جحيم على متن سفينة سياحية

مرت ثلاثون ساعة حافلة بالأحداث ثم توجب على قبطان السفينة الإعلان عن خبر سيئ

السفينة "زاندام" لدى وصولها إلى فورت لودرديل في فلوريدا يوم 2 أبريل 2020
السفينة "زاندام" لدى وصولها إلى فورت لودرديل في فلوريدا يوم 2 أبريل 2020 المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

دخل جورج كوفريغ في الخامسة من فجر 27 مارس 2020 إلى مطبخ سفينة "إم إس زاندام" السياحية المكتظ وصدح قائلاً: "ما الذي تحتاجونه؟" كان ذلك مع بدء انتشار وباء كورونا فيما كانت "زاندام" تبحر قبالة سواحل أميركا الجنوبية منذ ثلاثة أسابيع حين راحت الدول تغلق موانئها واحدة تلو أخرى. استشرى فيروس كورونا بين ركاب "زاندام" فانضمّ كوفريغ مع ثلّة من زملائه من أفراد طاقم سفينة "أم أس روتردام" التابعة أيضاً لأسطول شركة "هولاند أميركا لاين" إلى "زاندام" لتقديم العون. حين انتقل المتطوعون إلى "زاندام"، كان مئات الركاب الذين لم تظهر عليهم أي أعراض يُنقلون إلى متن "روتردام". توقفت السفينتان قبالة قناة بنما، فيما سعت "هولاند أميركا" لإقناع السلطات البنمية بالسماح لسفينتيها بالعبور نحو فلوريدا.

كيف يتجنب العالم صدمة مماثلة لـ"أوميكرون" في المستقبل؟

كانت تلك مناوبة كوفريغ الأولى في المطبخ، فهو يدرك أن العمّال هناك عانوا الأمرّين وهم بأمس الحاجة للمساعدة، لكنه لم يكن مستعداً لما رأى. بدا أفراد الطاقم مستنفدين نفسياً وجسدياً وفاقدين للأمل. بكت إحدى عاملات خدمة الغرف التي بدأت للتوّ مناوبة جديدة تمتد 14 ساعة لتوصيل الطعام إلى المقصورات حين رأته وقالت: "أنت هنا! لا أصدق ذلك! أنت هنا". لم تستوعب كيف يمكن لشخص أن يتطوع لمساعدتهم كي يخرجوا من تلك الفوضى المروّعة. كررت تقول: "لا أصدق ذلك!"

أطلّ أحد من يعملون في غسل الأطباق عبر سحابة من البخار من خلف كومة من الأطباق المتسخة ثم تسمّر في مكانه وكان وجهه خالياً من أي تعبير فيما تجمّع الطهاة حول أفران الغاز الضخمة وهم يتصايحون وهم يترنحون تحت وطأة تحضير آلاف الوجبات للغرف يومياً. كان بعضهم يستخدم الأقنعة الطبية ويحاول التقاط أنفاسه، فيما وجد آخرون أنه من المستحيل استخدامها لشدة الحرّ.

طاقم مرهق

أُنيط تقديم الطعام بطاقم هزيل من الندّل وعمّال خدمة الغرف تساعدهم مسؤولة النظافة في السفينة إيرين مونتغومري، وهي الضابطة الوحيدة التي تطوعت لتساعد في غسل الأطباق. كان شعرها الطويل الأشقر متشابكاً لشدة الرطوبة والحرّ وسالت دموعها على وجنتيها حين رأت كوفريغ.

تعتمد مونتغومري عادة على أكثر من عشرين موظفاً لتشغيل جلايات الصحون وتنظيف المطبخ وإخراج النفايات إلى فرامات القمامة الضخمة في الطبقة الرابعة من السفينة، لكن ذاك الطاقم تقلص عدده إلى 11 عاملاً.

نقص العمالة يلوح في أفق صناعة الشحن البحري مستقبلاً

أمر القبطان الهولندي آنيه سميت قبل خمسة أيام بإغلاق السفينة، ليخيم سكون مهيب على مطاعمها الشاسعة التي كانت تقدم الوجبات بأسلوب البوفيه، وبات كافة الركاب يتلقون وجبات الفطور والغداء والعشاء عبر فريق تمّ تشكيله بعجالة لخدمة الغرف. فيما كان طاقم المطبخ والخدمة يعملون على تأمين طعام الركاب، كان الفيروس يفتك بزملائهم الذين يشاركونهم المهاجع واحداً تلو الآخر. تعيّن على من تبقى من الطهاة أن يعملوا بدوامين يومياً. أحصى كوفريغ 15 شخصاً فقط بصحة جيدة بما يكفي لتقديم الطعام إلى 716 غرفة.

أعطى مديرو خدمة الطعام والفندقة كوفريغ والمتطوعين الآخرين أوامر مبسطة: "ارتد قناعاً طبياً وقفازات ومئزراً وخذ عربة طعام وأوصل الوجبات. اطرق على باب الغرفة ثم ضع الصينية على البساط وتوجّه إلى الغرفة التالية. لا تتحدث إلى الركاب ولا تتلكأ".

باتت قائمة الطعام مع تراجع الإمدادات على متن السفينة تقتصر على البيض المائع والمعجنات والحبوب للإفطار وكثير من الشعيرية الآسيوية والأرز والدجاج للغداء والعشاء.

الحفاظ على المستوى

سعى الطهاة برغم الفوضى للحفاظ على بعض لمسات الفخامة التي تتميز بها "هولاند أميركا"، فحين توجّه كوفريغ لجلب أولى صوانيه، وجد الوجبات مرتبة بأناقة على مناديل من الكتان الناصع وإلى جانبها أدوات تناول طعام من الفضة الثقيلة. حملت كلّ صينية بطاقة منقوشة بشعار "زاندام" وطُبع عليها اقتباس عن الأم تيريزا: "لا يمكننا قطّ تخيّل كلّ الخير الذي تأتي به ابتسامة بسيطة".

وضع كوفريغ الصواني على عربته وتوجه إلى مصعد في وسط السفينة ليوصل أول مجموعة من الأطباق، ثم جمع الأطباق المتسخة التي وضعها الركاب خارج غرفهم وعاد بها عبر مصعد الخدمات في مؤخر السفينة.

6 أيام في السويس.. قصة سفينة هزت أركان التجارة العالمية

أمّا طاقم الترفيه فقد جُندوا في ما يشبه لواء مشاة يحارب كورونا. كُلّف بعضهم بمهمة تعبئة عشرات صناديق معقمات الأيدي، فيما انضمّ آخرون لكتيبة مسح الأسطح كما تولوا تنظيف الأسوار وأزرار المصاعد ومسكات الأبواب بمناديل معقمة. جاب راقصان الصالات وهما يحملان على ظهريهما آلات تعقيم فيما يمسكان بماسورتي رش تشبهان سلاحاً من فيلم "صائدي الأشباح" وسميا نفسيهما هزلاً "صائدي كورونا". كانا يجوبان لساعات يومياً الأروقة المهجورة على متن السفينة تلفهم سحابة من رذاذ المعقمات.

بدأت المخاطر الخفية تتبادر لأذهان أفراد الطاقم. كانت آن ويغيمان التي تعمل في مكتب الاستقبال تسمع كلّ شيء من خلف جدران غرفتها الرقيقة، سواء الأصوات الخافتة أو صيحات الغضب أو السعال. ففي مكان ما، ربما في الغرفة المجاورة، كان أحد الأشخاص يسعل بشكل شديد جداً وبدا وكأنه يجلس بجوارها وبدأت تشعر بالقلق. راحت تتساءل ما إذا كان يمكن أن يصلها الفيروس عبر فتحة التهوية. كانت تترك مسافة بينها وبين الآخرين إذا ما صادفتهم في الصالة حين تتوجه إلى مكان عملها كما كانت تحرص على عدم لمس أي شيء.

مكتب "ساخن"

تحوّل مكتب الاستقبال لما يشبه مركزاً لتلقي اتصالات الركاب العالقين في غرفهم. كان الوضع منهكاً جداً في بعض الأوقات حتى بدا وكأن المكتب تحوّل إلى خطّ ساخن لأزمة، فيما احتار الموظفون كيف يخففون من حدّة توتر النزلاء الذين بلغ فيهم العزل مبلغاً. اشتكت سيدة، يبدو من صوتها أنها مسنة، وقالت: "يجب أن تتوقفوا عن ذلك. أنتم تعطوننا كثيراً من الطعام". ثمّ أمسكت امرأة أخرى بسماعة الهاتف فجأة وهي تطرق بها على طاولة وهي تصرخ: "أوليس هذا مزعجاً"؟

هل نطرح الكمامات بعد الاستغناء عنها في السفر جواً؟

فقدت إحدى المسافرات أعصابها فيما كانت تتحدث مع مكتب الاستقبال عبر الهاتف، وقالت: "إذا لم يخبرني أحد ما الذي يجري سأقفز من على ظهر السفينة. لم أعد أطيق البقاء في غرفتي أكثر من هذا".

بدأ فوراً تنفيذ إجراء الطوارئ الذي يتطلب ذهاب طبيب إلى غرفة المتصلة. أومأت الموظفة التي أجابت اتصالها بإلحاح إلى زميلها في الجهة المقابلة من الصالة، وكتبت على لوحة: "نحتاج طبيباً في تلك الغرفة على الفور!"

ثمّ عادت إلى المتصلة محاولة تهدئتها وقالت: "فلنتنفس قليلاً. أخبريني ما الذي ترينه في غرفتك الآن؟" حاولت أن تحصر أفكار المتصلة بمحيطها المباشر، ثمّ سألتها: "هل هذه المرّة الأولى التي تزورين فيها أميركا الجنوبية؟" في محاولة لأن تبقي المرأة على الهاتف لحين وصول الطبيب إلى غرفتها. فهل تمكنوا من تفادي مأساة؟

كان الاتصال التالي جنونياً أيضاً، إذ كانت إحدى النساء تصرخ متذمرة: "الطعام مريع هنا!" كادت عاملة الاستقبال تفقد صوابها في تلك اللحظة وتمنّت لو كان بمقدورها أن تصيح بالمتصلة. من يخطر بباله أن يتذمر بشأن الطعام فيما يموت أناس آخرون؟ لكنها طلبت منها أن تضبط نفسها وقالت : "اهدئي، كل منا يحاول التعامل مع هذا الأمر بطريقته". كانوا جميعاً يكافحون من أجل البقاء وترتب عليهم أن يضحوا.

أخبار سوء

مرت ثلاثون ساعة حافلة بالأحداث توجب بعدها على سميت أن ينقل خبراً سيئاً.

تعمد سميت أن يكون صريحاً مع الركاب. لعلّ بعض قباطنة السفن السياحية الآخرين وصلوا إلى مناصبهم عبر ترويج صارخ لأنفسهم واستمتعوا بكلّ ما تغدقه عليهم مكانتهم، لكن سميت لم يكن من ذاك النوع. لقد كان يتردد في الأوضاع الطبيعية على حانة ضباط السفينة من حين إلى آخر ويطلق العنان لروحه المرحة الساخرة ويلقي بعض النكات الذكية. كان سميت رجلاً يكرّس نفسه لعائلته ويتجنب اللهو والعبث ويفضّل قضاء أمسياته بهدوء في جناحه عند جسر السفينة بدل التسكع من مكان إلى آخر. لقد أظهر تواضعاً حقيقياً على مرّ السنين، وهو ما كان له كبير الأثر في هذه الأزمة.

لم تحجمون عن تلقي الجرعة المعززة من اللقاح؟

منذ بدأت الأمور تتدهور، حرص سميت على الحديث مراراً عبر الإذاعة الداخلية، حتى حين لم يكن لديه أي مستجدات يبلغ بها الركاب. وضع روتيناً معيناً كي يسمع الركّاب صوته ويشعروا بأنه معهم. كان الناس يوجهون له الطلبات والالتماسات من كلّ حدب وصوب ومنهم مسؤولو الميناء المرتبكون وأفراد الطاقم ومسؤولو "هولاند أميركا" وشركتها الأم "كارنيفال" (Carnival). كان يجري عدّة مؤتمرات عبر الهاتف مع الشركة، لكن حين أتى وقت اتخاذ القرارات حرص على تذكير المسؤولين على البرّ بأنه هو من يوجد على متن السفينة. كانت أوقاتاً عصيبةً جداً وكان هدفه كسب ثقة الركاب وأن يوقنوا بصراحته. أخذ سميت نفساً عميقاً وشغّل نظام الاتصال العام وقال: "أرجو الانتباه، القطبان يتكلّم".

أوقف غسلة الأطباق في المطبخ الرئيسي هدير أدواتهم لينصتوا لقبطانهم وعمّ السكون المطبخ الذي كان يضجّ بالمزاح وبعض الكلمات البذيئة. قال سميت: "لديّ بعض الأمور التي أريد أن أخبركم بها، وهي أخبار محزنة". كانت نبرة القبطان الواثقة الهادئة تفضح شعوراً بالحزن والأسى. قال: "للأسف، توفي ثلاثة من ضيوفنا".

صرخ أحد العمال وراح أحد الطهاة يتمتم بصوت خافت قائلاً: "لا لا لا".

زال الشك باليقين

لم يكن أحد يعلم سبب المرض، إلا أن مونتغومري كانت شبه متأكدة أن السبب هو فيروس كوفيد-19 لأنها خضعت فيما سبق لبعض التدريب لدى مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، مع ذلك كانت تأمل أن يكون ما ينتشر في السفينة مرضاً أقل فتكاً، وكانت تعيش على هذا الأمل. لكن لم يعد هناك شكّ فقد بدأ الأطباء على متن السفينة يستخدمون أجهزة الاختبارات التي حصلوا عليها بعد توقفها مساءاً في ميناء مانتا في الإكوادور قبل يومين. كما حصلوا لاحقاً على مزيد من أجهزة الاختبار والمعدّات الطبية والمتطوعين من على متن "روتردام".

أضاف سميت: "خضع عدد من المرضى للاختبار بالأمس وجاءت نتيجة اختبار فيروس كوفيد-19 إيجابية لدى شخصين".

اختبار التنفس يُسهل تشخيص كورونا في التجمعات

بدأ حال من الانهيار بين الموجودين في المطبخ لدى سماعهم تلك الكلمات. جثت إحدى النساء على الأرض قرب مونتغومري تنتحب، وجلس تولينتينو تامايو، أحد المضيفين من الفليبين، إلى جانب غسالة الأطباق وأجهش بالبكاء فقد كان يعمل رغم ألمه واشتداد سعاله وارتفاع حرارته قليلاً. قال: "أنا خائف، أنا أشعر أنني أموت".

قالت مونتغومري لاحقاً: "كان يمكن رؤية آخر بصيص أمل في قلوبهم يخبو". أدركت جيداً ما كانوا يشعرون به، فهي الأخرى كانت تعمل ساعات طويلة. نظرت إلى تامايو والآخرين وأدركت أنها لن تصمد طويلاً قبل أن تنهار هي الأخرى.

بدأ الذعر يتملك كوفريغ، الذي كان يقف قرب عربة الطعام خارج المطبخ فيما كان القبطان يتكلّم، فحين قرر مع غيره من المتطوعين من "روتردام" القدوم إلى السفينة كان هناك احتمال بأن يكون فيروس كورونا هو سبب إصابة الركاب، لكنه حاول التفكير بهدوء وتجاهل الخطر. لكن اختلف الوضع الآن فقد تأكد أن المرض ينتشر على السفينة وأن الناس يموتون. فانتابه الذعر حين لم يعد هناك مفرّ، وراح يتساءل: "يا إلهي ما الذي يحصل؟ ما الذي أتى بي إلى هنا؟"

حكومة في مهب الوباء

تسبب الإعلان عن الإصابات بفيروس كورونا على متن سفينة "زاندام" بأزمة على أعلى المستويات لحكومة بنما. لم تنحصر مناقشات المسؤولين الحكوميين في مسألة مساعدة السفينة المنكوبة على عبور قناة بنما، بل تطرقوا أيضاً لمسائل أكثر حرجاً وهي: هل يمكنهم الوثوق بمديري الشركة البحرية؟ كانوا يشتبهون بأن "هولاند أميركا" أخرت الكشف عن الإصابات لتجنب إجهاض المفاوضات الرامية لتأمين عبور السفن للقناة.

كانت وزارة الصحة قبل ذلك ببضعة أيام قد منعت أي سفينة من دخول قناة بنما في حال كان على متنها ولو إصابة واحدة بفيروس كورونا، فقد خشيت السلطات من أن ينتقل الفيروس إلى قباطنة القناة وهم الأشخاص الوحيدون المدربون والمرخصون لتمكين السفن من العبور. ستعني اصابتهم إغلاق إحدى طرق الشحن البحري الأهم في العالم. فلو علمت بنما بتفشي الفيروس على متن السفينة في وقت أبكر، لأمكنها منعها من دخول مياهها الإقليمية.

انحسار التوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين يحقق لقناة بنما عاماً قياسياً

استنجد ركاب سفينة "زاندام" عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطلب المساعدة من العالم. لقد اعتبر كثير منهم أن موت أشخاص على متن السفينة دليل على أن العالم تركهم ليواجهوا مصيرهم. قالت لورا غاباروني، إحدى ركاب السفينة في مقابلة إعلامية: "حرمت الدول التي رفضت استقبال سفينتنا أولئك الناس من رعاية طبية كانت لتنقذ حياتهم. أيدي من أغلقوا الأبواب في وجهنا ملطخة بدماء الضحايا... لن نعلم قطّ ما إذا كان يمكن إنقاذ أولئك الناس لو حصلوا على الرعاية التي يحتاجونها. على من قرروا أن يغلقوا أبوابهم أن يتعايشوا مع ذلك".

بات القرار حينها بيد حكومة بنما. فهل تقدم المساعدة التي رفض جيرانها تقديمها؟ أو أنها ستجبر السفينة على العودة إلى المياه الدولية؟ كان تلك السفينة تقلّ مواطني عدّة دول منها الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وكندا، وقد مارس دبلوماسيو تلك الدول ضغوطاً على بنما.

رضوخ بنما

وافقت حكومة بنما في صباح 28 مارس على العبور العاجل لسفينتيْ "زاندام" و"روتردام". انتظرت الحكومة لأطول وقت ممكن قبل إعلانها الخبر لإبقائه بعيداً عن الإعلام حتى اللحظة الأخيرة. أذنت الحكومة لسفينتي "زاندام" و"روتردام" بتخطي نظام العبور القديم من أجل الحدّ من التعاطي بين عمّال رصيف الميناء وطاقمي السفينتين وسمحت لهما بالعبور عبر منظومة الأقفال الجديدة "نيو – بنماكس" التي اكتملت في 2016. برغم أن قنوات هذه المنظومة أوسع قليلاً، إلا أنها ستتيح متراً واحداً فقط من كلّ جانب للسفن في بعض المراحل وقد اعتُبرت كافية بغية الاستغناء عن الطواقم البرية التي عادة ما ترشد السفن وتجرها باستخدام نظام من القاطرات الصغيرة. يُشغل نظام التوجيه هذا حوالي 12 عاملاً على الأقل يُعرفون باسم "فريق الربط"، وتتطلب العملية حبالاً يتعين تمريرها ذهاباً وإياباً بين السفينة والبرّ، ما يعني احتمال أن يلمسها عمّال من الجهتين. كانت هذه هي المرّة الأولى في الذاكرة التي تتخطى فيها سفينة سياحية استخدام الحبال والمساعدة البرية.

ألف بحّار على متن عشرات السفن العالقة قبالة سواحل أوكرانيا

قامت الخطة على أن يدير القبطان البنمي خوان فيليو العملية من على جسر سفينة "زاندام" فقد وافق سميت على إخلاء جميع أفراد الطاقم غير الأساسيين. وجّه فليو السفينة عبر الطريق الملتوية نحو بحيرة غاتون، وهي بحيرة اصطناعية أنشئت إثر تحويل الأنهار وبناء القناة. لدى مغادرة البحيرة تدخل "زاندام" وخلفها مباشرة "روتردام" القفل الأول من قفلين يُهبطان بالسفينة إلى مستوى المحيط الأطلسي.

ستستغرق العملية 12 ساعة، ومع وجود قبطان واحد فقط على متن كلّ سفينة، كانت هذه تعتبر خطوة جريئة جداً لأن القناة لا تسهم بجزء كبير من الإيرادات الوطنية فحسب، بل يتعلق بها قدر غير يسير من سمعة بنما. لو فشلت العملية أو تفشت العدوى في القناة أو تعطلت أو تأخر العبور فيها، فستترتب على ذلك عواقب سياسية لا تحمد عقباها.

شروط العبور

أصرّ الجانب البنمي على مباشرة العملية في وقت متأخر من الليل، حيث ارتؤوا ضرورة ذلك لسببين وهما أنه في ذلك الوقت تخف حركة العبور في القناة وتكون الشمس قد غابت فتخف شدة الحرّ على القباطنة المتطوعين الذين تعيّن عليهم ارتداء طبقات عديدة من الملابس الواقية الخانقة لدرجة أنهم بدوا وكأنهم في طريقهم لفحص مفاعل نووي.

ما المطلوب لتشغيل سفن العالم في الوقت المحدد؟

كي يتم العبور دون لفت للأنظار قدر الإمكان، تعيّن على جميع الركاب الالتزام بقواعد صارمة. استخدم سميت جهاز الإذاعة الداخلي لتوجيه تعليماته للركاب، فقد استوجب الأمر امتثالاً مطلقاً منهم لإتمامه. طُلب من جميع الركاب البقاء داخل مقصوراتهم وحُظر تماماً خروجهم إلى الأروقة أو إلى الشرفات. كما مُنع إصدار أي ضجيج أو إضاءة الأنوار أو استراق النظر من خلف الستائر لرؤية الشاطئ. بدا سميت وكأنه يتحدث عن عملية سرية وجد فيها الكثير من الركاب إثارة كما لو كانوا منخرطين في مؤامرة، فبعد أيام كثيرة من الانكسار والهزيمة أتتهم فرصة نصر جماعي.

مع ذلك، لم يكن قد تبين كيف ستصل سفينة "زاندام" إلى وجهتها النهائية. فقد كان الفيروس يواصل انتشاره ولم يكن أي ميناء أميركي قد وافق بعد على رسو السفينة. حتى فيما توجهت السفينتان شمالاً، لم يكن معلوماً متى سيبلغ الركاب برّ الأمان.