البنوك المركزية غير قادرة وحدها على التصدي للركود التضخمي

أحد العاملين في القطاع الصحي يتناول دواء لمريض في مستشفى مؤقت للمصابين بـ"كوفيد-19" في موسكو، روسيا، يوم 17 نوفمبر 2020. تبذل البنوك البنوك المركزية الكبرى جهوداً حثيثة لمواجهة الاختلالات الاقتصادية والتصدي للتضخم، إلا أن المطلوب يبقى اختيار الأدوات الصحيحة والفعالة لهذه المعالجة
أحد العاملين في القطاع الصحي يتناول دواء لمريض في مستشفى مؤقت للمصابين بـ"كوفيد-19" في موسكو، روسيا، يوم 17 نوفمبر 2020. تبذل البنوك البنوك المركزية الكبرى جهوداً حثيثة لمواجهة الاختلالات الاقتصادية والتصدي للتضخم، إلا أن المطلوب يبقى اختيار الأدوات الصحيحة والفعالة لهذه المعالجة المصدر: بلومبرغ
Marcus Ashworth
Marcus Ashworth

Marcus Ashworth is a Bloomberg Opinion columnist covering European markets. He spent three decades in the banking industry, most recently as chief markets strategist at Haitong Securities in London.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تحوّل مسؤولو البنوك المركزية بسرعة، من أبطال منقذين للاقتصاد العالمي، مرة بعد الأزمة المالية العالمية، ومرة أخرى خلال جائحة كورونا، إلى شخصيات شريرة في هذه الرواية السائدة. فالتفكير برفع أسعار الفائدة، بشكل متأخر ومحدود للغاية على حد سواء، وبتقليص محدود للميزانيات العمومية المتضخمة، لن يمنع معدل التضخم من الارتفاع ليسجّل رقماً من خانتين. وبالتالي، فإن الدخول في ركود كنتيجة للتعويض عن فترة الغفلة التي استمرت طويلاً أثناء مرحلة التحفيز، سيكون مجرد نكهة مختلفة للفشل. من هنا، لا بد أن تتحمل السياسة المالية المزيد من العبء الاقتصادي.

اقرأ أيضاً: هل يتسبب صعود الأسعار في حدوث ركود؟ إليك طريقة الاستعداد

بعد فترة وجيزة من التفكير المشترك، عندما تم تنسيق الإنفاق الحكومي المتزايد مع برامج التحفيز المبتكرة، عُدنا إلى البنوك المركزية باعتبارها الحصن الوحيد ضد الركود التضخمي. لكن الانفصال الحالي بين السياسة المالية والنقدية، يجعل القائمين على حماية الاستقرار المالي، واستقلاليتهم، عُرضة للهجوم بشكل خطير.

اقرأ المزيد: لاغارد: الركود التضخمي ليس السيناريو الأساسي المتوقع لأوروبا

إن الجهود الهادفة لكبح جماح التضخم الهائل من دون إغراق الاقتصاد في الركود، يشبه المشي على حبل رفيع ومشدود، ويمثّل معضلة للبنك المركزي الأوروبي. ونظراً لوجود متشددين في مجلس إدارة البنك، يطالبون بوقف وشيك للتيسير الكمي وإنهاء سريع لأسعار الفائدة السلبية، فإن إزالة التحفيز بسرعة كبيرة للغاية، قد تؤدي بسهولة في العام المقبل، إلى تباطؤ حاد لاقتصاد منطقة اليورو الذي دائماً ما يعاني من تصدعات. لكن ما يشفع في هذا الأمر، هو أنه حتى الآن على الأقل، هناك قدر محدود من الدلائل على الارتفاع المتواصل للأجور. وهذا هو بالضبط المجال الذي يمكن أن تساعد فيه حكومات الكتلة الأوروبية، من خلال التخفيف من تأثير ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلكين لتقليص تداعيات الجولة التضخمية الثانية.

استجابة هزيلة

حقق الاتحاد الأوروبي انتصاراً كبيراً في إنشاء صندوق "الجيل التالي" بقيمة 800 مليار يورو (840 مليار دولار) العام الماضي، لتعويض المصاعب الاقتصادية التي خلّفها الوباء. لكن استجابته المالية الجماعية للغزو الروسي لأوكرانيا، كانت هزيلة. تكمن قوة الاتحاد الأوروبي الكبرى في مرونته خلال فترات الشدائد، إذ يجب أن يتماشى تنسيق ردّ الفعل العسكري والعقوبات، مع حزمة المحافظة على النمو، للتخفيف من تداعيات الأسعار الناجمة عن الحرب.

تتسم مهمة بنك إنجلترا بأنها أكثر صعوبة، في ظل الزيادات الضريبية التي فرضها وزير الخزانة ريشي سوناك، إذ ليس من المنطقي أن يرفع بنك مركزي أسعار الفائدة في أربعة اجتماعات متتالية، بينما يحذر فجأة من مخاطر الركود الوشيك. ولا يمكن أن تؤدي زيادة تكاليف الاقتراض إلا إلى تفاقم أزمة تكلفة المعيشة. ومن ثَمّ، فإن الانقسامات المتزايدة في لجنة السياسة النقدية بين الأعضاء، تعطي الأولوية للحاجة إلى تهدئة التضخم في ظل وجود معسكر القلقين بشأن الضغط المالي الحكومي.

يبدو أن حكومة المملكة المتحدة تدير الأذن الصماء للخبراء الماليين الذين يدعون إلى التخفيف من حدة التراجع القادم في مستويات المعيشة. وفيما يبدو بنك إنجلترا غير عابئ بالتعامل مع ارتفاع أسعار المستهلكين والتنبؤ بالركود التضخمي، أصبح المتداولون والمستثمرون قلقين بشكل متزايد إزاء التعامل مع الأصول المقوّمة بالجنيه الإسترليني.

في غضون ذلك، لا يرى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أي عقبات، حيث يقوم بتسريع نهجه المتشدد، وهو ما يوسّع فارق أسعار الفائدة ليشمل العملات الأخرى، ويزيد من قوة الدولار، ويسبب الفوضى في سوق العملات الأجنبية، على حساب اقتصادات الأسواق الناشئة بشكل خاص. لكن البنك المركزي الأمريكي لديه خيار محدود في ترتيب الأوضاع، بعد الكثير من التحفيز الذي ضخّته الحكومة. أما احتمالية الجمود السياسي بعد انتخابات التجديد النصفي المقررة في نوفمبر، فلا تبشّر بالخير لإدارة الرئيس جو بايدن المتعثرة بالفعل. لكن، في ظل تولي رئيسة الاحتياطي الفيدرالي السابقة لحقيبة وزارة الخزانة حالياً، لا بد أن يكون هناك، على الأقل، قدر من الأمل في التزامن بين الاستجابة المالية والنقدية للتحديات الاقتصادية المقبلة.

تدمير الثقة

إن إحداث انكماش اقتصادي بشكل فعّال، بغرض تهدئة أسواق العمل الضيقة والحد من الطلب، هو الهدف الذي يسعى إليه كل من الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا. وهذا الأمر، لا يخاطر بإهدار التريليونات التي أُنفقت على جهود التعافي من الوباء فحسب، بل يهدد كذلك بفقدان السيطرة على الأمور. قد يصبح العلاج أسوأ من المرض، ما يؤدي بالتالي إلى تدمير الثقة -المتزعزعة أصلاً- في قدرة السلطات النقدية على القيام بمهامها.

لا أحد يريد العودة إلى السياسيين لكي يقرروا بأنفسهم أسعار الفائدة. لذلك، لا بد أن يكون هناك إدراك لحدود ما يمكن أن تحققه السياسة النقدية وحدها عندما يتم إغلاق العالم بشكل فعّال ثم يُعاد فتحه مرة أخرى، وسط اضطرابات سلاسل التوريد العالمية، وأزمة طاقة ناجمة عن الحرب. لا يملك محافظو البنوك المركزية سيطرة تُذكر على جانب العرض، ولا يمكنهم إلا تضييق الخناق على الطلب الذي كانوا يحفزونه بشكل متحمس في الآونة الأخيرة. يمكن للحكومات أن تتلاعب في جانب الإنتاج، ولكن فقط عندما يكون ذلك منطقياً من الناحية التجارية. يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تحدث البنية التحتية أو غيرها من المشاريع الكبرى أي تأثير اقتصادي مُجدٍ، ولكن هناك الكثير مما يمكن أن تفعله السياسة المالية، لا سيما في ظل وجود ضرائب وحوافز الاستثمار.

تضيء الأسهم والسندات باللون الأحمر للإشارة إلى المخاطر الاقتصادية المقبلة. ويمكن تنسيق السياسات المالية والنقدية، بل ويجب ذلك، دون تقويض استقلالية أي من مجموعة صانعي السياسات. وقد حان الوقت للسلطات النقدية على مستوى العالم، لتكرار التوجّه الإبداعي الذي أظهرته خلال فترة تفشي الوباء. ويتعين عليها التدخل الآن، وعلى عجل.