أين اختفى ذهب غينيا؟

قد تحمل قضية غسل أموال في لندن بعض الأجوبة

تاجر يرتب مجوهرات من الذهب في واجهة متجر في إحدى أسواق إسطنبول، تركيا.
تاجر يرتب مجوهرات من الذهب في واجهة متجر في إحدى أسواق إسطنبول، تركيا. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تسعى حكومة غينيا لمعرفة مصير ثلاثة أطنان من ذهبها. والجواب قد يكمن في لندن.

في مارس، ألقت السلطات الغينية القبض على رئيس سابق للبنك المركزي واتهمته بالاختلاس بعد أن قال إن الجهة الوصية على الذهب -شركة التكرير البلجيكية "أفينور بي في بي أيه" (Affinor BVBA)- غير قادرة على إعادته.

سلّط القبض على لونساني نابي ضوءاً جديداً على حكم محكمة سابق في لندن -لم تتم تغطية نبئه– أظهر أن شركة التكرير، التي احتفظت بالذهب وباعته، قد واجهت بالفعل تدقيقاً من قبل الشرطة البريطانية في قضية غسل أموال.

قالت الشركة إنها حصلت على ملايين اليوروات من تداول الذهب في غينيا، تم تحويلها إلى حسابات مصرفية في جميع أنحاء العالم، وبالإمكان إيجاد صلة بين شركة التكرير وبعض هذه الحسابات. ما دفع المدعين العامين إلى القول إن هناك "أدلة دامغة على أن الأموال تم جنيها بشكل غير قانوني من عمليات غسل أموال دولية". أدى ذلك إلى ضبط 34 مليون يورو (35.2 مليون دولار) العام الماضي في أكبر عملية مصادرة لمكاسب مزعومة لجريمة في البلاد.

الطريق إلى لندن

الآن، بات القلق في غينيا يزداد بشأن سلامة ذهبها. إذ تثير صفقة غامضة تمتد عبر ثلاث قارات تساؤلات حول غسل الأموال في سوق السبائك في لندن، حيث يتم تداول تريليونات الدولارات في المعادن النفيسة كل عام.

وفقاً لوثائق المحكمة، باعت شركة "أفينور" الذهب إلى الذراع التجارية لشركة "مصفاة إسطنبول للذهب" (Istanbul Gold Refinery) التي تتخذ من دبي مقراً لها، ثم حولت 50 مليون يورو إلى حسابات في لندن تابعة لشركة محاماة جنوب أفريقية، حيث تم الاحتفاظ بها كضمان لشركة استثمار قبرصية. كتب القاضي جون زاني في حكمه لعام 2020 أن الأموال تبدو أكثر بكثير مما كان يتوقع أن تجنيه "أفينور" من التجارة، مما أثار مخاوف بشأن مصدرها.

اتفقت شركة المحاماة "دو تويت آند كو" (Du Toit & Co) وشركة الاستثمار "إكسيبيريا" (Xiperias) على التنازل عن المبلغ المتبقي البالغ 34 مليون يورو دون الاعتراف بارتكاب أي مخالفات. بدوره، قال متحدث باسم "أفينور" إن شركة التكرير ليست بموضع أن يكون مشتبهاً بها ولا طرفاً في قضية لندن وإنها زوّدت المحكمة بسجل تدقيق الذهب وشرائه من "البنك المركزي الغيني". من جانبها، أكدت شركة "مصفاة إسطنبول للذهب" التي تعرف اختصاراً باسم (IGR)، أنها اشترت الذهب لكنها قالت إنها لم تكن على صلة مباشرة بالبنك المركزي ونفت ارتكاب أي مخالفات.

إن المصافي مثل شركة "مصفاة إسطنبول للذهب" المعتمدة من قبل "جمعية سوق السبائك في لندن" (LBMA)، هي في الغالب شركات صغيرة لتنقية الخام وخردة الذهب التي يتم بعد ذلك إدخالها في النظام المالي العالمي. يُنتظر من هذه الشركات أن تبعد الأموال القذرة، لذا تضع "جمعية سوق السبائك في لندن" قواعد بشأن المواد التي يمكنهم قبولها لضمان عدم تسلل السبائك الملطخة بالجريمة.

طلبات لا تُنفّذ

يقول مارك بيث، مؤسس "معهد بازل للحوكمة"، الذي راجع النتائج التي توصلت إليها المحكمة، إن المتطلبات غالباً لا تُنفَّذ. وأضاف: "معظم هذه المصافي لا تلتزم بجدية على الإطلاق".

من جهتها، لم تعلق "مصفاة إسطنبول للذهب" عند سؤالها عن امتثالها لقواعد "جمعية سوق السبائك في لندن" بشأن المصادر، لكن الشركة قالت العام الماضي إنها "تطبق إجراءات العناية الواجبة في جميع تعاملاتها التجارية مع شركائها". بدورها، قالت "جمعية سوق السبائك في لندن" يوم الأربعاء، إنها لم تتلق أي إخطار رسمي حول هذه المسألة، ولكن "الآن بعد أن أصبحت التفاصيل متاحة، سيتم الشروع في مراجعة أولية قريباً".

تعود جذور أعمال شركة "أفينور" مع غينيا إلى الاضطرابات السياسية التي اجتاحت البلاد في عام 2008 بعد وفاة الزعيم القديم لانسانا كونتي. تبع ذلك حكم عسكري إلى حين اختارت غينيا أول زعيم منتخب ديمقراطياً في عام 2010.

أدت الاضطرابات إلى قيام العديد من البنوك الغربية بإنهاء علاقاتها مع المؤسسات الحكومية، بما في ذلك البنك المركزي. ولم تعد شركات التكرير التي سبق لها التعامل مع غينيا ترغب في التعامل مع ذهبها الحرفي بالدرجة الأولى نتيجة لتشديد القوانين بشأن عمالة الأطفال والأضرار البيئية.

قال بيدي أريبوت، نائب محافظ البنك المركزي السابق، إن ذلك ترك غينيا بدون وسيلة لبيع ذهبها بالعملة الصعبة. وأضاف أريبوت في مقابلة من دبي في أجريت معه في ديسمبر بعد يوم من عزله وحاكم البنك المركزي نابي من منصبيهما من قبل المجلس العسكري الذي وصل إلى السلطة في سبتمبر "كانت هذه أوقاتاً عصيبة بالنسبة لغينيا... لقد أغلقت كل الأبواب".

وذكر أريبوت أنه مع انعدام وجود مكان يمكن التوجه إليه، طلب البنك المركزي من "أفينور"، وهي مصفاة صغيرة تتخذ من ضواحي جينك في بلجيكا مقراً لها. وافقت "أفينور" على تخزين وتنقية ذهب غينيا، بينما كانت تعمل أيضاً كوسيط لها.

حتى في صناعة التكرير المنغلقة، لم يكن هناك لدى الناس الكثير ليقولوه عن "أفينور" أو رئيسها التنفيذي جوس بيكرز، الذي لم يستجب لطلب الحصول على تعليقه.

تُظهر حسابات الشركة وجود موظفين اثنين فقط، وليس لديها اعتماد "التسليم الجيد" اللازم لتكرير سبائك الذهب المقبول من قبل سوق السبائك في لندن. ما يجعل من الصعب عليها بيع كميات كبيرة من الذهب للممولين في المدينة.

لا سبيل لاستعادته

للقيام بذلك، احتاجت إلى وسيط معتمد من "جمعية سوق السبائك في لندن"، وجدته في شركة "مصفاة إسطنبول للذهب". هذه الشركة هي واحدة من شركتين فقط في تركيا حاصلتين على اعتماد "جمعية سوق السبائك في لندن". تعمل المصفاة كحلقة وصل أساسية بين تجار المجوهرات في "البازار الكبير" في إسطنبول والمجمع الهائل للسيولة المتاحة في سوق المملكة المتحدة.

وفقاً لإيداعات الصناديق المتداولة في البورصة التي تتعامل في الذهب، تقع السبائك المختومة بشعار الشركة في خزائن في لندن تابعة لبنك "جيه بي مورغان" و"إتش إس بي سي".

تخضع علاقة "أفينور" مع غينيا للتدقيق الآن من قبل المجلس العسكري هناك. في أواخر يناير، استدعت السلطات كلاً من نابي ومامادي كوندي، الممثل السابق لـ"أفينور" في غينيا، وفقاً لكوندي، الذي غادر البلاد منذ ذلك الحين. أرادت الإدارة الجديدة سحب أكثر من ثلاثة أطنان من الذهب احتفظت بها لدى "أفينور"، لكن المصفاة قالت إن ذلك غير ممكن.

قال أبو بكر كامارا، الممثل القانوني لشركة "أفينور" في غينيا، إنه بمجرد تكرير الشركة للذهب الغيني، لم تعد تحتفظ بالمعدن المادي في مستودعاتها. وقال "الذهب يُودع في كيان حيث ينسب المبلغ المودع للحساب المعدني للبنك المركزي... لم يعد بإمكان البنك المطالبة بالذهب المادي لكن بقيمته بالعملات".

لم يستجب نابي للمكالمات الهاتفية والرسائل النصية. وأكد محاميه، أمارا بانغورا، أن موكله متهم بالاختلاس والإثراء غير المشروع والاحتيال، ولم يصرح بتعليق آخر.

وفق حكم صادر عن محكمة لندن، أخبر محامو "أفينور" المحققين، أن الشركة اشترت الذهب من غينيا قبل بيعه إلى الذراع التجارية لشركة التكرير التركية التي تتخذ من دبي مقراً لها، محققة أرباحاً لا تقل عن 50 مليون يورو.

وأشار زاني في حكمه إلى أن المدعين اعتقدوا أن ذلك مثير للشك. إذ إن غينيا باعت حوالي 200 مليون دولار فقط من الذهب الذي تم الاحتفاظ به لدى "أفينور" في عام 2019، وفقاً للتقرير السنوي للبنك المركزي. وقال مسؤولو البنك إن شركة التكرير لم تحصل على نسبة مئوية من الأرباح.

بدوره، قال جورج غبانامو، رئيس قسم الائتمان والعملات الأجنبية في "البنك المركزي الغيني": "عندما نرى أن السعر جيد، نطلب من (أفينور) إيجاد مشترين لذهبنا... لا تحصل (أفينور) على حصة في المبيعات". بدلاً من ذلك تُدفع رسوم لها لقاء النقل والتكرير والتخزين، بحسب أريبوت، نائب الحاكم السابق لـ"البنك المركزي الغيني".

كما أثارت الطريقة التي نُقلت بها الأموال الشكوك. كان أساس تحويل مبلغ الـ50 مليون يورو هو اتفاق وقع عليه بيكرز، ومدير شركة الاستثمار "إكسيبيريا" ديفيد بوتيراشفيلي للتعاون في تطوير "طرق جديدة لتكرير الذهب"، وفقاً للوثائق الواردة في حكم القاضي.

يقول حكم المحكمة إن "إكسيبيريا"، باستخدام حساب "دو تويت آند كو"، حاولت بعد ذلك توزيع الأموال على 49 كياناً تمتد من كندا إلى هنغاريا. وقالت الشرطة إنها وجدت صلات بين بعض الجهات المتلقية المقصودة والمديرين أو المساهمين في "إكسيبيريا" و"أفينور". ووفقاً للحكم، بدت طبيعة دوران المعاملات وكأنها غسل أموال للمحقق جيمس بيدوك في القضية.

وبحسب وثائق المحكمة، كان أحد المتلقين المقصودين هو شركة "ريفر بيرفكشن" (Riverperfection)، وهي شركة برتغالية يملكها ممثل "أفينور"، ويبدو أنه ليس لديها سجل تجاري. كانت ستحصل على 6.4 مليون يورو لو لم يمنع البنك الذي تتعامل معه الدفعة. ووفقاً لحكم المحكمة، تمتلك "ريفر بيرفكشن" أيضاً "15 سبلاي" (15Supply )، وهي شركة يقال إن بيكرز الرئيس التنفيذي لشركة "أفينور" هو من يديرها.

قواعد الامتثال

تم توجيه النقود أيضاً إلى شركة "فيفزور" (Vivsur) البلجيكية، حيث تم إدراج بوتيراشفيلي كمدير، وكذلك إلى موظفيها والشركات الأخرى التي تشارك المكاتب معها. وتم إرسال أكثر من 100 ألف يورو لشركة واحدة لشراء طاولة طعام من الرخام وثريا وأثاث آخر.

صدر أمر اعتقال بوتيراشفيلي من "إكسيبيريا" وستيفانوس مدير مكتب المحاماة "دو تويت آند كو" في المملكة المتحدة كجزء من التحقيق في غسل الأموال، وفقاً لحكم المحكمة. من جهته، قال بوتيراشفيلي في رسالة بالبريد الإلكتروني، إن المذكرات نُفِّذت لحملهم على الإجابة على الأسئلة ولم تعد سارية المفعول.

وقال ممثل عن شركته "لا يوجد دليل واحد على ارتكاب أي مخالفة". بينما لم ترد "دو تويت آند كو" على رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات. ورفض متحدث باسم مكتب الادعاء في المملكة المتحدة التعليق على وضع التحقيق.

تحظر قواعد امتثال "جمعية سوق السبائك في لندن" التعامل مع غاسلي الأموال المشتبه بهم. ويمكن شطب شركات التكرير التي تخرق هذه القواعد من قائمة "التسليم الجيد"، وهي عقوبة قد تؤدي إلى خسارتها لأعمالها. من المفترض أن تضمن عمليات التدقيق السنوية تلبية المعايير. في هذا السياق، قالت شركة "مصفاة إسطنبول للذهب" إنها لم تكن على دراية بمزاعم غسل الأموال إلى أن علمت بحكم المحكمة العام الماضي.

في فبراير، سافر وفد من "البنك المركزي الغيني"، بقيادة المحافظ المعين حديثاً كارامو كابا، إلى مدينة جينك البلجيكية للاستعلام عن الذهب المتبقي، وفقاً لما ذكره كامارا، الممثل القانوني لشركة "أفينور". يُذكر أن الذهب يشكل جزءاً مهماً من احتياطيات البنك المركزي الصغيرة نسبياً التابعة لغينيا، والتي تعمل بمثابة حاجز ضد الصدمات الاقتصادية.

في ذلك الشهر، قال كامارا خلال واحد من أكثر البرامج الحوارية مشاهدة في البلاد: "لقد فوجئت بسماع وصف موكلي بالمحتال واتهامه بتبديد ذهب بنك غينيا المركزي... الذهب موجود، لكنه لم يعد مادياً، إنه في شكل رقمي في حسابات البنك لدى (أفينور)".

من جهته، امتنع المتحدث باسم البنك المركزي موسى منساري عن التعليق على القضية المرفوعة ضد المحافظ السابق. وقال إن المناقشات مع "أفينور" جارية. وأضاف "ما زلنا نأمل أن نتمكن من إيجاد حل لهذه المسألة مع شريكنا".

معادن نفيسة