حصفاء لا يرون الركود التضخمي وشيكاً

خطر الركود حقيقي.. لكن غياب عديد من علامات التحذير التي صاحبت وقوعه تاريخياً حقيقي أيضاً

إعلان طلب موظفين في الولايات المتحدة
إعلان طلب موظفين في الولايات المتحدة المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لن تجد مفراً من تصوّر أن ارتفاع الأسعار يقوّض اقتصاد الولايات المتحدة، أياً كان المصدر الذي تستقي منه الأخبار. على منصة "بلومبرغ"، التي تضم 150 ألف مصدر إخباري بالمجمل، تبدو مسألة الركود أمراً مقضياً. فقد زاد عدد عناوينها التي شملت كلمة "تضخم" 345% إلى 186 ألف مرة شهرياً منذ بداية 2020، فيما انخفض استخدام عبارة "الاقتصاد القوي" 48% إلى 1766 مرة شهرياً.

كل ذلك مفهوم وسط تهاوي سوق الأوراق المالية وفيما يتنبأ كثير من المعلقين البارزين، ومنهم وزير الخزانة السابق لورانس سومرز، ورئيس مجموعة "غولدمان ساكس" التنفيذي السابق ولويد بلانكفين، بتعاظم التضخم ويتحدثون عن زيادة احتمالات ركود الاقتصاد.

تصدعات في الاقتصاد الأمريكي تلوح وسط تحذيرات من الركود

لم يبهر أولئك تعافي إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة من أزمة كوفيد-19 بأسرع وتيرة شهدها عصرنا ليتجاوز أعلى مستوياته قبل انتشار الجائحة عند 21.4 تريليون دولار. ولم يجدوا متنفساً في أن مقياس الأسعار المفضل لدى "الاحتياطي الفيدرالي"، وهو مؤشر أسعار الإنفاق الاستهلاكي الشخصي الأساسي، لا يداني جموحه الكارثي في السبعينيات، رغم أنه ارتفع بأعلى وتيرة هذا العام منذ 1983.

تطغى نبوءات اتجاهنا نحو ركود تضخميّ على إجماع اقتصاديين عليمين يرون أن اقتصاد الولايات المتحدة سيحقق نمواً حتى 2024 وانحسار التضخم إلى ثلث معدله الحالي البالغ 8.3%.

سبعة وسبعون اقتصادياً يساهمون بالكتابة لـ"بلومبرغ" يتنبأون بأن الولايات المتحدة ستجاوز من حيث أداء إجمالي الناتج المحلي الدول المتقدمة الأعضاء في مجموعة السبع خلال الأعوام الثلاثة المقبلة.

غياب الانكماش

جميع الاقتصاديين الذين يقدمون توقعات ربع سنوية، وهم 56 اقتصادياً، لا يتوقعون نمواً بمعدلات مستقرة على مدى سبعة فصول متتالية فحسب، بل يتوقعون غياباً للانكماش.

تتجه البطالة في الولايات المتحدة لتنخفض إلى 3.5% في الربع الثالث من العام الحالي، وأن تظل منخفضة على مدى عدة سنوات بعدما تحسنت أخيراً بأفضل وتيرة في تاريخها حين انخفضت إلى 3.6%، وهو تقريباً أدنى مستوى لها في 5 عقود، مقارنة بذروة نسبتها 14.7% بلغتها في 2020.

ستجعل هذه الأرقام نسبة البطالة في الولايات المتحدة ثاني أدنى نسبة في دول مجموعة السبع بعد اليابان، حسب توقعات 50 اقتصادياً استطلعت آراءهم "بلومبرغ".

يحدد الاقتصاديون درجة احتمال الركود الاقتصادي عند 30%، ارتفاعاً من نسبة 15% في نهاية يناير الماضي، غير أن هذه النسبة ليست كبيرة بالمعايير التاريخية.

محللو "غولدمان" و"جيه بي مورغان" يرون مبالغة في مخاوف الركود

لا يعرف أحد كيف ومتى سيختفي أكبر عاملين تأجيجاً للتضخم، وهما أزمات سلاسل التوريد ونقص السلع الأولية التي تفاقمت بسبب استراتيجية "صفر-كوفيد" في الصين التي تضغط بشدة على نشاط الاقتصاد، وحرب روسيا في أوكرانيا.

تشوب فرضيات أخرى أسباب تمسك الاقتصاديين بتوقعاتهم. حين أصبح الفارق بين عوائد السندات لأجل 10 سنوات وعوائد السندات لأجل عامين سلبياً في مارس، بادر المعلقون بتوقع الركود لأن فترات الركود الست منذ 1980 أتت بعدما انقلب منحنى العائد أو صار سلبياً.

الأصوات خفتت

صَمَتَ المعلقون أنفسهم إلى حدّ كبير حين تحوّل منحنى العائد إلى الإيجابية أوائل الشهر الحالي بما يزيد على 0.2 نقطة مئوية، فيما خفتت أصوات المرجفين حول ارتفاع التضخم حين انخفض مؤشر أسعار المستهلك إلى 8.3% الشهر الماضي من 8.5% في مارس. وتراجع مؤشر أسعار الإنفاق الاستهلاكي الشخصي، وهو مقياس التضخم المفضل لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي، إلى 5.18% من 5.31%. كان أوسط توقعات 69 اقتصادياً أن يرتفع مؤشر أسعار المستهلك إلى 7% هذا العام قبل أن ينخفض إلى 3% في 2023 ثم إلى 2.4% في 2024.

الأسهم الأمريكية تغرق وسط مخاوف بشأن الأرباح والنمو فيما تعزز السندات مكاسبها

إنّ خطر الركود حقيقي بالتأكيد، لكن كذلك حال غياب عديد من علامات التحذير التي صاحبت وقوعه تاريخياً، انخفضت نسبة العجز إلى إجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة إلى 4.9% في أبريل من 18.6% في مارس 2021، أي إنها انخفضت إلى مستوى يجاوز مستوى ما قبل جائحة كورونا بمقدار 0.1 نقطة مئوية، ولا يجاوز متوسطها خلال 5 عقود إلا بنحو 1.6 نقطة مئوية، حسب بيانات جمعتها "بلومبرغ".

ارتفع مؤشر "بلومبرغ" لأسعار الدولار الفورية، الذي يتتبع أداء 10 عملات رئيسية مقابل الدولار، إلى مستوى يزيد 14% على متوسط مستواه منذ 2015 حين بدأ.

تكلفة القروض

رغم كل هذا القلق بشأن أداء الأسواق المالية، فإنّ تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة حالياً في أدنى مستوياتها منذ 1975، أي لدى إتاحة هذه البيانات لأول مرة، ويشمل ذلك قروض الحكومة الفيدرالية والولايات والحكومات المحلية، إضافة إلى قروض الشركات الأمريكية، وفقاً لمؤشر "بلومبرغ" المجمع للسندات الأمريكية.

لا يزال تمويل الديون منخفضاً بمقدار 2.8 نقطة مئوية عن متوسط 47 عاماً الذي يبلغ 6.3%، حتى بعد ارتفاع عوائد السندات بمقدار نقطتين مئويتين عن أدنى مستوياتها.

العريان: الاقتصاد الأمريكي لن ينجو من الركود التضخمي رغم تشديد "الفيدرالي"

قال دان إيفاسكين، العضو المنتدب ورئيس الاستثمار لدى عملاقة الاستثمار في السندات التي تبلغ قيمة أصولها 2.2 تريليون دولار "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت": "مررنا بفترة طالت من انخفاض أسعار الفائدة إلى مستويات شديدة التدني،" وأضاف في مقابلة في مقر الشركة في نيوبورت بيتش بكاليفورنيا الشهر الماضي: "الأُسَر الأمريكية في وضع جيد للغاية، لذا يتمتع الاقتصاد بقدرة بنيوية على امتصاص الصدمة قد تمنحه قوة وافرة لمواجهة ارتفاع أسعار الفائدة".

كان توأم مواني جنوب كاليفورنيا، لوس أنجلوس ولونغ بيتش، الذي يستقبل نحو 40% من السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة، يعاني منذ عام واحد فقط من أزمات غير مسبوقة في سلاسل التوريد العالمية بسبب جائحة كورونا. لقد عبر أسوأ مراحل هذه الأزمة بحلول النصف الثاني من 2021، الذي شهد نشاطاً قياسياً يبدو أنه سيستمر.

قال ماريو كورديرو، المدير التنفيذي لميناء "لونغ بيتش" في مقابلة في كاليفورنيا في أبريل: "أعتقد أننا سنعوض الأداء السلبي للعام الماضي".

"غولدمان ساكس": الركود سيباغت توحش الدولار

ما تفسير هذا الصدام بين الفكر الاقتصادي التقليدي والأرقام الاقتصادية الحالية؟

يشترك كبير اقتصاديي "بلومبرغ" توم أورليك وزميلته أنا وونغ، خبيرة الاقتصاد الأمريكي لدى "بلومبرغ"، في موقف نظرائهما المتوازن والهادئ حيال التضخم والنمو الاقتصادي، ويعزوان الفجوة بين التشاؤم والتفاؤل إلى غياب أي تجربة سابقة تقارن بأي درجة مع الوضع الحالي في الذاكرة الحديثة.

قالت وونغ: "إننا نحتاج حقاً إلى العودة في الزمن إلى وباء الإنفلونزا الإسبانية في 1918 أو طاعون الموت الأسود في العصور الوسطى حتى نجد التصورات التي تساعدنا على التعرف على الوضع الراهن".

بيّن أورليك: "لا يوجد أي نوع من البيانات والعلاقات التاريخية ليكشف لنا الأثر الذي سينجم عن غزو روسيا لأوكرانيا. ولا يمكنك أن تتجه إلى التاريخ بحثاً عن دروس حول تأثير قرارات الإغلاق في الصين في مواجهة فيروس (أوميكرون)... يجلب التطرق إلى سيناريو المخاطر الاهتمام على الدوام، خصوصاً حين يكون هذا السيناريو جذاباً مثل خطر الركود، بدل التطرق إلى حالة أساسية مقتضاها أن كل شيء على ما يرام".