الركود إن حصل.. لن يكون مرعباً كما يبدو

مجموعة من الأشخاص ينتظرون في الصف أمام شاحنة لبيع المأكولات السريعة. يعتبر التضخم المرتفع بمثابة تخفيض هائل في الأجور على مستوى الاقتصاد بأكمله، إذ تتراجع معه معدلات الاستهلاك
مجموعة من الأشخاص ينتظرون في الصف أمام شاحنة لبيع المأكولات السريعة. يعتبر التضخم المرتفع بمثابة تخفيض هائل في الأجور على مستوى الاقتصاد بأكمله، إذ تتراجع معه معدلات الاستهلاك المصدر: غيتي إيمجز
Allison Schrager
Allison Schrager

Allison Schrager is a Bloomberg Opinion columnist. She is a senior fellow at the Manhattan Institute and author of "An Economist Walks Into a Brothel: And Other Unexpected Places to Understand Risk."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

إنَّ تضخماً كهذا، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. لكن كيف سينتهي؟ هذا هو السؤال الذي يُطرح كثيراً اليوم. يحتاج الأمر في الغالب إلى حدوث ركود لوقف صعود التضخم. لاحظ الخبير الاقتصادي لورانس سمرز أنَّ هذا ما كان عليه الموقف في كل مرة كان التضخم فيها مرتفعاً، وكانت سوق العمل ترزح تحت هذا الضغط.

مجدداً، لم نشهد من قبل معدلات تضخم نتجت عن عمليات إغلاق الاقتصاد. لذلك ربما يكون الموقف مختلفاً هذه المرة. هناك أمل في أنَّه، في ظل بعض الزيادات في أسعار الفائدة التي جرت معايرتها بطريقة بارعة، وبعض الرسائل الجيدة تماماً؛ يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الحد من معدلات التضخم وتفادي الركود. يستطيع الاحتياطي الفيدرالي زيادة أسعار الفائدة بما يكفي فقط لمنع معدلات التضخم من التفاقم، ومن ثم تنحسر ضغوط سلاسل التوريد وغيرها من الضغوط المرتبطة بفترة ما بعد وباء كورونا، ويختفي التضخم المفرط. توجد فعلاً مؤشرات على أنَّ معدلات التضخم آخذة في التراجع.

اقرأ أيضاً: ما زال بإمكان "الاحتياطي الفيدرالي" تحقيق "الهبوط السلس"

برغم ذلك، هناك بديل آخر، ربما يكون حدوثه محتملاً أكثر. أُطلق عليه شخصياً، مصطلح "الهبوط الصعب والارتطام"، لكن من دون تحطم. ربما يقع الاقتصاد في حالة ركود عقب قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض التضخم، لكنَّه سيكون طفيفاً وقصير الأجل تماماً - أو حتى بضعة أعوام من النمو الاقتصادي الضعيف.

اقرأ المزيد: بيل غيتس: الفائدة المرتفعة قد تؤدي إلى تباطؤ اقتصادي عالمي

ما يثير القلق هو أنَّ معدلات التضخم تترافق مع أجور مرتفعة، فيما يتوقَّع الناس أن تواصل الأسعار صعودها. بمجرد أن تبدأ الأجور في الزيادة، وتتحدد التوقُّعات، يكتسب التضخم قوة دافعة، يكون من الصعب معها السيطرة عليه. لذا فمن المحتمل أن تسفر جهود الاحتياطي الفيدرالي عن حدوث تهدئة، لكنَّ التضخم سيبقى أعلى بكثير من معدل 2% المستهدف، وربما يصل إلى 5% أو 6%، حتى مع حدوث تأثير للعوامل المؤقتة.

الخوف من زيادة البطالة

إذا كان هذا هو الحال؛ فإنَّه يتعيّن على بنك الاحتياطي الفيدرالي، التفكير في رفع أسعار الفائدة إلى ما وراء معدل الحياد، مما قد يسفر عن ارتفاع معدلات البطالة والتسبب في حدوث ركود. يعد رفع أسعار الفائدة عقب فوات الأوان، وبقدر كبير، السبب الرئيسي وراء العديد من حالات الركود الاقتصادي خلال القرن العشرين. يشير بحث أجراه خبيرا الاقتصاد، مايكل بوردو، وميكي ليفي، إلى أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تسبّب في معظم فترات الركود خلال القرن العشرين، وعادة ما يكون ذلك بسبب خطأ متعلق بالتوقيت، ومستوى التغيرات في الأسعار. ويرى الباحثان أنَّ هناك عدّة وجوه للشبه بين ما نشهده اليوم، وفترة السبعينيات من القرن الماضي، مع وجود اختلاف واحد: حتى الآن؛ يظهر أنَّ الاحتياطي الفيدرالي يعقد العزم على عدم القيام بأي أمر يؤدي إلى زيادة البطالة. على الأقل ليس بطريقة مباشرة.

لكن ربما سيحدث الركود؛ حتى لو لم يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بما يكفي لتهدئة الاقتصاد التضخمي. في حال بقي التضخم مرتفعاً ولم ترتفع الأجور بدرجة كافية لمواكبته (وهذا هو الموقف حالياً)؛ فقد يتسبّب التضخم في نهاية الأمر في بلوغ حالة من الركود. يعد الأمر بمثابة تخفيض هائل في الأجور على مستوى الاقتصاد بأكمله، إذ تتراجع معه معدلات ​​الاستهلاك. يعزز التضخم المرتفع أيضاً حالة عدم اليقين، ويجعل الأصول الدولارية أقل جاذبية.

برغم ذلك، توجد أسباب لكي نعتقد أنَّ مستوى الركود في الوقت الراهن لن يكون بالسوء نفسه الذي حصل في عام 2008، أو حتى مستوى الركود في عام 2001. غالباً ما يأتي انحسار الوظائف في ظل تراجع الشركات عن الاستثمار والتوظيف. وفي العادة، تتجه الشركات للدخول في فترات من الركود مع مستويات مرتفعة من الاستثمار والمخزونات. ثم، بمجرد أن يبدأ الركود؛ تقلص من عمليات الإنفاق وتخفض تلك المخزونات.

الهبوط قد يطال الأسهم

ليس الأمر هكذا، هذه المرة. كانت المخزونات متراجعة فعلياً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستثمار. لا تتحول سوق العمل إلى سوق ضيقة بسبب الإفراط في ضخ الاستثمارات أو تكدس المخزونات. وعلى النقيض من عام 2008؛ فإنَّ ميزانيات الأسر بحالة جيدة، وليس هناك إفراط في الاستدانة لدى الأفراد، كما أنَّ هناك الكثير ممن لديهم مدخرات. يعتبر أحد الأسباب الأساسية التي جعلت من ركود عام 2008 سيئاً تماماً، هو أنَّ الأسر شرعت في التوسع في الاستدانة أكثر من اللازم، وقد تطلب الأمر أعواماً حتى تتعافى ميزانياتها، ويعود المستهلكون إلى الإنفاق مجدداً. في الوقت الحالي، ما تزال الولايات والحكومات المحلية تمتلك أموالاً من تلك التي خصصت لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، وهي بالتالي تستطيع مواصلة الإنفاق في حالة حدوث ركود اقتصادي. ربما يشهد مستوى الركود المعتدل، بعض الزيادة في معدلات البطالة، لكن لن تكون زيادات كبيرة. كما لا يرقى الوضع إلى وصفه بالركود إذا اقتصر على تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي، من دون أن يتخطاه إلى حالة انكماش اقتصادي.

هذا لا يعني أنَّه لا يوجد سبب للقلق. الركود المعتدل لن يكون كبيراً. سيخسر بعض الأشخاص وظائفهم، ولن يكون سهلاً إيجاد وظائف بديلة. ربما تشهد سوق الأسهم المزيد من الهبوط، مما سيترك الأشخاص أشد فقراً - لا سيما الأشخاص الذين يمتلكون أصولاً أكثر خطورة، على غرار الأسهم الفردية والعملات المشفَّرة. وبصرف النظر عن مدى اعتداله؛ فإنَّ الفترات التي تشهد ركوداً تنزع أكثر إلى الإضرار بأصحاب الدخل المنخفض، والذين سيخسرون على الأرجح وظائفهم، وستكون لديهم مدخرات أقل بكثير.

تفادي الأسوأ

تكون لحالات الركود دائماً تكلفة بشرية. برغم ذلك، ربما يكون من المطمّئن إلى حد ما، أنَّ الركود المعتدل في الأجل القريب يعني أنَّه باستطاعتك أن تتفادى حدوث ركود سيئ تماماً في المستقبل. تأتي فترات الركود العنيفة من وجود شركات مفرطة في الاستدانة، وأسر تستثمر في الأصول التي تتعرض للانهيار. تدفع حالات الركود الاستثمارات السيئة إلى خسارة الأموال، والشركات التي كانت بالكاد متماسكة إلى الانهيار. في حال ألقينا نظرة أبعد، نجد أنَّ فترات الركود تضطر أيضاً رأس المال والعمال إلى الهجرة نحو مواقع أخرى قد تكون أكثر إنتاجية.

ربما يكون الوضع هكذا بالنسبة إلى الركود المعتدل الذي نتجه صوبه. ويحمل هذا الأمر دلالات كبيرة، إذ إنَّ الأسواق والمعلّقين قلقون حيال الركود، إذا رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، إلى الحدود التي تظل معها عند مستوى 0% بعد طرح معدل التضخم منها - وهو ما يُقال له "المستوى المحايد".

يشير ذلك إلى أنَّهم يعتقدون أنَّ الأسواق المالية وسوق العمل، غير قادرة على الصمود في حال لم يقم بنك الاحتياطي الفيدرالي بالتكيّف بطريقة نشطة مع الاقتصاد. وإذا كان هذا هو الواقع فعلياً؛ فمعناه أنَّه ليس بإمكان الاقتصاد أن ينمو بطريقة مستدامة، وربما يكون في حاجة إلى عملية إعادة ضبط محدودة. ربما لا يسفر الركود المعتدل عن وقف صعود معدلات التضخم فقط؛ بل ربما يكون هو ما يتطلّبه الاقتصاد أيضاً، ليعود إلى وضعه الطبيعي من جديد.