التأثير البطيء للعقوبات منح بوتين "حتى الآن" فرصة للصمود

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء ترؤسه اجتماعاً حول تطوير صناعة النفط عبر الفيديو في موسكو، يوم 17 مايو 2022. حتى الآن، أنقذت عائدات تصدير النفط والغاز الاقتصاد الروسي من أزمة عميقة كان يمكن أن تتسبب بها العقوبات الغربية بسبب الحرب في أوكرانيا.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء ترؤسه اجتماعاً حول تطوير صناعة النفط عبر الفيديو في موسكو، يوم 17 مايو 2022. حتى الآن، أنقذت عائدات تصدير النفط والغاز الاقتصاد الروسي من أزمة عميقة كان يمكن أن تتسبب بها العقوبات الغربية بسبب الحرب في أوكرانيا. المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على إرسال فلاديمير بوتين قواته إلى أوكرانيا، باتت روسيا أكثر دولة تتعرض للعقوبات على الإطلاق. لكن بفضل صعود أسعار صادراته من النفط والغاز، نجح الكرملين في تحقيق الاستقرار في سعر صرف الروبل، والحد من تأثير العقوبات على المستهلكين، وعلى المجهود الحربي.

هذا هو الوضع حتى الآن.

تظهر مؤشرات على هذه الضغوط في كل قطاعات الاقتصاد الروسي، بدءاً من المتاجر المغلقة لعلامات تجارية أجنبية هربت من البلاد، وصولاً إلى الهبوط الحاد في مبيعات السيارات، وطلبات الحصول على الرهون العقارية، فضلاً عن العديد من عمليات جباية الضرائب. ورغم أنهم لن يقولوا ذلك في العلن، إلا أن مسؤولي وزارة المالية توقعوا أن تشهد البلاد هذا العام، أكبر انكماش اقتصادي خلال جيل واحد، حيث تحرم العقوبات الشركات من المكونات الأساسية، والتكنولوجيا، ورأس المال.

اقرأ أيضاً: روسيا: نصف عملاء "غازبروم" بالخارج فتحوا حسابات بالروبل

رغم أن هذه التأثيرات، البطيئة إلى حد ما، قد لا تكون كافية لإجبار بوتين على تعديل مساره في ما يتعلق بحرب أوكرانيا، إلا أنه من المنتظر أن يزداد الضغط الاقتصادي على الكرملين بطريقة كبيرة في وقت لاحق من العام الجاري، خصوصاً في ظل مناقشة الاتحاد الأوروبي حالياً فرض حظر على النفط الروسي.

اقرأ المزيد: "بوتين" لأوروبا: لا بديل لكم عن الغاز الروسي

قال دانييل فرايد، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية: "لن توقف عملية فرض العقوبات وحدها حرب بوتين، لكن العقوبات المصاحبة لممارسة الضغط العسكري، تجعله في وضع حرج". وأضاف: "ليس الأمر مستحيلاً، ولكنه يغير الاحتمالات".

اقرأ أيضاً: واشنطن وموسكو تتقاذفان الاتهامات حول المسؤولية عن تدهور الأمن الغذائي العالمي

صراع وجودي

حتى الآن، كان للتدفق المتواصل للأسلحة والمساعدات الأخرى إلى كييف، التأثير الأكبر في مساعدة أوكرانيا على صد الهجمات الروسية. يعترف مسؤولو الكرملين سراً بأنهم لم يتوقعوا أن تتحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها بهذه السرعة لتوفير دعم واسع بهذا الشكل لأوكرانيا.

قال هؤلاء الأشخاص، إن بوتين لا يساوره القلق حيال التكلفة الاقتصادية، حيث يشاهد الأمر باعتبار أنه صراع وجودي من أجل النجاة من الناحية الجيوسياسية لروسيا مع الولايات المتحدة وحلفائها.

قال سيرغي غورييف، الخبير الاقتصادي الروسي المقيم في باريس، والذي دعا إلى فرض عقوبات أشد قسوة: "توقف الاقتصاد عن كونه مصدر شرعية بالنسبة إلى بوتين.. ومن أجل إجباره على التفكير في الشأن الاقتصادي، يتعين فرض حظر على النفط والغاز".

يُعد هذا هدفاً صعب المنال، خصوصاً عند الأخذ في الحسبان اعتماد أوروبا على الوقود الروسي. لكن فرض قيود على النفط، مسألة تخضع لمناقشات حثيثة.

من جهتها، قالت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، الأربعاء، قبيل انعقاد اجتماع لرؤساء مالية مجموعة الدول السبع الكبرى: "نتقاسم جميعاً هدف تقليص الإيرادات، الأمر الذي سيجبر روسيا على شراء السلع والخدمات لمساعدة اقتصادها وجعله قادراً على تمويل حرب". وأضافت: "نحن نقوم بأمور كثيرة ستكون فعالة في الحد من وصولهم إلى السلع والخدمات التي يحتاجون إليها".

تفادي الأسوأ

تمكنت روسيا من الحد من الانعاكاسات الأولية في بداية نشوب الحرب، وتفادت حدوث أزمة مالية من خلال زيادة أسعار الفائدة وفرض قيود صارمة على إخراج الأموال من البلاد عقب فرض الولايات المتحدة وحلفائها عقوبات على البنك المركزي واحتياطاته البالغة 600 مليار دولار.

قال سكوت جونسون، الخبير في الاقتصاد الروسي لدى "بلومبرغ إيكونوميكس"، إن العقوبات تدفع روسيا للقيام بعملية إعادة تشكيل اقتصادها، الأمر الذي سيترك هذا الاقتصاد أشد فقراً وأبطأ نمواً، رغم أن التكلفة الكاملة ستتطلب وقتاً حتى تتحقق على أرض الواقع. وأضاف أن ما يتبقى، هو معرفة ما إذا كان للمعاناة التي تعيشها العائلات والشركات، أي تأثير ملموس على السياسة الخارجية للكرملين.

لكن، رغم مفاخرة بوتين بأن روسيا "تتصدى بثقة" للتأثير الناجم عن العقوبات، وترويجه لتعافي الروبل من أدنى مستوياته في غضون فترة قصيرة أعقبت بداية الغزو، إلا أن مسؤوليه غير متفائلين. فقد ذكر تقرير للبنك المركزي الروسي في 11 مايو الجاري، أن صعود الروبل هو في الحقيقة انعكاس لتأثير العقوبات، وليس العكس.

قال البنك إن القيود، إلى جانب وقف الشركات الأجنبية لأنشطتها التجارية مع روسيا، تسبب في تراجع الواردات. ونتيجة لذلك، فإن الطلب على العملات الأجنبية نضب تماماً، في سوق حرمت فيه قيود رأس المال المشترين الآخرين المحتملين من المشاركة.

أظهر استطلاع للرأي نشره بنك "أوكريتي" (Otkritie) هذا الأسبوع، أن 58% من الروس قالوا إنهم لاحظوا وجود نقص في المواد الغذائية في المتاجر منذ اندلاع الحرب، فيما قال ثلثهم إنهم يقومون بالتخزين. كما أظهر استطلاع آخر أجراه "مركز ليفادا" (Levada Center) المستقل، أن 85% ممن شملهم الاستطلاع قالوا إن الوقت الحالي يُعد سيئاً للقيام بعمليات شراء كبيرة أو الحصول على قرض، وهي أعلى نسبة منذ ما يفوق عقد من الزمان.

عودة إلى التسعينيات

"التصنيع العكسي"، هو المصطلح الذي قام بصياغته خبراء اقتصاد لدى البنك المركزي الروسي في تقرير حديث حول ما تتعرض له روسيا. قالوا إن ظواهر منسية منذ مدة زمنية طويلة، على غرار التجارة المكوكية -وهي الأنشطة التجارية التي تعود إلى فترة التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان الروس يسافرون في مجموعات ضخمة إلى مناطق مثل الصين وتركيا للعودة بأكياس ضخمة تحتوى على ملابس وغيرها من السلع الاستهلاكية لبيعها- ستعود على الأرجح.

قالت تاتيانا أورلوفا، الخبيرة الاقتصادية في شركة "أكسفورد إيكونوميكس" (Oxford Economics)، إن القيود على الاستيراد "أشبه بالسم بطيء المفعول". وأضافت: "مع مرور الزمن، سيسفر فرض هذه العقوبات عن القضاء على معدات كثيرة لن تكون هناك إمكانية لتعويض مكوناتها".

أوقفت روسيا نشر بيانات تفصيلية كثيرة حول التدفقات التجارية التي ستوفر مؤشرات حول تأثير القيود المفروضة. لكن الأرقام الواردة من أكبر الشركاء التجاريين لروسيا، تكشف أن الواردات هبطت بنسبة بلغت 45% خلال شهر مارس من هذا العام، بحسب شركة "كابيتال إيكونوميكس" (Capital Economics).

بحسب معهد التمويل الدولي، فإن عملية حظر النفط الروسي التي تخضع للنقاش في الوقت الحالي من قبل الاتحاد الأوروبي، ستكلف روسيا خسارة تصل إلى 155 مليار دولار على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة.

مبيعات السيارات

يقدم قطاع السيارات نظرة تحذيرية لما قد يحدث فيما بعد. برزت فيما مضى جهود بوتين لجذب الشركات الأجنبية والتنويع الاقتصادي بعيداً عن قطاع النفط والغاز، وتوقف القطاع على نطاق واسع منذ نشوب الحرب، حيث أغلقت الشركات الخارجية العملاقة مصانعها، وأوقفت إمدادات مكونات الإنتاج الحيوية.

هبطت مبيعات السيارات خلال شهر أبريل الماضي بنسبة 80% تقريباً، وهو الانخفاض الأكبر على الإطلاق. حتى الشركات الصينية، التي كانت روسيا تطمح في أن تتدخل لسد الفجوة في ظل مغادرة المنتجين الأوروبيين والأمريكيين، أعلنت عن تراجع في أحجام المبيعات.

ردّ الكرملين بتأميم بعض المصانع، وتعهّد بإحياء العلامات التجارية التي تعود إلى الحقبة السوفييتية. بغض النظر عن رفع القيود المفروضة على السوق الموازية، والإمدادات غير المصرح بها، لم يقدم المسؤولون أي علامة تدل على المصدر الذي يمكن أن تأتي منه مكونات التصنيع.

نقدم في ما يلي، نظرة على ثلاثة عناصر أساسية للتأثير الناجم عن العقوبات المفروضة على روسيا:

أزمة مالية

استطاعت روسيا حتى الآن، تفادي تكرار انفجار الأزمة التي شهدتها في أواخر عام 2014، عقب موجات سابقة من فرض العقوبات المرتبطة بأوكرانيا، إلى جانب انهيار أسعار النفط، ما أسفر عن هبوط سعر صرف الروبل، وأشعل موجة من حالات الإفلاس بين البنوك.

في هذه المرة، أغلق البنك المركزي كل القنوات الخارجية بقيود رأس المال، والتي –إلى جانب قرار شركتي "فيزا" و"ماستركارد" بوقف استخدام الروس لبطاقاتهم في الخارج– أسفرت عن تدفق رأس المال إلى الخارج، بحسب أوليغ فيوجين، وهو مسؤول سابق في البنك المركزي ووزارة المالية.

أضاف فيوجين: "في الوقت الحالي، تبقى كل الأمور متماسكة بفضل صادرات الطاقة.. في حال وجود قيود جادة جرى فرضها هنا، سنرى تأثيراً للعقوبات المالية".

تقليص الميزانية

أي طموحات لدى الولايات المتحدة وحلفائها تتعلق بأن عملية فرض العقوبات ستحرم الكرملين من الأموال التي يحتاج إليها لتمويل الحرب، لا يبدو أنها تتحقق حتى الآن. باتت إيرادات الميزانية خلال السنة الحالية حتى الآن، قريبة من تسجيل مستويات قياسية، وذلك بفضل صعود أسعار الطاقة. وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى حدوث عجز طفيف فقط خلال الأعوام القليلة المقبلة. يجري تصنيف المبلغ الذي ينفقه الكرملين على الحرب على أنه معلومة سرية، ما يجعل من عملية قياس التأثير مسألة صعبة.

ربما تسفر الأزمة الاقتصادية العميقة التي تحتاج إلى إنفاق أكبر كثيراً على البطالة والمزايا الأخرى إلى إرهاق موارد الكرملين، بيد أن ذلك لن يحدث في الأجل القريب، بحسب خبراء اقتصاد.

قالت أورلوفا من شركة "أكسفورد": "سيبدأ شعور الروس بالفقر عندما يبدؤون في خسارة وظائفهم"، محذرة من أنه مع تحرك أوروبا للقضاء على إمدادات الطاقة الروسية، ستتراجع على الأرجح أيضاً أحجام الصادرات، ومن ثم ستهبط إيرادات الميزانية في غضون الأعوام القليلة المقبلة.

نمو متعثر

تشير التوقعات الرسمية للبنك المركزي إلى أن الاقتصاد الروسي سينكمش بنسبة تتراوح بين 8% و10% خلال العام الجاري، في ظل نسبة تراجع بلغت في الربع الأخيرة من العام الماضي 16.5%. حذّر البنك من أن عمليات فرض العقوبات والعزلة ستحد من إمكانات نمو البلاد، علاوة على أدائها الحقيقي.

يعتمد مدى عمق واستمرارية هذا الوضع الحرج، على نجاح قدرة الكرملين في العثور على موردين بديلين لتوفير ملايين الأشياء التي لم يعد بالإمكان استيرادها من الولايات المتحدة وحلفائها. يقول مسؤولون وخبراء اقتصاد إنه سيكون من الصعب تعويض الرقائق الإلكترونية وغيرها من السلع فائقة التكنولوجيا بصفة خاصة.

حذّرت وزارة الاقتصاد هذا الأسبوع من أن الركود قد يمتد إلى العام المقبل، وهي أول مرة يمكن تذكرها التي تشهد فيها روسيا انكماشاً في ظل صعود أسعار صادراتها السلعية، وفقاً لما ذكرته وكالة "تاس".

حتى الآن، رفضت الحكومة الروسية مطالبات من متشددين بفرض تأميم كاسح للمصانع المملوكة للأجانب، على أمل الاحتفاظ بقدر طفيف من القدرة على المنافسة، وتفادي حدوث الركود الخرافي الذي يعود إلى العهد السوفييتي.

ستجبر خطط أوروبا لتقليص إمدادات الطاقة الروسية موسكو، على إنفاق المليارات على البنية التحتية الجديدة لنقل الإمدادات إلى عملاء في منطقة آسيا. قالت أورلوفا: "كل شيء ينوء فعلاً بما يفوق قدرته وموارده".

رغم ذلك، يبقى السؤال مطروحاً حول ما إذا كان هذا الضغط، سيكون كافياً لينال من عزيمة بوتين.

قالت أوكسانا أنتونينكو، مديرة شركة "كونترول ريسكس" (Control Risks) في لندن: "لقد شاهدنا نماذج من دول أخرى على غرار إيران وفنزويلا، حيث لم يسفر التطبيق فترات طويلة لفرض عقوبات صارمة تماماً عن حدوث تغير في عملية صنع القرار". وأضافت: "هذا أمر مفهوم بقدر كبير لدى الغرب".