شركة ناشئة تعمل على متصفح إنترنت بلا فوضى

لا يقتصر الأمر على تحديث وأدوات.. بل قد يغير اقتصاد الإنترنت عبر تخطي متاجر التطبيقات

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أمضى جوش ميلر صباح ذات خميس يستكشف مشكلات متصفح "كروم" من "غوغل" ومنافسه "سفاري" من "أبل" في مكتبه بمنطقة بروكلين. خَلُص مطوِّر المنتجات وهو ينظر إلى كلا المتصفحين على شاشته إلى أن التجربة التي يقدمانها منقوصة. يكاد يصعب التمييز بين واجهتَي استخدامهما من حيث قوائمهما الرمادية وأشرطة إدخال العناوين الواسعة التي تهدر مساحة ثمينة في الجزء العلوي من الشاشة لعرض ما يسميه الرجل الثلاثيني "هراء البحث عن المحتوى". ثم تأتي فوضى التبويب التي تَصْغُر أيقوناتها إلى حد الغموض لدى فتح كثير منها، فتجعل جهازه المحمول يسخن كما لو كان وجبة "هوت بوكيت" خرجت لتوّها من فرن ميكروويف. قال ميلر: "لماذا لديّ سبع تبويبات مفتوحة على مستندات (غوغل) في ثلاث نوافذ؟ لا منطق في هذا!".

"غوغل" تجابه هجوم أوروبا على نظام "أندرويد" صانع مكاسبها

يباهي المستخدمون المتمرسون على استحياء حين يشيرون إلى فوضوية إدارتهم لتبويبات المتصفحات بغية استعراض جسامة أعباء عملهم. لكن ميلر يرى أن المستخدمين يجب ألا يشقوا على أنفسهم. ما يبدو عيب تنظيم لديهم هو في الواقع دليل على ترسخ سطوة عديد من شركات التقنية الكبرى التي ليس لديها أسباب تدفعها إلى رفع معاناة المستخدمين. قال ميلر: "ربما حان وقت الاعتراف بخطأ الفرضية الأساسية لتعريف المتصفح، وهي أنه مساحة تضم مستطيلاً لتحديد عنوان في أعلاها، يليه صف تبويبات، يعرض كل منها صفحة منفصلة".

تفكير خلاق؟

جمعت شركة ميلر الناشئة ذات الاسم البسيط "بروازر كومباني أوف نيويورك" (Browser Company of New York) نحو 25 مليون دولار من مستثمرين استراتيجيين مثل "سيلز فورس" (Salesforce) ومؤسسين ورؤساء تنفيذيين مشهورين مثل باتريك كوليسون من "ستريب" (Stripe) وإيريك يوان من "زووم" (Zoom) لاستكشاف هذا الاحتمال. قال مستثمر آخر هو مايك كريفر، أحد مؤسسي "إنستغرام": "يمضي غالبية الناس وقتهم لدى استعمال حواسبهم مع المتصفح، لكن من حيث الوحدات الأساسية لم يحظَ المتصفح بكثير من التفكير الخلاق منذ وقت طويل فعلاً".

هل ستواصل استخدام "غوغل" في المستقبل؟

أول ما يلاحظه مستخدم متصفح ميلر، واسمه "أرك" (Arc)، غياب القوائم والتبويب في الجزء العلوي، إذ نُقلت أدوات التصفح إلى لوح جانبي رفيع يعانق صفحة الويب شاقولياً ويُطلب من المستخدمين تخصيص هذا اللوح وفقاً لعاداتهم اليومية عبر تخصيص مساحات للعمل أو الاهتمامات الشخصية مثلاً، ولكل منها إشاراته المرجعية وألوانه المميزة، ويتيح التمرير عليها التنقل بين هذه المكتبات المصغرة.

بأعلى اللوحة شبكة أزرار ثابتة تشير إلى الوجهات المفضلة، ويبدو عمل كل منها أشبه بتطبيق على سطح المكتب من كونه صفحة ويب. يُعيد النقر على رمز "جيميل" (Gmail) المستخدم إلى صندوق بريد إلكتروني واحد أصلي في "جيميل"، بدلاً من إعادة تحميل صفحة "جيميل دوت كوم" (gmail.com) في تبويب يتلو تبويباً. سيؤدي تحريك الماوس فوق زر تقويم "غوغل" إلى ظهور لوحة صغيرة تعرض المواعيد المقبلة.

أرشيف تلقائي

كما يأتي "سبوتيفاي" (Spotify) مزوداً بمشغل مضمن للتبديل بين الأغاني. وتظهر أي علامات تبويب مفتوحة على مدى اليوم في الجزء السفلي من اللوحة، وهو ما قد يتطلب بعض الوقت للاعتياد عليه، وهي مضبوطة لتغلق وتتأرشف خلال 12 ساعة.

بيّن ميلر بتواضع أن هذه الميزات ليست مسألة تصميم فحسب، بل قد تكون أدوات لإعادة تشكيل اقتصاد الإنترنت. ينسجم هذا مع شركات مثل "إيبك غايمز" و"سبوتيفاي تكنولوجيز" اللتين تحتجّان بأن حراس البوابة مثل "أبل" و"غوغل" متحفزون لإبقاء المستهلكين محصورين ضمن أجهزتهم ومنظوماتهم ليتمكنوا من الحفاظ على التحكم وتحصيل رسوم في متاجر التطبيقات. قال: "إذا نجحت رؤيتنا فستصبح أجهزتك سلعة بشكل أكبر... سيكون عالماً مع تطبيقات لامركزية ولن يقتطع أحد 30% لأنه ليس هناك شركة تتحكم بالإنترنت".

دعوى قضائية تتهم "غوغل" بتتبع مواقع المستخدمين رغماً عنهم

لا يُعَدّ القلق من استخدام المتصفحات للسيطرة على السوق أمراً حديث العهد. ثبتت شركة "مايكروسوفت" تطبيق "إنترنت إكسبلورر" على الأجهزة التي تعمل بنظام التشغيل "ويندوز" في التسعينيات. سمحت هذه الاستراتيجية للمتصفح بالحصول على 95% من حصة السوق، ما أدى إلى القضاء على "نيتسكايب" (Netscape) المنافس المبتكر، قبل أن يصبح دعامة مركزية في قضية مكافحة احتكار ضد "مايكروسوفت". غالباً ما يُنسَب الفضل إلى التخفيف اللاحق من سيطرة "مايكروسوفت" على الإنترنت في تسهيل صعود "غوغل" وغيرها من عمالقة الإنترنت، وهو تحوُّل تاريخي في ميزان القوى داخل صناعة التقنية. سيطر كل من متصفحي "كروم" و"سفاري" في النهاية على نحو 84% من سوق المتصفحات في جميع أنحاء العالم، وفقاً لما أورده موقع التتبع "ستار كاونت" (Statcounter)، حتى إن لاعبين رئيسيين مثل "مايكروسوفت" و"موزيلا" (Mozilla) يحوزان حصصاً سوقية لا تبلغ 10%.

من البيت الأبيض

انضم ميلر إلى حروب المتصفحات منذ عامين تقريباً، بعدما ترك دراسته في جامعة برينستون، باع أداة للمحادثة عبر الإنترنت تسمى "برانش" (Branch) إلى "فيسبوك" في 2014، وأمضى نحو عامين قبل أن يتجه للعمل في مكتب أوباما للاستراتيجية الرقمية في البيت الأبيض وشركة "ثرايف كابيتال" (Thrive Capital) لرأس المال الاستثماري. اقتنع ميللر وهورش أغراوال، المؤسس الشريك معه في "برانش"، لدى بحثهما عن فكرة لشركة ناشئة بأن ركود المتصفح يمثل فرصة كبيرة.

رأى ميللر وأغراوال أن المنتجات المتاحة جميعها فشلت في الابتكار لفترة طويلة. ويبدو أن أكثر ما يميز قادة السوق هو اتصالهم بالمنتجات الشهيرة الأخرى فقط. اندمج "كروم" في خدمات "غوغل" مثل البحث، وفي هواتف "أندرويد" الشائعة الانتشار. كما قدم "سفاري" واجهة شبيهة بواجهة "كروم" وأصبح الواجهة الافتراضية لأجهزة سطح المكتب والأجهزة المحمولة من "أبل".

رئيس "إيبك" يهاجم "أبل" و"غوغل" ويطالب بمتجر تطبيقات موحد

بدا تقارب المقارنات حتمياً للوهلة الأولى، ما يدل على اعتبار أن المتصفحات باتت علماً ثابتاً لكيفية تصفح الإنترنت الحديث. بدت المتصفحات المتنافسة مثل "بريف" (Brave) و"فايرفوكس" (Firefox) و"مايكروسوفت إيدج" (Microsoft Edge) و"فيفالدي" (Vivaldi) متطابقة تقريباً. مع ذلك، كان لدى كل الأشخاص الذين تحدث ميلر وأغراوال معهم شكاوى مستمرة حول واجهات درء ملفات تعريف الارتباط. لذا بدآ في مارس 2020 بتصميم "أرك". جرّبا أساليب جديدة وغريبة في بعض الأحيان للقوائم والإشارات المرجعية والعناصر القابلة للتخصيص، ولم يستثنيا أي سمة مألوفة في المتصفحات.

خشية من التطوير

يتذكر دارين فيشر، نائب رئيس "كروم" للهندسة حتى مغادرته "غوغل" مطلع 2021، أنه دهش عندما شارك الرجلان نموذجاً أولياً تقريبياً لمتصفح "أرك" مع زملائهما في الصناعة. قال: "كان لسان حالي يقول: يا إلهي! هذا ما أردت القيام به لفترة طويلة!".

بيّن فيشر أنه كان على الفريق الذي يدير "كروم" التنافس في ظل عامل مهم واحد، وهو أن أي تعديل بسيط على تصميم منتج يستخدمه مليارا شخص قد يكون له عواقب مالية كبيرة، لذا كان إجراء مزيد من تغييرات شاملة شبه محال. كان فريقه يدرك تماماً خلال العقد الأخير من عمله في الشركة ميل التبويب إلى التسبب بفوضى، بل كانت لديهم أفكار حول كيفية تعديل متصفحهم لتحسينه. قال فيشر، الذي يعمل الآن مستشاراً لدى "أرك": "لقد بنى فريق (كروم) كل هذه الأشياء، لكنه لم يتمكن من طرحها لأن الميزات التي تحل مشكلات الفوضى تقلل الاستعلامات عبر "غوغل دوت كوم" وتقلل إعلانات "غوغل". رفض متحدث باسم "غوغل" التعليق.

"غوغل" تتيح تطبيقاً جديداً لحفظ بطاقات الائتمان والتذاكر ومفتاح سيارتك

كما كانت "أبل" مترددة حيال إحداث تغييرات جذرية على "سفاري". حين اختبر فريق "سفاري" نقل شريط العناوين إلى الجزء السفلي من شاشات أنظمة "آي أو إس" (iOS) الصيف الماضي انزعج المستخدمون، ما أجبر الشركة على التراجع وجعل التعديل اختيارياً. قال مطور رفيع المستوى سابق في "سفاري"، طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مصرح له بالتحدث عن القضايا الداخلية في "أبل"، إنّ الفريق "بدأ يصبح أكثر تحفظاً" بعد ذلك ولم يرغب بفعل ما قد يؤثر في مبيعات أجهزة الشركة. قال متحدث باسم "أبل" إنّ "سفاري" أدخل عدداً من الابتكارات الحديثة ومن بينها الإعدادات الشخصية وتجميع التبويب وحماية الخصوصية.

تميزه حريته

لا يدافع "أرك" في المقابل عن أي أعمال أخرى، وهذا يعني انتفاء خشية عرض إعلانات أقل أو أي إعلانات على الإطلاق، ما يجعله هذا أكثر انفتاحاً على بيئة مختلفة تماماً. يأتي متصفح "أرك" بمانع إعلانات مدمج ويَعِدُ بعدم تعقب المستخدمين باستخدام ملفات تعريف الارتباط أو تسجيل استعلامات البحث الخاصة بهم. سيقدم المتصفح مجاناً، ويدرس الفريق تطوير ميزات الاشتراك المميز لمستخدمي المؤسسات، ربما بسعر يقارب 12 دولاراً في الشهر، مماهياً نموذج "فريميوم" (Freemium) من شركة "سلاك تكنولوجيز" (Slack Technologies) و"دروب بوكس" (Dropbox) وخدمات دعم الإنتاجية الأخرى.

مسؤول أوروبي يطالب بتحرك سريع لمكافحة احتكار عمالقة التكنولوجيا

يصف ميلر متصفح "أرك" بأنه نوع من نظام التشغيل الخفيف على الإنترنت، إذ تعمل التطبيقات كما لو أنها عناوين العثور على المحتوى. يتمثل الهدف الأكبر لشركته في تحويل تجربة الحوسبة الأساسية بعيداً عن متاجر التطبيقات والعودة إلى تجربة أكثر انفتاحاً. قال: "سيعود مركز الثقل إلى الإنترنت".

يراهن "أرك" على أن هذا النهج سيروق المطورين الذين يحاولون بازدياد الابتعاد عن شركات التقنية الكبرى. على سبيل المثال، رفعت "إيبك" (Epic) دعوى قضائية ضد "أبل" و"غوغل" بشأن ممارسات مناهضة للمنافسة مزعومة وتسمح الآن للاعبين بلعب لعبتها "فورت نايت" الرائدة مباشرةً من المتصفح. ضغطت "سبوتيفاي آند ماتش غروب" (Spotify and Match Group) على المنظمين للسماح بمدفوعات بديلة عبر الإنترنت تخطياً لعمولات "أبل" و"غوغل" التي تتراوح من 15% إلى 30%. تؤكد كل من "أبل" و"غوغل" أن رسومهما عادلة.

حصته السوقية صفر

قد يلاحظ مشككون أن "غوغل كروم أو إس" (Google Chrome OS) هو أيضاً نظام تشغيل قائم على الإنترنت، وأنه سبق الجميع بكثير ويتمتع بدعم شركة تبلغ قيمتها تريليون دولار. حتى ميلر يدرك أن طموحاته تبدو سخيفة، ويمزح بشأن حصة شركته في السوق التي تبلغ 0%. مع ذلك فقد تلقت قائمة انتظار "أرك" عشرات آلاف الاشتراكات على حد قوله. تسجل "براوزر كومباني" الآلاف من مستخدمي الإصدار التجريبي كل أسبوع بانتظار إصدار "أرك" للعامة هذا الخريف.

أدهشتني تجربة المنتج السلسة والمرحة والمربكة أحياناً خلال استخدامي لمتصفح "أرك". استمتعت بتنظيم التبويبات الذكية ووجدت أن ميزاتها الانتقائية منعشة. تأتي لقطات الشاشة مرفقة برابط لموقع المصدر على الإنترنت بدل أن تكون صوراً ثابتة، وتتيح أداة السبورة البيضاء المسماة "إيزيل" (Easel) إنشاء دفتر رسم ومشاركته من ضمن المتصفح.

التريليون المقبل لـ"غوغل" سيأتي من البحث والذكاء الصناعي

حاولت شركات ناشئة أخرى صنع بدائل للمتصفحات المهيمنة، ولم يكتسب أي منها قوة دفع كبيرة. هل يمكن للمنتج الذي يطلب من المستخدمين إعادة تكوين إجراءات التصفح بشكل جذري أن ينجح حيث فشلوا؟ يوفر كل من "كروم" و"سفاري" راحة كبيرة، لأن المستخدمين أمضوا سنوات بإنشاء إعدادات أولية وتحميل تطبيقات إدارة كلمات المرور وخيارات الدفع. قد يكون القصور الذاتي بمثابة مخدر قوي، لكن ديلان فيلد، المستثمر في "أرك"، والرئيس التنفيذي لشركة "فيغما" (Figma) الناشئة لتصميم البرمجيات، يقول إن الوقت قد حان لتخضع المتصفحات لابتكار عميق بدلاً من التحسين التدريجي فقط. ويعمل فريقه أساساً من أجل الإنترنت. ويقول فيلد: "لن تنجح أبداً في تطبيق سيناريو داوود وجالوت إن كنت تحاول فعل الشيء نفسه بشكل أفضل قليلاً".