هزيمة بوتين تتطلب مزيداً من العقوبات وقدرة على التحمل

سفينة الشحن "مايا إس" في البحر الأسود قبالة ميناء سولينا، رومانيا، يوم 4 يونيو 2022، وذلك أثناء انتظارها لدخول قناة سولينا النهرية، التي تتيح لها الوصول إلى نهر الدانوب. المعضلة الأبرز أمام نجاح العقوبات المفروضة على موسكو، هي أن روسيا أحد أكبر مصدري النفط والغاز والحبوب في العالم، ما يعني أن القيود ستتسبب في ارتفاع الأسعار بشكل يضر بالمستهلكين في أماكن أخرى من العالم.
سفينة الشحن "مايا إس" في البحر الأسود قبالة ميناء سولينا، رومانيا، يوم 4 يونيو 2022، وذلك أثناء انتظارها لدخول قناة سولينا النهرية، التي تتيح لها الوصول إلى نهر الدانوب. المعضلة الأبرز أمام نجاح العقوبات المفروضة على موسكو، هي أن روسيا أحد أكبر مصدري النفط والغاز والحبوب في العالم، ما يعني أن القيود ستتسبب في ارتفاع الأسعار بشكل يضر بالمستهلكين في أماكن أخرى من العالم. المصدر: بلومبرغ
Clara Ferreira Marques
Clara Ferreira Marques

Columnist for Bloomberg Opinion in Hong Kong. Commodities, ESG, Russia & more. Via Singapore, Mumbai, London, Milan, Moscow, Paris, Cape Town, Lisbon.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تتمتع العقوبات الاقتصادية بسمعة سيئة، وهي كسلاح يعِد بالكثير –أو "شيء أقوى من الحرب" على حدّ قول الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في عام 1919- لم تقدّم فعلياً سوى القليل نسبياً. فالإجراءات غير المسبوقة التي تهدف إلى عزل روسيا، لم توقف القتال في أوكرانيا، ولم تجبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الخروج منها.

تعافى الروبل الروسي في وقت تتزايد تكلفة الضغوط على موسكو. لكن ذلك لا يعني فشل العقوبات على روسيا، خصوصاً أن الحلّ الذي يحمي مصالح أوكرانيا والأمن العالمي، من الصعب أن يتحقق دون استمرار وزيادة الضغوط.

اقرأ أيضاً: صائدو الأصول في لندن يعملون على توسيع العقوبات ضد روسيا

يؤكد تاريخ العقوبات الاقتصادية أنها لا تحقق أهدافها بشكل كامل عندما يتعلق الأمر بتغيير السلوك والممارسات. من بين الجهود الأكثر شهرة في هذا الصدد، عدم تحقيق نجاحات ملموسة في حالة جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري. كما لا يزال النظام الكوبي قائماً حتى الآن، وكذلك الحال بالنسبة إلى فنزويلا. وحتى العقوبات الأكثر استهدافاً، ضدّ المجلس العسكري في ميانمار على سبيل المثال، لم تحقق التأثير المأمول. والأسوأ من ذلك، ما كشفت عنه حملة حصار صدام حسين في العراق من مدى صعوبة فرض عقوبات على الطغاة، المستعدين لترك شعبهم يتضور جوعاً من أجل قضيتهم.

اقرأ المزيد: بنك روسيا المركزي قاد انتعاش الروبل بعدما قلصت الحرب الخيارات المتاحة

هذه المرة، هناك حقيقة أخرى، هي أن المستهدف بالعقوبات هو أحد أكبر مصدري المواد الهيدروكربونية والحبوب في العالم، ما يعني أن القيود ستتسبب في ارتفاع الأسعار بشكل يضر بالمستهلكين في أماكن أخرى.

اقرأ أيضاً: الإجهاد وتراجع الروح المعنوية بشأن العقوبات يعرقلان جهود أوروبا لمواجهة بوتين

مع دخول الصراع شهره الرابع، يتعين علينا أن نتذكر أن الهدف من تلك العقوبات، كان تقويض قدرة بوتين على احتلال أوكرانيا.. لكن وعلى العكس، هذا ما يحدث الآن.

الروبل والمركزي الروسي

تدعم الضوابط المفروضة على تدفق رأس المال أداء الروبل، ولكن حتى مع ارتفاع أسعار الطاقة، لن يمنع ذلك حدوث انكماش اقتصادي في المدى القريب، والأهم من ذلك، ما سيتبعه من ركود بعد ذلك.

يتولى إدارة البنك المركزي الروسي، تكنوقراط يتمتعون بإمكانات جيدة، لكن عليهم الآن أن يخططوا لـ"تحول هيكلي" -وهو مصطلح أقل حدة من الوصف الحقيقي- يصف في نهاية المطاف التكيف مع الاكتفاء الذاتي والعزلة، في بلد يعاني من نقص في كل شيء، بدءاً من الأزرار والمواد الكيميائية المبيضة للورق، وصولاً إلى قطع غيار طائرات الركاب.

يتطلب النجاح -الذي يجب أن يعني تقديم حلّ يحمي سيادة أوكرانيا ومصالحها– المزيد من الجهود لتحقيق المرونة لدى الحكومات والشعوب المتحالفة، جنباً إلى جنب مع الواقعية بشأن التوقيت والتكلفة، إذ إن الحرية ليست مجانية، والأمر سيستغرق وقتاً.

العقوبات وحدها لا تكفي

على سبيل المثال، لم يبدأ فعلياً بعد حظر واردات النفط الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي منذ أشهر، كما لم يصل بعد تأثير كافة القيود التجارية إلى الداخل الروسي، بسبب المخزونات، ما يعني ضرورة بذل المزيد من الجهود لتكثيف التنفيذ، وسدّ الثغرات، والتوجه نحو فرض مزيد من القيود على الطاقة، وكذلك التعريفات الجمركية، حتى يمكن قطع عائدات الكرملين بشكل أسرع. ويعني ذلك، المزيد من الأسلحة والدبلوماسية، لأن العقوبات وحدها لا تكفي.

أما البديل، فيتمثل في التوقف والسماح ببساطة للوضع الحالي بأن يغلي ببطء، وهو أمر قد يكون مغرياً للحلفاء، في ظل تأثير التدابير التي تم تطبيقها حتى الآن، والذي بدأ في الظهور بشكل واضح، بالإضافة إلى الضرر الذي يتسبب فيه ارتفاع تكلفة الوقود.

لكن الوقت في صالح روسيا، حيث يسمح للاقتصاد بضبط وتخفيف الضرر من العقوبات، ما يشجع موسكو على إطالة أمد القتال، بل وتصبح هناك فرصة في المقابل لإظهار نجاح موسكو في التعامل مع الأزمة.

الأمر الأكثر صعوبة، هو أن التوقف قد يوحي بأن بوتين كان محقاً في اعتقاده بأنه مهما كانت قيم أوروبا والولايات المتحدة وحلفائهما سامية، فإنها ستنهار تحت ضغط الدورات الانتخابية. ومثل هذا الموقف، سيتعلم منه الآخرون الدرس.

الموقف التفاوضي

تقول ماريا شاغينا، الباحثة في العقوبات الاقتصادية والإستراتيجية في "المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية" في برلين، إن التوقف سيؤدي إلى تلاشي كل من قوة الردع وتأثير الصدمة من فرض العقوبات، ما يزيد من مخاطر فشل الحلفاء في تقديم أسلحة كافية لأوكرانيا، وكذلك الإضرار بما يكفي اقتصادياً لروسيا، ما يزيد في النهاية من احتمال ظهور الإجهاد الذي يؤدي إلى ضعف موقف كييف التفاوضي.

ساعدت الإجراءات الحمائية في تصدي الاقتصاد الروسي للعقوبات بشكل أفضل مما كان يمكن أن تؤثر عليه في حالة عدم وجودها. فأداء الروبل القوي يرجع إلى الضوابط المفروضة على تدفق رأس المال، والتحويل الإلزامي لعائدات التصدير، التي أبقت ارتفاعات الأسعار تحت السيطرة. وبطبيعة الحال، لا تزال موسكو تجني الأموال من صادرات الطاقة، ما يجعل الكرملين يحقق أقصى استفادة من هذه الدعاية.

لكن إذا نظرنا عن قرب، سنجد أن روسيا تتضرر من العقوبات. فتباطؤ التضخم لا يرجع فقط إلى إجراءات البنك المركزي، ولكن لأن الطلب والثقة ضعيفان. كذلك انخفاض معدل البطالة، الذي علّق عليه بوتين، يرجع إلى تركز القوى العاملة في مؤسسات الدولة، والاستعداد لخفض ساعات العمل والأجور وليس خفض الوظائف، بدلاً من التركيز على نمو الاقتصاد.

ثم يأتي انخفاض الواردات، في ظل اعتماد الاقتصاد بشكل كبير على مكونات من الخارج. لا شك في أن بوتين يعطي الأولوية للحرب في المقام الأول، ومن الواضح أن روسيا قد تستطيع دعم العملة ومنع السحب من الودائع المصرفية، لكنها لا تستطيع حماية نفسها بسهولة من العقوبات التجارية عبر إيجاد أسواق بديلة.

مؤشرات على التراجع

كشفت دراسة للبنك المركزي الروسي نُشرت في أبريل الماضي، أن ثلثي الشركات التي شملها الاستطلاع تعاني من مشكلات في الاستيراد، وأن العقوبات تسببت بنقص في كل شيء، من السيارات إلى الزراعة، بالإضافة إلى التصفية الطوعية لأعمال الشركات الخاصة، حيث تسبب نقص الإمدادات في تراجع مبيعات السيارات بأكثر من 80% خلال شهر مايو الماضي.

وصل الأمر إلى إيقاف إنتاج عملاقة تصنيع الدبابات " أورالفاغون زافود" (Uralvagonzavod)، بينما يسعى الجيش إلى حل مشكلة نقص الرقائق، في ظل وقف مبيعات كبار المنتجين. وبينما تضع الصين، الشريك الرئيسي لروسيا، حدوداً واضحة على ما يمكن أن تقدمه. لن يتعرض الاقتصاد الروسي للانهيار، لكنه يتراجع بقوة.

من الواضح أن لدى الدكتاتوريين قدرة أكبر على تحمل الضرر من القادة الديمقراطيين، وهذا دافع إضافي لمواصلة الضغط، وعدم السماح لروسيا بإعادة التشكيل وتجميع قوتها، حيث يمنح عدم الضغط الوقت الكافي للنظام، والذي يمكن أن يستخدمه في مصلحته.

خطوتان حيويتان

تبقى هناك خطوتان حيويتان: تتمثل الأولى في بذل المزيد من الجهد لاستعداد حكومات التحالف والناخبين لصراع لن يتم التوصّل إلى حلّ سريع له، إذ إن أي حل وسط سريع لن يفيد المصالح الأمنية لأوكرانيا، ولا مصالح معظم دول العالم. لن يكون سهلاً إقناع الأوروبيين أو الأميركيين بالقبول ببعض الأضرار وتحمّل الأعباء، وإن كان الدعم المالي وتحديد الأهداف الواضحة يمكن أن يساعدا في ذلك.

أما الخطوة الثانية، فتتمثل في أن الوقت قد حان لكي تصبح العقوبات الحالية والمستقبلية مرتبطة بتحقيق شروط محددة، كي لا تبدو موسكو حبيسة خيار وحيد هو المواجهة. وكما قالت، شاغينا من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، فإن هذه هي الطريقة لتعظيم أثر العقوبات وإمكانات النفوذ الغربي.

بالتأكيد، هناك مخاطر في مقابل كل ذلك. فروسيا قوة نووية لا تريد أن تحشر نفسها في الزاوية. وفي نهاية المطاف سيتكيف اقتصادها مع واقع محدودية الموارد، وقد تكون هناك عقوبات مضادة، وعواقب غير محسوبة، لكن الافتقار إلى العزيمة، يبقى أكثر خطورة من ذلك.

لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب إلا على طاولة المفاوضات، وهناك، سيعتمد السلام الدائم على تقوية موقف أوكرانيا، وإضعاف قوة روسيا.