الانتباه إلى هذا الأمر.

ارتفاع مخاطر حدوث انكماش اقتصادي عالمي نهاية العام بسبب التضخم

لكن إحالة شاغلي تلك المناصب إلى التقاعد المبكر بسبب ارتفاع التضخم بشكل غير متوقع في أثناء وجودهم في السلطة ليست بمأساة، حتى لو كان الأمر كذلك بالنسبة إلى بعض السياسيين. فهي ذات العقوبة التي تُوقَّع على القادة حين يتولون الرئاسة في أثناء فترات الركود لسوء حظوظهم. تُحتوى الاحتجاجات بأمان داخل المؤسسات السياسية القائمة في كلتا الحالتين، فلا تسقط الحكومات وينجو القادة.

لكن سجلات التاريخ مليئة بالأمثلة التي أسهم فيها التضخم، سبباً كان أو نتيجة، بانهيار النظام الاجتماعي والسياسي القائم.

أمثلة التاريخ

قدم خبير التوزع السكاني السياسي والمؤرخ جاك غولدستون مثالاً مقنعاً في دراسته بشأن بدايات العالم الحديث، التي كانت بمثابة نقطة تحول، مشيراً إلى أن التفاعل بين النمو السكاني وسوء الإدارة المالية والتضخم ساعد على تأجيج ما سماه "انهيار الدولة" في بريطانيا تحت حكم أسرة ستيوارت، والدولة العثمانية، والصين في عهد سلالة مينغ، ومزيد من ذلك تاريخياً.

تؤكد نوبات التضخم الأكثر حداثة، لا سيما التضخم المفرط، هذه الآلية. يُعَدّ المثال الأفضل في هذا الصدد هو تضخم حقبة "فايمار"، الذي عصف بألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. لقد أدرك الاقتصادي البريطاني ليونيل روبينز في مطلع 1937 أن هذه الصدمة ربما مهدت الطريق لنهاية الديمقراطية في ألمانيا.

هل هناك من يدلّني على وسيلة جيدة للتحوط من التضخم؟

وصف روبنز بعبارات لا تُنسى في كتاباته كيف "دمر التضخم الكبير ثروة العناصر الأكثر صلابة في المجتمع الألماني، وخلَّف وراءه حالة من اختلال التوازن الأخلاقي والاقتصادي، وأرضاً خصبةً مواتيةً للكوارث التي أعقبت ذلك، وأن هتلر كان ربيب التضخم".

انتقد بعض المؤرخين هذه الأطروحة، فمن المؤكد أن معاداة السامية كان لها علاقة بصعود هتلر، لكنّ آخرين أيدوا الهدف الأشمل، إذ وجدوا اضطرابات مماثلة في دول مثل النمسا، التي عانت كذلك من نوبة تضخم مفرط في مطلع عشرينيات القرن الماضي.

بحثت دراسة أكثر شمولاً، وإن كانت مرحلية، العلاقة بين التضخم وعدم الاستقرار السياسي بين 1492 و1900، بالإضافة إلى عقد مقارنة أكثر تركيزاً تطرقت إلى الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

مواقف ثورية

اعتمد مولِّفا الدراسة، وهما عالِما الاجتماع جوزيف كوهين وأبريل لينتون، على مؤشرين لعدم الاستقرار. يقيس الأول، الذي صاغاه في بحث منفصل، ما يسمى "المواقف الثورية" حين حاولت جماعات الإطاحة بحكومات الدول، سواء نجحت في ذلك أم لا، فيما شكّلت مجموعة ثانية من الأحداث معياراً للعصر الحديث.

رددت استنتاجات كوهين ولينتون معظم أصداء ما وجده الآخرون في أبحاثهم حول هذا الموضوع. غالباً ما كانت معدلات التضخم المرتفعة في حقبة ما قبل العصر الحديث تنذر بعدم الاستقرار السياسي، لكن لا يزال من الصعب تحديد التسلسل الدقيق للسبب والنتيجة على وجه اليقين.

التضخم الأمريكي يبلغ أعلى مستوى في 40 سنة

على النقيض من ذلك، تباينت تأثيرات التضخم بشكل كبير في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية اعتماداً على جودة مؤسسات الدولة. ليس من المستغرب أن الديمقراطيات عالية الأداء، لا سيما تلك التي تتمتع بمستويات أعلى من الرخاء، صمدت في وجه العواصف التضخمية بشكل أفضل بكثير من البلدان الأكثر فقراً وتلك التي تهيمن عليها أنظمة سلطوية.

تحمل هذه الاستنتاجات عِبَراً ليومنا هذا. مع ارتفاع مستويات الأسعار في جميع أنحاء العالم، نشهد الدلائل الأولى على صعود التضخم وعدم الاستقرار السياسي بالتوازى مرةً أخرى. هزت الاحتجاجات على ارتفاع الأسعار حكومة بيرو في الأسابيع الأخيرة. كما أعرب صندوق النقد الدولي عن قلقه من أن يؤجج ارتفاع تكاليف الغذاء الاضطرابات في دول أخرى. قد تمتد هذه المشكلات بمرور الوقت إلى العالم المتقدم.

إن حدث ذلك فسنتعلم درساً موجعاً مفاده أن التضخم وعدم الاستقرار السياسي وجهان لعملة واحدة.