يمكنك ملاطفة صغار الحيتان في مياه سان إغناسيو بالمكسيك

بقلم:سارة كليمنس

كان يوماً عاصفاً قرب شاطئ سان إغناسيو لدرجة أنَّ أمواجه كانت تأتي من كل صوب، كما كانت تضرب قاع قاربنا المصنوع من الألياف الزجاجية. كان الموج يعلو ويتلاطم ثم يقذف بقاربنا وطوله 5.7 أمتار قبل أن ينحسر. كان أطفالي في حالة فرح برعونة المركب على الموج برغم أنَّ تلك لم تكن بغية رحلتنا من باها في كاليفورنيا إلى هذا المكان البعيد.

رحت أرصد المحيط المائج بحثاً عن نافورة مميزة، كانت سبب وجودنا هناك، وعن نفثة الحوت الرمادي المميزة بشكلها الذي يشبه رسم القلب المجازي. برز جسم داكن من الماء بعيداً، ثم عاد لينسل تحت السطح، وبقي ماء زفرة الحوت في الهواء برهة قبل أن يعود إلى المحيط.

رحلات بحرية ويخوت فخمة تغزو جزر غالاباغوس

قال المرشد فيما تدلى فوق حافة القارب: "ساعديني كي أثير سطح الماء"، فمددت ذراعي حتى المرفق في الماء مستجيبة لإحداث ما يبدو أنَّها طريقة اجتذاب حيوان بحجم غرفة معيشة ليقترب منك.

استجابت لدعوتنا أم وصغيرها الذي بلغ عمره بضعة أسابيع. بقيت الوالدة بعيدة، لكنَّ "الصغير" رفع مقدمة رأسه نحو متر ونصف فوق سطح الماء بجوار قارب الصيد البسيط، وكان يشبه خطم دمية. وجه صغير الحوت ضيق وفي جلده نتوءات وتضاريس شاحبة كما تلتصق به قشريات بحرية. طفا مجدداً، وغطس، ثم دنا مني، وقد استطعت رؤية فتحة تنفسه المزدوجة تنفتح حتى شعرت ببخار أنفاسه على وجهي. عام على جانبه كما حالة جرو يزن طنين، ثم فتح فمه، وكأنما راح يبتسم. مددت يدي لألمس مقدمة رأسه برفق، يحدوني شعور يشبه الرغبة بمداعبة بطن جرو؛ لكن بتردد. شعرت كما لو سَرت في جسدي شحنة كهربائية وكان ملمس مقدمة رأسه يشبه قوام بيضة مسلوقة بشكل جيد.

أتفاعل عموماً مع مثل هذه الأمور بمزيج من رهبة ونفور وقلق خشية الأضرار والأمراض التي قد تأتي من التعامل مع المخلوقات غير المروّضة، وهي في بعض الأحيان تأتي من الحيوان أو تصيبه. يمكن أن تتعرض الحيوانات لتوتر شديد قاتل، أو أن تعتاد وجود البشر. يُساء التعامل مع الحيوانات أو استغلالها في جميع أنحاء العالم على يد أشخاص يسعون للتربح؛ حيث يخدرون النمور، ويقيدون الفيلة بالسلاسل.

مع ذلك؛ أحضرتُ عائلتي إلى سان إغناسيو، وهي أحد الأماكن القليلة التي تتيح للبشر مداعبة الحيتان. تقطع الحيتان الرمادية كل عام آلاف الكيلومترات آتيةً من مناطق تغذيتها في مياه القطب الشمالي. تتزاوج الحيتان، وتلد وتُعد صغارها لتسبح مسافات طويلة في أربعة مواقع ضحلة دافئة ومحمية نسبياً على ساحل المحيط الهادئ قبل أن تعود إلى موطنها.

إليك أخبار جيدة عن المناخ والبيئة البرية

تسعى بعض الحيتان أو تسمح أثناء وجودها هنا بدنو السياح، وهم مجموعات محدودة العدد، حيث يُسمح فقط بوجود 16 قارباً صغيراً كقاربنا في منطقة المراقبة المعتمدة في وقت واحد. يمكن للسياح اعتماداً على الحظ والتوقيت أن يشاهدوا غزل الحيتان ويلمسوا زعانفها، أو تحسس الشرائح المشطية الخشنة التي تحجز عوالق الماء في أفواهها، أو حتى تقبيل جلدها البارد المالح.

ليس الانبهار بالحيتان، أكبر المخلوقات في العالم، جديداً؛ فقد صورت فنون الإغريق والرومان والإتروسكان وحوشاً مخيفة تشبه الحيتان.

سمكة الشيطان

أصبحت الحيتان هدفاً للصيد سعياً للحومها وزيتها وعظامها وأمشاط أفواهها القرنية. أطلق صائدو الحيتان تاريخياً على هذه الحيتان الرمادية اسم "سمكة الشيطان" لأنَّها تصبح عدوانية عند تهديدها، أو عند اصطياد صغارها بالرماح. تضرب الحيتان في مثل هذه الحالات القوارب برؤوسها، وتلوّح بذيولها كما لو أنَّها هراوات وزنها 10 أطنان. لهذا ما يزال الصيادون الذين عاشوا وعملوا في سان إغناسيو يهابونها، حتى بعد بدء رحلات مراقبة الحيتان الرمادية، التي بدأت تجارياً في سان دييغو في 1955، كما وضعت الحكومات إجراءات لحماية هذه المخلوقات.

أفضل الشواطئ غير المُكتشفة بالعالم.. لم تزدحم بالسياح بعد

كان فرانسيسكو "باتشيكو" مايورال يصطاد سمك اللقس في المياه الضحلة في 1970 حين اقترب حوت رمادي من قاربه. تسمَّر مايورال في مكانه، وهو يشاهد الحوت يلعب حوله، لكنَّه تشجع، فمد يده نحوه، وداعبه كما لو كان حيواناً أليفاً. أبلغ مايورال أهل القرية أنَّهم ربما كانوا مخطئين بشأن تلك السمكة الشيطانية، وسرعان ما ازدهر هذا النشاط السياحي الصغير.

يصعب الوصول إلى بحيرة سان إغناسيو، فقد سافرت عائلتي المكوّنة من أربعة أفراد من منزلنا في سان دييغو إلى الحدود المكسيكية براً، ثم عبرناها سيراً على الأقدام إلى مطار تيخوانا الملاصق لها لنستقل طائرة إلى كابو سان لوكاس، ومن ثم نتابع بعدها عبر طائرة أخرى مستأجرة حلّقت بنا مدة ساعتين شمالاً إلى سان إغناسيو. كان معظم ما رأينا خلال عبورنا باها هو الجبال الصخرية صارخة الجمال وقليلة السكان، حيث لا يوجد سوى قليل من قرى الصيد الصغيرة إلى جانب المسطّحات الملحية البيضاء، والطرق الصحراوية المقفرة.

حيتان جذابة

بالكاد درست رحلتنا قبل أن أحجز لسبب لا أدركه بما يكفي لشرحه. لم أكن أعرف أنَّه سيُتاح لي لمس الحيتان والتودد لها، فما كنت أعرفه هو أنَّنا سنمكث في مخيم متاخم لملاذ للحيتان في محمية "إل فيزتشانيو بيوسفير"، ومساحتها 6 ملايين فدان.

تضمّنت رحلتنا التي استمرت ثلاثة أيام، ونظّمتها "باها إكسبيديشن" (Baja Expeditions) إقامة فاخرة نسبياً في خيام سفاري مزوّدة بدورات مياه تنتج السماد العضوي، فضلاً عن رحلتين أو ثلاث رحلات بالقوارب يومياً. برغم البيئة الجذابة التي تشمل غابات المانغروف والكثبان الرملية والسلاحف البحرية؛ إلا أنَّ الحيتان العملاقة هي التي استقطبت الناس.

جنوب أفريقيا تتجه لإنهاء تربية الأسود

مررنا لدى وصولنا بمجموعة سياح يغادرون، وقالت أحدهم: "لقد قبّلت حوتاً".

لم ألتفت حينها لسبب أنَّه أمر غير لائق إلا حين كنت أداعب الجلد السميك والمطاطي لحيوان قد يبلغ وزنه 40 طناً. تذكّرت ذلك فيما تملكني شعور الذنب، لأنَّ أهم قواعد سياحة التعامل مع الحيوانات غير المروّضة هي عدم لمسها.

هل أتوقف؟ لم أتوقّف برغم أنَّ مشاعر معقدة وأسئلة عديدة كانت تراودني. أدركت ابنتي التي يبلغ عمرها 7 سنوات مدى تعقيد ما نفعل. تساءلت: لماذا تعتقد صغار الحيتان أنَّ بإمكانها أن تثق بنا بالرغم من أنَّنا غرباء، وخلُصت إلى أنَّها تستطيع تمييز البشر غير المؤذيين، وإلا فإنَّ أمهاتها لن تسمح لها بالتعامل معنا.

لقبت ابنتي صغير الحوت الذي تلتصق به القشريات وتعطيه هيئة مميزة في أول لقاء لنا باسم "رولر"، لأنَّه كان يتقلّب ببطء بجوار القارب. رأينا هذا الصغير عدة مرات، ويبدو أنَّه يحب المداعبة، ورش الماء عليه.

أعترف أنَّ شفتَيَّ اقتربتا كثيراً من وجهه ذي النتوءات مرة، لكنَّه زفر بقوة في وجهي. اعتبرت الأمر تعبيراً عن رأي، ولم أحاول أن أفعل ذلك مرة أخرى.

بلا تشارك

إنَّ لمس الحيتان حميمي وفيه تواصل برغم أنَّ لكل منا عالماً مختلفاً تماماً، لكنَّنا نجتمع عند حدودهما، لماذا؟ ربما الهدف هو أن يتفحص كلٌّ منا الآخر. لا يمكننا التشارك بالطعام أو التواصل بالصوت، لكن يمكننا فهم شيء قليل عن بعضنا عبر الإحساس والتواصل البصري.

انقلب حوت رمادي صغير أكثر من مرة على جانبه بعدما حام حول قاربنا، ثم نظر إلينا بعين واحدة قاتمة بحجم كرة البيسبول. أتساءل: هل يرى أنني حيوان له مجسات قصيرة عديدة من جهة الرأس؟ أم يراني كما أنا؟

كلما طال البقاء رغبت أن أراقب الأمور ببساطة. يمكن للمس، وهو الهدف غير المعلن لكل مرة نخرج فيها الى البحر، أن يغدو ضرباً من الترفيه. أود أن أتعلم كيف تتفاعل الحيتان مع بيئتها ومع بعضها، وليس معنا فقط.

"حتى يظل السمك على المائدة".. تحركات دولية لوقف الصيد الجائر

أظهرت الدراسات أنَّ مراقبة الحيتان يمكن أن تغيّر من عادات السباحة لديهم، وتزيدها توتراً، وتجعلها تهاجم فراشات القوارب. يعتقد بعض العلماء أنَّ المحركات ربما تقلل قدرتها على التواصل تحت الماء، ولم يتضح أثر ذلك على المدى الطويل.

كان ستيفن شوارتز يدرس الحيتان الرمادية في سان إغناسيو منذ السبعينيات. أخبرني أنَّه لا يرى أي سبب للقلق، لأنَّ الحيتان تقرر بنفسها ضوابط التعامل، ونظراً لصرامة القواعد، فنحن لا نطعمهم كما لا يُعرف عن انتقال أمراض بين الحيتان الرمادية والبشر.

قال شوارتز إنَّ الحيتان عموماً "تحب التمحك واللمس، فهذه طريقتها بالتواصل". تُظهر لقطات من كاميرات المسيرات أنَّ صغار الحيتان الرمادية ترتطم باستمرار بأمهاتها، وتنزلق وتتدحرج عليها سعياً للأمان لتشير إلى رغبتها بالرضاعة.

لماذا تقلق دول جنوب أفريقيا بشأن الفيلة؟

قضينا جولتنا قبل الأخيرة بالقارب قرب ثغر سان إغناسيو، حيث يوجد حاجز رملي يفصل بقعة التزاوج الضحلة عن المحيط الذي تسبّب بجدارٍ من الموج. لاحظنا وجود أم وصغيرتها، كانت جلودهما أنقى من غيرهما، وقمنا برش الماء نحوهما لندعوهما إلينا. يطلق أصحاب القوارب على تلك الحيتان اسم "الفراشة" لأنَّها تمتاز ببقعة بيضاء على الذيل. ظهرت الصغيرة بجوارنا مراراً، وفي حين اقتربت منها لأداعبها؛ رأيت الأم على مقربة منا. كنت أرش الماء حين تداني مقدمة رأسها يدي.

كانت تلك المرة الوحيدة التي اقتربت فيها الأم التي تفوق صغيرتها حذراً، لكنَّها قررت أن تثق بنا. خطر لي للحظة "أنَّها تعتبرني من الطيبين".