طول الحدود مع روسيا يؤرق فنلندا.. لكن وجودها خير من تغييبها

رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين
رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بقلم: Kati Pohjanpalo

دنت طائرة حربية روسية مسرعة تكاد تلامس الأشجار لتتجنب أن تُرصد. مرّ الطيار فوق حقل مكشوف فرأى جندياً شاباً، انحرف نحوه فجرى ليختبئ وراء حظيرة وسط وابل من الرصاص. عدل الطيار مساره وحاول مراراً، لكن الجندي وجد ملاذاً في أحد جوانب الحظيرة ثم آخر كلما أغارت الطائرة. تعب الطيار من هذه اللعبة أخيراً فحلق بطائرته مبتعداً وترك الجندي سعيداً بنجاته.

لم يكن هذا في أوكرانيا في 2022 بل في 1944 في كاريليا، وهي منطقة غابات كثيفة وبحيرات صافية وتلال لطيفة كانت أرضاً فنلندية حتى اجتاحتها القوات السوفيتية في 1940 مشعلة فتيل قتال دام نصف عقد انتهى بسيطرة الاتحاد السوفياتي على هذه المناطق. كان هذا الجندي هو جدّي، أنتيرو بوهيانبالو.

انضمام فنلندا والسويد لحلف شمال الأطلسي نجاح غير ساحق

روى هذه القصة في مذكراته عن الحرب، وهي واحدة من قصص كثيرة رواها الفنلنديون على مرّ أجيال في أماسي الآحاد وفي الأعياد ولدى وضع أكاليل الزهور في ذكرى الاستقلال. هم من بكوا آباءً وإخواناً وأعماماً لم يعودوا إلى بيوتهم من أرض المعارك، ويتذكرون 450 ألف لاجئ أجبروا ترك الأراضي التي تنازلت بلادهم عنها للسوفييت واستقروا في جميع أنحاء فنلندا. إنها دولة صغيرة والجميع يعرفون شخصاً تأثر بذلك.

تعد هذه القصص أساسية لفهم حرص الفنلنديين المفاجئ على الانضمام إلى الناتو.

حين يسأل أحد الفنلديين عن حال مشاركة حدود طولها 1300 كيلومتر مع الاتحاد السوفيتي سابقاً ومع روسيا متنامية العدوانية حالياً، يجيبون مازحين لكن مع شعور بالأسى أن وجود هذه الحدود أفضل من تغييبها.

رياح الشرق

خاض الفنلنديون على مدى قرون صراعات لا حصر لها مع غزاة أتوهم من الشرق، قتلوا أجدادهم ونهبوا بلداتهم وأحرقوا منازلهم ومزارعهم. تسببت قرون من إراقة الدماء وإدراك مواطني فنلندا أن موقعهم الجغرافي يصوغ مصيرهم بجعلهم واقعيين براغماتيين لا يخشون تغيير آرائهم عندما تتغير الحقائق، هذا ما حدث حيال الانضمام لمنظمة حلف شمال الأطلسي. أيد خمس السكان فقط ذلك قبل ستة أشهر، فقد كان معظم الناس مرتاحين للصيغة القائمة منذ عقود، لكن منذ غزت روسيا أوكرانيا بلغ تأييد عضوية الناتو نحو 80%.

السويد تكثف تحركاتها بشأن عضوية الناتو لمواكبة فنلندا

لماذا لم تنضم فنلندا إلى الحلف في وقت سابق؟ عندما كان الاتحاد السوفيتي على الجانب الآخر من الحدود، كان هذا كضرب من الخيال، حتى أن فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي أو التكتلات التي سبقته كانت غير واردة حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. دخلت فنلندا الاتحاد الأوروبي في 1995. لكن قيادتها قررت أن الانضمام إلى حلف الناتو كان سيعتبر أمراً عدائياً وليس رادعاً وسيستجر رد فعل عنيف من شأنه الإضرار بالعلاقات التجارية على الأقل، والمخاطرة بعواقب أخطر بكثير.

أتى تحول الرأي العام هذا العام كنتيجة مباشرة لإبداء الكرملين قدرته على مهاجمة جار لا يشكل أي تهديد. بات التفكير أنه لا ينبغي للفنلنديين أن يقلقوا بشأن منح الروس حجة لغزوهم لأن الروس لا ينتظرون سبباً يبرر ذلك، لذا هناك حاجة للردع كمستوى حماية إضافي. كما أن ليس هناك ما يخشى خسارته بعدما توقفت التجارة تقريباً.

قوية بما يكفي

لا تبحث فنلندا عن أجانب ليذودوا عنها، فقد أظهرت استطلاعات الرأي على مدى العقود القليلة الماضية باستمرار أن 8 من كل 10 فنلنديين مستعدون لحمل السلاح دفاعاً عن بلادهم إن لزم الأمر. لدينا بالفعل واحد من أقوى جيوش أوروبا ولديه 800 مدفع ميداني، أي أكثر من فرنسا وألمانيا مجتمعتين، وعديد من الدبابات القتالية مثل أكبر أعضاء الناتو الأوروبيين. تلقى 900 ألف شخص تدريبات قتالية في بلد عدد سكانه 5.5 مليون، ويمكن لفنلندا أن تحشد ثلثهم تقريباً بسرعة في زمن الحرب.

إذاً ما الذي تريده فنلندا من الناتو؟

لا تمنحوا بوتين حق الفيتو على توسع الناتو

لا تريد هذه الدولة أبداً أن تُترك لتقاتل عدواً أكبر منها بقدر 25 ضعفاً وحدها. يريد الفنلنديون أن تفهم روسيا أن عبور حدودهم من شأنه أن يلحق أضراراً جسيمةً بحيث تتلاشى أي مكاسب منظورة. يريدون تبادلاً كاملاً للمعلومات الاستخبارية، كما يريدون التأكد من عدم ترك البلاد بلا سلاح وأن لا تجبر أن تتسوله، كما كان الأمر مع رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي الذي أمضى الأشهر القليلة الماضية في جولة لا نهاية لها من اجتماعات عبر الفيديو مع حكومات عبر العالم طلباً للمساعدة.

يعد الانضمام لحلف الناتو تتويجاً لجهد استمر قرناً لاعتبارها شريكاً كاملاً للعالم الغربي. بعدما حكمتها السويد منذ العصور الوسطى، أمضت فنلندا 108 أعوام كدوقية مستقلة ضمن الإمبراطورية الروسية. جاءت الخطوة الأولى للابتعاد عن دائرة النفوذ الروسي مع استقلالها في 1917، الذي منحه فلاديمير لينين لها بعد الثورة البلشفية.

تحالف من نوع آخر

بعد جيل، دافعت فنلندا عن هذا الاستقلال فيما يسمى بحروب الشتاء والاستمرار بين 1939 و1944. صد الفنلنديون الذين يفوقهم السوفييت عدداً غزوهم طيلة 105 أيام من القتال العنيف، لكنهم وافقوا في النهاية على سلام مؤلم يتطلب التنازل عن حوالي 10% من أراضيهم. دخلت فنلندا في 1941 تحالفاً غير مستقر مع ألمانيا سعياً لاستعادة الأرض المفقودة، رغم أن قلة من المواطنين تبنوا الفكر النازي. انفصلت البلاد عن برلين في النهاية، وطردت الألمان فيما يعرف بحرب لابلاند.

توجب على الفنلنديين دفع تعويضات حرب تعادل حوالي 4% من الناتج المحلي الإجمالي لمدة ثماني سنوات بموجب اتفاقية سلام لاحقة مع السوفييت. ثم عبرت فنلندا بحذر عصراً من حياد إجباري لدى اشتداد الحرب الباردة قلل النقاد الغربيون من شأنه وأسموه "الفنلنة"، أي استقلال هش يعتمد على الرقابة الذاتية وتبجيل موسكو.

انضمام السويد وفنلندا إلى "الناتو" أفضل ردّ عالمي على تنمّر بوتين

وضع رئيس الوزراء يوهو كوستي باسيكيفي في 1944 الأسس الشهيرة لتلك السياسة عبر الإصرار على أن "بداية الحكمة تكمن بالاعتراف بالحقائق". بالنسبة لمهندسي العلاقات الخارجية في فنلندا، كما قال، ليس هناك من ينكر حقيقة وجود جار شرقي قوي. قال باسيكيفي للأمة حينئذ: "إنها معضلة سياستنا الخارجية الحقيقية ويعتمد مستقبل شعبنا على حلها".

سمحت عضوية الاتحاد الأوروبي للفنلنديين بالتخلص من بعض أغلال موسكو، لكن شبح سياسة "الفنلنة" استمر. لم يشر صانعو السياسة الفنلنديون إلى روسيا، علناً على الأقل، على أنها التهديد العسكري الأساسي حتى هذا العام. لكن في 15 مايو، سعت رئيسة الوزراء سانا مارين لتوضيح لماذا حان وقت الانضمام إلى الناتو. قالت لأفراد الصحافة العالمية المجتمعين في قاعة رقص مذهبة في القصر الرئاسي الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، وبُني كمقر إقامة للقيصر خلال زياراته إلى هلسنكي: "لا يمكننا الوثوق بعد الآن بوجود مستقبل سلمي بجوار روسيا بمفردنا. إن التقدم بطلب الحصول على عضوية الناتو عمل من أعمال السلام".

تأمين ضد الحريق

حين طرح البرلمان هذه القضية بعد يومين، رفضها ثمانية من 200 نائب وحاجج معظمهم بأن عدم الانحياز ما يزال أفضل طريقة لتجنب صراع واسع. قال ماركوس موستايارفي، وهو عضو في تحالف اليسار، للنواب مقترحاً اعتراضاً على الانضمام للحلف: "لدى فنلندا فرصة لعدم الانجرار للقتال إن اندلعت حرب كبيرة فقط إن بقيت خارج التحالفات العسكرية".

فنلندا تقلّل من أهمية قطع روسيا لإمدادات الغاز

كان الشعور الأكثر شيوعاً هو أن فنلندا كانت بطيئة جداً بالتقدم بطلب العضوية. قال الرئيس السابق مارتي أهتيساري في 2007 إن تأجيل تقديم طلب إلى حين حدوث أزمة مثل التي تواجهها فنلندا اليوم يشبه "السعي لتأمين ضد الحريق حين يتصاعد الدخان في زاوية المنزل".

ليس الهدف النهائي حمل أي جهة على خوض حروب فنلندا، أو حتى خوض حرب منفردة كما فعلت الأجيال السابقة. تريد فنلندا منع حدوث حرب ويرى عدد متزايد من الفنلنديين أن الناتو يوفر أفضل فرصة لضمان هذه النتيجة.