"الغاز مقابل الغذاء" ميزان استقرار اقتصاد مصر

حبوب القمح تنساب من أكياس على شاحنة توصيل في مطحنة تديرها الحكومة في وسط الفيوم، مصر، يوم الخميس 19 مايو 2022. تسابق مصر -من أكبر مستوردي القمح في العالم- الزمن لتعويض تأثير الغزو الروسي على أوكرانيا في الإمدادات
حبوب القمح تنساب من أكياس على شاحنة توصيل في مطحنة تديرها الحكومة في وسط الفيوم، مصر، يوم الخميس 19 مايو 2022. تسابق مصر -من أكبر مستوردي القمح في العالم- الزمن لتعويض تأثير الغزو الروسي على أوكرانيا في الإمدادات المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بعيداً عن شاطئ مدينة رأس البر، حيث يتدفق نهر النيل إلى البحر الأبيض المتوسط، تومض سفن الشحن في الأفق عبر ضباب منتصف النهار وهي تتجه غرباً على طول الساحل باتجاه رافعات التحميل الزرقاء.

هنا، في ميناء دمياط المصري، تلتقي الآثار المزدوجة للحرب الروسية على أوكرانيا.

تشهد صوامع الحبوب في دمياط على نقص الشحنات بسبب الحصار على ساحل البحر الأسود في أوكرانيا. يُعَدّ الميناء أيضاً موطناً لإحدى محطتَي الغاز الطبيعي المسال في مصر، وهي منشآت أصبحت محط أنظار أوروبا مؤخراً، فيما تتسابق القارة للاستبدال بالغاز الروسي.

ميناء دمياط في مصر
ميناء دمياط في مصر المصدر: مارين ترافيك

كيف تعمل تلك التيارات المزدوجة للأمن الغذائي والطاقة في الدولة الأكثر تعداداً للسكان في العالم العربي على تركيز الاهتمام العالمي على مصر، ودفع الجهود الخارجية لمساعدة محور إقليمي؟

باعتبارها من أكبر مستوردي القمح في العالم، فإن مصر معرضة لخطر نقص الخبز وما يرتبط به من اضطرابات سياسية دفعت دول الخليج الغنية بالطاقة إلى التعهد بتقديم مليارات الدولارات للقاهرة. كما تضيف طاقتها الناشئة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال إلى الاهتمام الأجنبي لدعمها بوصفها شريكاً استراتيجياً.

قال مسؤول في الاتحاد الأوروبي إنّ التكتل الذي يضم 27 دولة قلِق بشأن العواقب الخطيرة التي تخلفها الحرب الروسية على الأمن الغذائي العالمي، فيما تقول "بلومبرغ إيكونوميكس" إنّ مصر واحدة من أكثر الدول عرضة للخطر. من جانبها، حذرت وكالة "موديز إنفستورز سيرفيس" في 27 مايو من أن مصر لا تزال عرضة للتأثر، حتى بعد حصولها على بعض الدعم الدولي وسعيها للحصول على مساعدة "صندوق النقد الدولي".

"موديز" تغيّر نظرتها المستقبلية لـ"مصر" من "مستقرة" إلى "سلبية"

يقول ريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال أفريقيا في "مجموعة الأزمات الدولية"، إنّ القلق يتزايد بشأن استقرار دولة "أكبر من أن تفشل بالنسبة إلى أوروبا والخليج.. لا أحد يريد أن يرى عدم الاستقرار في بلد به أكثر من 100 مليون شخص وهو أيضاً مصدر رئيسي للغاز في مثل هذا الوقت الدقيق لأسواق الطاقة العالمية والأوروبية".

الدبلوماسية

يخلق هذا الواقع موجة من الدبلوماسية، إذ التقى مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة في أوائل مايو، وناقش دعم واشنطن "لاحتياجات مصر من الأمن والغذاء والوقود"، وفقاً لوثيقة أمريكية لخصت الاجتماع.

جاءت تلك المحادثات في أعقاب اجتماع مغلق عُقد في أبريل بين رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ومسؤول المناخ في الاتحاد الأوروبي فرانس تيمرمانس، ناقشا خلاله توريد الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا وكذلك مساعدة أوروبا مصر للحصول على القمح بأسعار معقولة، وفقاً لبيان صدر من القاهرة. يذكر أن مصر ستستضيف في نوفمبر "مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022".

ناقش وزراء خارجية دول عربية، بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة، الطاقة والأمن الغذائي في اجتماع نادر عُقد في أواخر مارس، وحضره أيضاً وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.

في هذا الشهر، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري في مقابلة مع قناة "سي إن بي سي" أُجريت في دافوس إنّ مصر "طلبت المساعدة من شركائنا التقليديين في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ونحافظ على علاقاتنا مع أوكرانيا وروسيا في توفير القمح" والمواد الغذائية الأخرى. أضاف شكري: "ما يحدث في مصر له تأثير في ما يحدث في المنطقة ككل".

اتفاقية ثلاثية الأطراف

لإسرائيل دور رئيسي تؤديه، منذ أن أدى اكتشاف الغاز الطبيعي قبالة سواحلها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تغيير علاقاتها مع جيرانها بشكل كبير. فبينما صدّرت 4.25 مليار متر مكعب فقط إلى مصر العام الماضي –ما يُعَدّ نقطة في البحر مقارنة بإمدادات روسيا السنوية البالغة 150 مليار متر مكعب إلى أوروبا– بات من المتوقع أن ينمو هذا الحجم.

قال ليور شيلات، المدير العامّ لوزارة الطاقة الإسرائيلية، في مقابلة أجريت معه بعد الغزو الروسي في 24 فبراير، إنّ إسرائيل أنشأت مجموعة عمل مع الاتحاد الأوروبي ومصر بشأن التوصل إلى اتفاقية ثلاثية لتعزيز صادرات الغاز إلى أوروبا.

الاتحاد الأوروبي يعمل على صفقة مع مصر وإسرائيل لتلبية حاجته من الغاز

بموجب الاتفاق المقترح، الذي تأمل الوزارة أن يجري توقيعه هذا الصيف، ستعزز إسرائيل في البداية صادراتها من الغاز إلى مصر من خلال خطي الأنابيب الحاليين. وستعالج مصر بعد ذلك الغاز في مصانعها في دمياط وإدكو بالقرب من الإسكندرية، وتشحنه إلى أوروبا على شكل غاز طبيعي مسال. كما تشير استراتيجية الطاقة الدولية للاتحاد الأوروبي، التي نُشرت في 18 مايو، أيضاً إلى صفقة ثلاثية مع إسرائيل ومصر سيجري إبرامها بحلول الصيف.

ناقلة غاز راسية بجانب منصة لوياثان للغاز الطبيعي في البحر المتوسط قبالة سواحل إسرائيل
ناقلة غاز راسية بجانب منصة لوياثان للغاز الطبيعي في البحر المتوسط قبالة سواحل إسرائيل المصدر: غيتي إيمجز

في حين أن الكميات الأولية ستكون صغيرة، فإنه من شأنها مساعدة جهود أوروبا لتجنب العودة إلى استخدام محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، ويمكن لخطط مضاعفة إنتاج الغاز الطبيعي تقريباً خلال أربع إلى خمس سنوات أن تسمح بتصدير ذي أثر حقيقي، حسب شيلات. في 30 مايو، أعلن مسؤولون إسرائيليون عن مناقصة جديدة للتنقيب عن الغاز في مياه إسرائيل الإقليمية، مشيرين إلى الطلب الأوروبي.

وزير البترول المصري لـ"الشرق": خطط مشتركة مع دول شرق المتوسط لزيادة صادرات الغاز إلى أوروبا

بدوره، قال جوناثان ميللر، المبعوث الخاص لشؤون الطاقة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، إن الغاز قد يكون مجرد نقطة انطلاق، مما يضع الأساس للتعاون في مجال الطاقة في نواحٍ مثل الموصلات الكهربائية عبر قبرص واليونان، أو خطوط الأنابيب "الجاهزة للهيدروجين".

لم يتسنَّ الاتصال بمسؤولي الحكومة المصرية للحصول على تعليق.

كانت مدينة رأس البر ذات يوم وجهة مفضلة للمطربين والممثلين العرب المشهورين لقضاء العطلات. لكن إذا كانت الأيام الأكثر حيوية للمنتجع جزءاً من الماضي، فإن ميناء دمياط المجاور يقدم نسخة من مستقبل مصر، إذ يعلن عن نياته بواسطة بوابة مزخرفة متوجة بنموذج بحجم حافلة لسفينة غاز طبيعي مسال. في هذا الشهر، وقّع تحالف من شركات أوروبية اتفاقية مع مصر لبناء وتشغيل ميناء حاويات جديد بدمياط، يبدأ باستثمار 500 مليون دولار في المرحلة الأولى من المشروع.

مستقبل مصر

في أوائل العام الماضي، أُعيد افتتاح محطة الغاز الطبيعي المسال بدمياط بعد توقف دام ثماني سنوات، مما رفع الطاقة الإجمالية لمصر إلى نحو 12.5 مليون طن. وهو رقم كافٍ ليضع مصر بين أكبر 10 مصدّرين للغاز في العالم، على الرغم من أن عديداً من المشغلين يقومون أيضاً بتعزيز السعة. بلغت صادرات الغاز الطبيعي المسال من دمياط و"إدكو" 880 ألف طن في أبريل، وهو أعلى رقم منذ عقد على الأقل.

صادرات مصر من الغاز تقفز 98% في أول أربعة أشهر من 2022

من المؤكد أن الغاز من مصر وإسرائيل لن يحل كل مشكلات أوروبا، وبالتأكيد لن يحلها في المدى القريب. لكن لا يزال بإمكان مصر مساعدة أوروبا في تقليل اعتمادها على خطوط الأنابيب الروسية، وفقاً لـ"بلومبرغ إن إي إف"، التي تتوقع صادرات بمقدار 8.2 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال هذا العام.

تودد سياسيون من برلين إلى بروكسل وروما ورومانيا للقاهرة لتساعد في قدرة الغاز الفائضة. كما طلبت الولايات المتحدة من مصر بذل قصارى جهدها لزيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، وفقاً لمسؤول في شركة غاز مطلع على المحادثات. وقّعت شركة "إني" (Eni) الإيطالية اتفاقية إطارية للغاز الطبيعي المسال الشهر الماضي مع شركة الطاقة الحكومية المصرية "إيجاس"، التي بموجبها ستسرع أيضاً التنقيب في الصحراء الغربية في مصر، ودلتا النيل، والبحر الأبيض المتوسط.

اتفاقية لزيادة إنتاج وتصدير الغاز المصري إلى إيطاليا

يُعَدّ ذلك جزءاً من تعديلات أوسع يشهدها شرق البحر المتوسط الغني بالغاز نتيجة لأزمة الطاقة التي سببتها الحرب الروسية. لكن ستعتمد أي مكاسب للقاهرة على قدرتها على الصمود في وجه العاصفة الاقتصادية الوشيكة.

بُعد سياسي

تشتري مصر -وهي واحدة من أكثر دول الشرق الأوسط مديونية- معظم القمح من روسيا وأوكرانيا، وتستخدم هذه الإمدادات حجر زاوية لبرنامج يوفر الخبز الرخيص لنحو 70 مليون شخص.

لأسعار الخبز إرث حساس سياسياً في مصر، حيث أدت محاولة الرئيس أنور السادات في أواخر السبعينيات لرفع الدعم إلى أعمال شغب. وبينما بدأت احتجاجات الربيع العربي في تونس، فإنها انتشرت بشكل جدّي فقط بعد انطلاقها في مصر.

عامل يجهز الخبز داخل مخبز في القاهرة، مصر
عامل يجهز الخبز داخل مخبز في القاهرة، مصر المصدر: غيتي إيمجز

تعهدت المملكة العربية السعودية وقطر وصندوق الثروة السيادية في "أبوظبي القابضة" (ADQ) معاً بتقديم أكثر من 22 مليار دولار من الاستثمارات والودائع لدعم الاقتصاد المصري.

السعودية تقود الاستثمارات الخليجية في مصر بـ15 مليار دولار

لقد فهم الجميع ما هو على المحك، وفقاً لشخص مطلع على اتخاذ القرار في الخليج، الذي وصف مصر بأنها حجر الزاوية في المنطقة. وأضاف أنه ليس من مصلحة أحد في الوقت الحالي أن تدخل القاهرة في أزمة لا تحتمل.

لكن مصر لا تقف مكتوفة الأيدي، إذ تحركت لتعزيز إنتاج القمح المحلي وقالت إنها تجري محادثات مع كييف حول كيفية الحصول على الحبوب التي جرى التعاقد عليها لتسليمها من أوكرانيا إلى المواني المصرية.

مصر تحصل على تمويل إضافي بـ3 مليارات دولار لمواجهة أزمة القمح

ومع ذلك فإن قابلية تأثر مصر بالصدمات الخارجية وما يرتبط بها من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية لا تزال مصدر قلق، وفقاً لفابياني من "مجموعة الأزمات الدولية"، الذي قال إن الحرب في أوكرانيا "ألقت الضوء مرة أخرى على مَواطن ضعف بالسياسة الاقتصادية المصرية".