تفكيك روسيا.. هل يكون الحل للقضاء على نزعتها الاستعمارية؟

العلم الروسي.. هل يتمزق إلى أعلام يوماً ما؟
العلم الروسي.. هل يتمزق إلى أعلام يوماً ما؟ المصدر: بلومبرغ
Leonid Bershidsky
Leonid Bershidsky

Leonid Bershidsky is Bloomberg Opinion's Europe columnist. He was the founding editor of the Russian business daily Vedomosti and founded the opinion website Slon.ru.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أظهر الهجوم الذي شنّه فلاديمير بوتين على أوكرانيا للعالم أن روسيا الناهضة تعني بالضرورة روسيا الاستعمارية. كذلك فقد أعاد ذلك إلى الواجهة مناقشات حول ما إذا كان لابد من "إنهاء التوجّه الاستعماري" لروسيا، أو ربما "إنهاء النظام الاتحادي"، ودفن طموحاتها الاستعمارية وإخضاع تهديدها العسكري.

يُنظر إلى تفكك روسيا اليوم، شأنه شأن تفكك الاتحاد السوفيتي، على أنه نتيجة محتملة، بل وحتى أكبر من المأمول بتحقيقه، كنتيجة لغزو أوكرانيا الفاشل. تتردد تصريحات الإعراب عن الأسف لأن الولايات المتحدة لم تجعل ذلك هدفاً في تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي في حالة خراب، وتكافح من أجل التمسك بمنطقة انفصالية صغيرة واحدة، وهي الشيشان.

تثير هذه المناقشات شعوراً باستحضار شيء مألوف من الماضي عبر عمل أدبي، عندما تحولت روسيا إلى نسيج من الدويلات يكاد يتعذر للغاية تخيله منذ تفكّك الاتحاد السوفيتي بهذه السهولة الظاهرة. في رواية "تيلوريا"، التي صدرت في عام 2013، قدّم فلاديمير سوروكين، وهو أحد أكثر المتنبئين دقةً بشأن تحول روسيا إلى الفاشية، إحدى الشخصيات التي كتبت عن الإمبراطورية الروسية:

لو أن هذه العملاقة الرائعة التي لا تعرف الرحمة في إكليلها الماسي وعباءتها الثلجية انهارت بشكل ملائم في فبراير 1917، وتفكّكت إلى عدة دول ذات حجم يمكن السيطرة عليه، لكان كل شيء شهد تحولاً بروح التاريخ الحديث، ولكانت الشعوب التي اضطُهدت على أيدي السلطة القيصرية ستستعيد هوياتها أخيراً ما بعد الإمبراطورية وتعيش بحرية. لكن لم يكن ذلك ما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف.

اقرأ أيضاً: 30 عاماً على التفكك.. لينين لا يزال حياً والاتحاد السوفييتي لم يمُت بعد

ضغوط اقتصادية

في رواية "تيلوريا"، تنقسم روسيا أخيراً إلى إمارات معظمها استبدادية "بحجم قابل للتحكم فيه"، وذلك بعد سلسلة من الاضطرابات المحلية. حتى سوروكين لم يرَ حرب الغزو الخاسرة سبباً لتفكيك روسيا. ومع ذلك، فإن الهزيمة في أوكرانيا، مصحوبة بضغوط اقتصادية غربية، يمكن أن تؤدي بشكل واقعي إلى كارثة اقتصادية مثل تلك التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وبالتالي يمكن أن تعزز الميول الانفصالية التي يفخر بوتين بأنه نجح في خنقها من خلال تأسيسه نظام "السلطة الرأسية".

هناك أسباب وجيهة تجعل الأمر منطقياً حتى بالنسبة إلى الشعب الروسي، خاصة أولئك الذين لا يعيشون في وسط روسيا.

لم يطلق بوتين العنان، بطريقة ما، لمناقشات الانفصال فقط من خلال هجومه غير المبرر. لقد مكّن هذا النقاش أيضاً من الناحية الفكرية من خلال الحديث عن "روسيا التاريخية"، والتي تشمل في نظره الكثير من أوكرانيا الحديثة. إذا كان من الممكن مناقشة مسألة دولة روسية أساسية، بدلاً من الدولة بحدودها الحالية، فيمكن القول إن هذه النواة هي في الواقع أصغر بكثير من روسيا اليوم، إذا أغفلنا جميع الهجمات الاستعمارية التي تشنّها الدولة، وبعضها، بما في ذلك الاستيلاء على جزء كبير من سيبيريا، يعود إلى ما قبل عام 1721، عندما أصبحت روسيا إمبراطورية رسمياً.

اقرأ أيضاً: شيوعيّو روسيا.. مصدر الصداع القادم لـ"بوتين"

وبطريقة ما، فإن إدراج بعض المناطق في جمهورية روسيا الاشتراكية السوفيتية، وهي الكيان الذي أصبح الاتحاد الروسي عندما انهار الاتحاد السوفيتي، هو حادثة من الحقبة السوفيتية شأنها شأن حالة الدولة ذات الدرجة الأعلى في الاتحاد السوفيتي السابق لجمهوريات مثل أوكرانيا وأوزبكستان ومولدوفا.

وتعد تتارستان، المنطقة الروسية ذات الكثافة السكانية المرتفعة، والواقعة على نهر الفولغا، مثالاً على ذلك. ففي العام الماضي، اختار 55% من تلاميذ المدارس في عاصمتها قازان اللغة التتارية باعتبارها لغتهم الأم. هل هذه المنطقة، التي احتلها "إيفان الرهيب" في عام 1552، هي بالفعل جزء من قلب روسيا بأي طريقة ذات مغزى أكثر من كازاخستان، على سبيل المثال؟ قد يرى العديد من السكان المحليين خلاف ذلك.

هل توفا، التي انضمت إلى الاتحاد السوفيتي فقط في عام 1944، وشهدت أعمال شغب من أجل الانفصال في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، هي جزء من صميم روسيا التاريخي؟ هل ينطبق الأمر على داغستان، التي احتُلّت في أوائل القرن التاسع عشر، ويدرس بها أقل من 4% من أطفال المدارس اللغة الروسية كلغة أم؟ ألم تكن كل هذه المناطق دولاً مستقلة اليوم لو كان المؤسسون الشيوعيون للاتحاد السوفيتي قد شكّلوها كـ"جمهوريات اتحاد"، بدلاً من كونها "جمهوريات مستقلة" داخل روسيا؟

مشاعر قومية

تُعدّ كل هذه الأسئلة قوتاً لواضعي السياسات في الدول المتنافسة الجيوسياسية لروسيا. إن إثارة المشاعر القومية (أو المناهضة للاستعمار، كما يمكن تأطيرها) في روسيا التي أضعفتها حرب لم تحقق نجاحاً، ستكون منطقية على عدة مستويات، وهي أكثر منطقية مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي. لم يعد وجود زعيم عدواني وغير عقلاني يشق طريقه إلى القمة في موسكو يشكل خطراً نظرياً، ومن السهل أن ترى كيف يمكن أن يحدث مجدّداً.

اقرأ أيضاً: لماذا يعيش "بوتين" الآن لحظته الأوروبية؟

أفضل طريقة لدرء هذا الاحتمال هي هزيمة بوتين عسكرياً وأيديولوجياً. فمن خلال استخدام النوع نفسه من نقاط الحوار التاريخية التي يعتمد عليها بوتين لتبرير طموحات روسيا الاستعمارية، سيكون من الممكن محاربته بالسلاح الأيديولوجي الرئيسي الذي يستخدمه. وفي الوقت نفسه، تُظهر حملة أوكرانيا حتى الآن أن الجيش الروسي يكافح من أجل توفير الإمداد لقواته والقتال بفعالية عبر الامتداد الشاسع لأوكرانيا. ماذا سيفعل بوتين مع حركات التمرد الانفصالية المتعددة في بلد مترامي الأطراف بحجم روسيا؟

يمكن القول إن تقسيم روسيا لن يقضي حقاً على قدرتها الانتقامية لانتشال نفسها بعد الهزائم المنكرة والخسائر الإقليمية الكبيرة، وسيصبح تهديداً لخصومها مرة أخرى. لقد فعلت ذلك بعد الثورة البلشفية ومعاهدة "برست – ليتوفسك" العقابية مع دول المحور، وفعلت ذلك مرة أخرى بعد انهيار المشروع السوفيتي. إن تقطيع أوصال روسيا لن يبقى بالضرورة على هذا النحو، وربما تحظى القوى القومية والشعبوية المتطرفة بقوة أكبر نتيجة مثل هذا الخزي، وسوف ترث هذه القوى الترسانة النووية الروسية، والتي لن تختفي ببساطة حتى لو تفكّكت روسيا. لكن أولئك الذين يفكرون في "إنهاء الاستعمار" في روسيا لا يفكرون بالضرورة فيما سيحدث على مدار قرون مقبلة. دمج جيران روسيا في العالم الغربي وبناء دفاعات أقوى تحول دون عودة النزعة الاستعمارية مجدّداً قد يتطلب عقدين.

اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل "دونيتسك" و"لوهانسك" في صميم خطة بوتين؟

ألم التفتيت

بصفتي مواطن روسي، أشعر بعدم الارتياح من كل هذا الحديث عن تقطيع أوصال بلدي، كما لو كانت روسيا مريضة بالسرطان ومستلقية في حالة من شبه فقدان الوعي على طاولة عمليات، وتحتاج إلى تدخلات جراحية متعددة للبتر، فقط من أجل الحيلولة دون انتشار الورم بشكل أكبر.

أكره فكرة أن الطريقة الوحيدة لإحباط قدرتنا على التهديد للدول المجاورة هي تفتيت بلدنا، وآملُ ألا يكون الشخص ذو النزعة الاستعمارية بداخلي هو الذي يثور على الفكرة. إن اتساع روسيا وتنوعها أساسيان لأمتنا بالوضع الذي تقوم عليه اليوم. "الحجم القابل للإدارة" ليس بلدنا.

مع ذلك، فعلى المستوى الفكري، أفهم أن العديد من الروس قد يستفيدون بالفعل من تفكك الاتحاد الروسي. وفي الوقت الذي عزز فيه بوتين "سلطته الرأسية" بعد عرض سلفه بوريس يلتسن للمناطق الروسية مبدأ "سيادة بقدر ما يمكنكم استيعابه"، فقد خسرت عملية إعادة توزيع السلطة المركزية أطراف روسيا. وهناك 23 منطقة فقط من أصل 85 منطقة في روسيا لم تحظ بالتمويل من قبل الإعانات الفيدرالية هذا العام، ومعظمها تسكنه أغلبية من السكان الروس (باستثناء تتارستان). وهذا يعطي انطباعاً بأن غالبية المقاطعات، لا سيما تلك ذات الهويات الوطنية المتميزة، ستكون لا حول لها ولا قوة إذا انفصلت عن المحور. ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها نظام بوتين، حيث يمتص الأموال من مناطق الأطراف ثم يعيد توزيع بعض منها "بسخاء".

اقرأ أيضاً: لعبة الأمم في بيلاروسيا.. بوتين يدعم "لوكاشينكو" في مواجهة الغرب

قام فيكتور سوسلوف، أحد كبار الاقتصاديين في الأكاديمية الروسية للعلوم، ببناء نموذج عمل يوضح كيفية حدوث ذلك. ففي بحث نُشر عام 2018، أثار "سوسلوف" جدلاً هو وزملاؤه بأن المنطقة الفيدرالية المركزية في روسيا، والتي تضم موسكو، تعمل كثقب أسود يبتلع حوالي 35% من الموارد من مناطق أخرى أكثر مما تقدمه لها. وتساهم كلٌ من سيبيريا ومنطقة الأورال والشرق الأقصى والشمال الغربي (التي تضم سانت بطرسبرغ) بنسبة 10% إلى 13% أكثر مما تحصل عليه. ومما لا يثير الدهشة، أن سوسلوف الواقعة في نوفوسيبيرسك، هي مركز لإحدى المناطق التي يتم امتصاص مقدراتها بواسطة مضخة موسكو الكبيرة.

لامركزية متطرفة

ليس من الواضح ما إذا كان من الممكن تحقيق إعادة توزيع أكثر عدلاً للموارد، ووضع حد للهجرة الجماعية للأشخاص الذين يسعون إلى الأموال بالتوجه نحو موسكو، دون تطبيق نهج اللامركزية المتطرفة، وربما حتى التفكيك الكامل. قد ينتهي الأمر ببعض الأجزاء التي تتألف منها روسيا بتكوين أنظمة سياسية أكثر عقلانية من النظام شبه الملكي الذي تصرّ موسكو على العودة إليه، على الرغم من أن الكثيرين لن يفعلوا ذلك، كما اتضح في تسعينيات القرن الماضي عندما أصبح زعماء المنطقة أكثر استبداداً بكثير من الرجل غريب الأطوار في الكرملين.

اقرأ أيضاً: بالنسبة إلى بوتين.. القلق هو الهدوء الجديد

في جبال الأورال وسيبيريا والشرق الأقصى، لا تزال روح التعنّت التي يتسم بها الرواد والمحكوم عليهم السابقون قائمة. العمل الفني "علم الولايات المتحدة لسيبيريا" للفنان دامير موراتوف، من أومسك، والذي يضم رقاقات الثلج البيضاء على حقل من خطوط زرقاء وخضراء وبيضاء، هو أكثر من المقولة التي أطلقها جاسبر جونز، والتي مفادها: إنه للمرء أن يتخيل بالفعل البلد الذي سيرفرف فيه العلم.

مازلتُ متمسكاً ببصيص الأمل في أن الديمقراطية وإنهاء النزعة الاستعمارية العدوانية والالتزام بالتنمية المتكافئة للأراضي والمساواة الحقيقية لجميع المجموعات العرقية، كلها أمور ممكنة داخل حدود روسيا الحالية. ومع ذلك، فإن هذا الأمل قد لا يعدو كونه تفكيراً رجعياً. إن روسيا لا تقم بواجباتها تجاه مناطقها على النحو الأمثل، وربما لن تستوعب الدرس أبداً.