ارتياد مطاعم لندن يخفف وطأة غربتي

لقد اعتبرت نيويورك وطناً منذ نحو أربعة عقود فهل سيمكنني التكيف مع العيش في لندن؟

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بقلم: Howard Chua-Eoan

الوطن لغز، فهو مكان تنشأ فيه، وترغب أن تعيش فيه بعد المشيب، وقد تغادره هارباً لتعود فتفتقده. إنَّه شعور مختلط بأنَّ للوطن حلاوة، وأنَّه يفتقر لها أحياناً. تعلمت أنَّ الإحساس بأنَّك في وطنك قد يأتي عبر وليمة في أي مكان.

كنتُ أحد سكان نيويورك الذين يُتندر بأنَّهم حوّلوا فرن المطبخ لخزانة أحذية لأنَّ المدينة هي مطبخي، فقد كنت أتناول الطعام في الخارج كل يوم تقريباً بدءاً بكوب القهوة صباحاً قبالة شارع أمستردام وصولاً لشرائح بيتزا عند منتصف الليل في مطعم "جو" (Joe) في شارع كارمن. نقلني العمل إلى لندن قبل أربع سنوات، وكنت مُتحمساً ولكني خائف أيضاً، فقد اعتدت أنَّ أعتبر نيويورك وطناً منذ نحو 40 عاماً، فهل أتكيّف مع لندن؟ أين سأتناول الطعام؟ وهل عليَّ أن أطبخ؟ لقد أقلقتني الاحتمالات.

طاهيتان تتغلبان على منافسيهما الذكور وتتصدران جوائز "ميشلان" في لندن

طلبت مساعدة من فابيان فون هاوسكي فالتييرا وجيريمايا ستون، وهما ثنائي طهاة لدى مطعمي "وايلدير" و"كونترا" المفضلين لديَّ في الناحية الشرقية. قالا إنَّهما سيراسلان جيمس عبر البريد الإلكتروني كي يطلبا الاهتمام بي، وكانا يقصدان جيمس لوي، كبير طهاة مطعم "ليلز" (Lyle’s) في شورديتش، أحد أفضل المطاعم في لندن، ويصعب الحجز فيه حتى في ليلة نهاية الأسبوع. هل يمكنني أن أدخل إلى "ليلز" وأقول إنَّ فابيان وجيريمايا أرسلاني؟

مساعدة لا تثمن

كان لمكتب الاستقبال رهبة، لكنَّ جيمس تلقّى رسالة البريد الإلكتروني الذي حمل اسمي في سطوره. التقطت صورة أول طبق لي هناك، وهو عبارة عن وجبة جميلة من البازلاء الإنجليزية الطازجة الخضراء مع كرفس جبلي وجبن طازج. لم أكن أحب الكرفس الجبلي حينها، لكنني أحببته بعد تناول هذا الطبق.

لم يكن الطعام فقط هو سبب حبي لمطعم "ليلز"؛ فقد لبى حاجتي للشعور بأنني في وطني. تبدو نيويورك صعبة لكن لندن ليست سهلة، فشعرت بالوحدة في بادئ الأمر، واعتقدت أنَّني ارتكبت خطأً فادحاً بانتقالي. لكن كلما أحسست أنَّني غريب عن المدينة، وكان هذا الشعور ينتابني مرة كل أسبوع تقريباً؛ كنت أتوجه إلى "ليلز" الذي سرعان ما أصبح المكان الذي يعرف كل العاملين فيه اسمي. لن تُثمن مساعدة هذا المطعم لي على الاستمرار خلال الأشهر الأولى.

مطاعم بريطانيا تعاني من نقص الطهاة مع عودة تقديم الطعام في الداخل

ساعدني "ليلز" لأنطلق في المدينة، فقد عبرت جسر البرج على اقتراح من نادل إلى بيرموندسي لأجلس في مطعم "40 مالتبي ستريت" (40 Maltby Street) الذي يُعد مأكولات معتادة بتميز، ومنها كبد الدجاج على الخبز المحمص، وفطائر الطماطم، وكتف الضأن المشوي. قادني صديق تعرّفت عليه هناك إلى "كواليتي واينز" (Quality Wines) على طريق فارينغدون حيث أخفت بساطة شديدة في طبق مثل السردين مع حمص حار بالليمون وزيت الزيتون ثراء النكهات. حين جاء فابيان زائراً اصطحبني إلى مطعم "برايت" (Bright) في حي هاكني، وسرعان ما أصبحت من مرتاديه. أضاف التواصل مكاناً تلو الآخر إلى دورياتي اليومية، وسرعان ما أتيحت لي صالات الطعام في جميع أنحاء لندن.

فشل في المطبخ

يزيد تكرار الزيارات من التعلق، لكنْ للشدائد ذات الأثر. توجب أن أتعلم الطبخ لدى إغلاق لندن في مارس 2020، وكان ما طهيته بشعاً، فأنقذني أصدقاء المطعم مجدداً. أرسل لي تشيس لوفيكي، كبير طهاة مطعم "تو لايتس" (Two Lights) فطائر باللحم. ركّز مطعم جيمس الجديد "فلور" (Flor)، الذي تديره بام يونغ، على البيتزا الجاهزة، وكنت أتردد مراراً قاطعاً 6 كيلومترات ذهاباً وإياباً لجلب تلك المخبوزات الساحرة السميكة التي تكسوها مكونات متنوعة مثل النقانق، وجبن الموزاريل،ا وفطر جيرول والكوسا، مع مايونيز بالثوم الأخضر على الجانب أو أنشوجة كانتابريا إضافية. لقد قوّض الوباء "تو لايتس" و"فلور" وما أزال حزيناً لغيابهما.

كيف أسهم وباء "كورونا" في زيادة الإقبال على لحم الضأن؟

لكني مبتهج لأنَّ الكثير مما أفضّل نجا، ولولاهم لما تمكّنت من الاستمرار في لندن. لقد ذقت معهم الفرح والألم وغدوا وطناً لي.

اصطحبت زميلاً من نيويورك إلى مطعم "ليلز" لتناول العشاء قبل بضعة أسابيع. جاء النادل وقال لصديقي: "أنت تعرف بصحبة من أنت؟ إنَّه أكثر الشخصيات المهمة لدينا". لا أبالغ بقولي قد دمعت عيناي.

كانت لي تجربة مشابهة في نيويورك منذ عقد إلا أنَّها كانت أخشن في مطعم "بلو هيل" (Blue Hill) في مانهاتن حين دخل أحد مالكي مطعم محبوب آخر بصحبة كبير طهاته وجلسا قبالتي، فلاحظني أحدهما على الفور وقال: "أيها الخائن، هل تصاحب مطعماً آخر؟" فتعالت ضحكاتنا.