عصر تعويل البنوك المركزية على مصداقيتها ينقضي

لا يحتاج المصرف ذو المصداقية لاتخاذ أي خطوات فعلية فتكفي بضع كلمات منه لضبط السوق

 رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول ورئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد في صورة تعبيرية عن فقدان البنوك المركزية مصداقيتها
رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول ورئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد في صورة تعبيرية عن فقدان البنوك المركزية مصداقيتها المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

سقوط الأنظمة النقدية ليس شائعاً. أسدل ريتشارد نيكسون رسمياً قبل نصف قرن الستار على "عصر الذهب" حين ألغى ربط الدولار بالمعدن النفيس في 1971. منذئذ تكمن قيمة الدولار وغيره من العملات بكونها نقداً إلزامياً، أي أنها ذات قيمة لأن الحكومات تقول ذلك. يمكن تسمية هذه الحقبة "عصر المصداقية" لأن العملات تستند إلى المصارف المركزية التي تصدرها بدل الذهب. لكن تبدو هذه المصداقية اليوم في نزعها الأخير. فيما تستميت المصارف المركزية في بحثها عن حلول مبتكرة لكبح جماح التضخم الذي انحرف بعيداً جداً عن الهدف، باتت تقرّ بأنها كانت على خطأ وبدأت تتخلّى عن السعي لتوجيه الأسواق حسب خططها المستقبلية.

البنوك المركزية غير قادرة وحدها على التصدي للركود التضخمي

هذا أمر مقلق لأن سابقة السبعينيات ليست مشجعة. ارتبطت العملات بالنفط بدل الذهب لفترة وجيزة وعانى العالم ركوداً تضخمياً طويلاً. بدأ "عصر المصداقية" مع بول فولكر الذي تولّى منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي، ورفع معدلات الفائدة مراراً في مطلع الثمانينيات فتمكّن من القضاء على التضخم. ارتبطت العملة بمصداقية المصرفيين المركزيين على مدى أربعة عقود تلت ذلك. فطالما يثق الجميع بقدرة المصرفيين المركزيين على حماية القوة الشرائية للمال يبقى النقد الإلزامي ناجحاً.

سطوة بكلمات

لا يحتاج المصرف ذو المصداقية حتى لاتخاذ أي خطوات فتكفي بضع كلمات منه لضبط السوق. أحدث رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي ألان غرينسبان تصحيحاً في سوق الأسهم في نهاية 1996 بمجرد الإشارة في خطاب لاحتمال وجود "وفرة لا عقلانية". أسهم رئيس المصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي بالحدّ من أزمة الديون السيادية الأوروبية في 2012 عبر تعهده ببذل "كلّ ما يلزم" لإنقاذ العملة، دون أن يحتاج لفعل أي شيء بعدها. حتى أن سلف دراغي، جان كلود تريشيه ابتكر شيفرته الخاصة: فإن قال إنه "يقظ جداً" يدرك الناس أن اجتماع تخطيط السياسات المقبل سيتمخض عن رفع للفائدة.

لماذا تخطئ البنوك المركزية في توقعاتها بشأن التضخم؟

من السمات اللافتة لعصر المصداقية أن التضخم لم يكن يرتفع كثيراً. لم يتخطَّ مؤشر أسعار المستهلك، الذي يستثني الغذاء والوقود وهو المقياس المفضل لدى المصارف المركزية، بين 1994 و2021 حدود 3% أي سقف النطاق المستهدف سواء في الولايات المتحدة أو منطقة اليورو. كما أن معدلات التضخم في اليابان ظلّت أقل من ذلك بكثير.

لكن حان الآن وقت لطرح السؤال حول ما إذا كان انخفاض التضخم هو نتيجة مصداقية البنوك المركزية. ربما كان الأمر مجرد التقاء موفق لعدّة عوامل. كانت التركيبة السكانية مواتية مع نموّ عدد السكان في سنّ العمل الذين يدخرون للمستقبل بالإضافة إلى العولمة مع فرض الصين نفسها في السوق العالمية ما أسهم بإبقاء كلفة العمالة منخفضة. ظلت أسعار السلع الأساسية تحت السيطرة بالمقارنة مع السبعينيات، باستثناء فترة وجيزة حين تسببت السوق الصاعدة في النفط بارتفاع الأسعار في صيف 2008 الذي سبق الأزمة المالية. لم يكن كبح التضخم صعباً في مثل تلك الأجواء.

سياسات جريئة

كان إنقاذ الأسواق من خلال خفض معدلات الفائدة خلال الأزمات يكاد لا يكلّف شيئاً. حين تعهد دراغي بفعل "كل ما يلزم"، عنى أنه كان جاهزاً لخفض معدلات الفائدة أو شراء السندات الحكومية أو اتخاذ خطوات أخرى كانت ستؤدي في العادة لرفع التضخم. تمكن من ذلك بما أن أوروبا كانت تمرّ بركود انكماشي لكن الواقع تغير الآن.

غابت السياسات المالية الجريئة طوال العقود الماضية، فالبرامج الاستثمارية الكينزية خسرت شعبيتها منذ بداية الثمانينيات، وارتفعت الأصوات في الدول الغربية للمطالبة بموازنات متوازنة. ألقى ذلك بالمزيد من الثقل على كاهل المصارف المركزية ومصداقيتها مع سعي الحكومات المنتخبة بشكل عام لتجنب ما يعرف ازدراءً بسياسات "فرض الضرائب والإنفاق". إلا أن هذا النهج يترنح منذ سنوات. تحوّل الالتزام الفعلي للمصارف المركزية مع انفجار فقاعة الإنترنت في 2000 نحو التركيز على عدم السماح بانخفاض أسعار الأسهم كثيراً، وأذنت الأزمة المالية في 2008 ببدء عقد كانت فيه مصداقية المصرف المركزي معلّقة على إبقاء عوائد السندات منخفضة ومحاولة رفع التضخم وليس خفضه.

الاحتياطي الفيدرالي يبالغ باهتمامه حيال 500 رأي عشوائي

إلا أن الارتفاع الكبير في الأسعار الناجم عن الوباء أطاح بمصداقية محافظي المصارف المركزية. أساء الاحتياطي الفيدرالي ونظراؤه حول العالم تقدير المسار الذي سيسلكه التضخم، واعتقدوا خطأً أنه سيكون "انتقالياً". لم يعد بإمكانهم بعد سلسلة من القرارات الخاطئة قيادة الأسواق بثقة نحو الخطوات المستقبلية فاستسلموا.

تراجع رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول في يونيو عن تأكيده بأن رفع معدل الفائدة 0.75 نقطة مئوية "ليس مطروحاً على الطاولة" ورفعها 0.75 نقطة.

حماية الأسواق

اضطرت رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد في يونيو أيضاً لعقد اجتماع طارئ لصنّاع السياسات بعد أقل من أسبوع من اجتماعهم الدوري رداً على هجوم مضاربة على السندات الحكومية الإيطالية. نجم هذا التخارج عن فشل المركزي الأوروبي في وقت سابق بمعالجة مسألة الحفاظ على انتظام ديون الدول المختلفة فيما يبدأ برفع معدلات الفائدة في يوليو. على النقيض من دراغي قبل عقد، تعيّن على لاغارد أن تثبت بأن لديها خطة لحماية أسواق الدين في منطقة اليورو من التفتت.

بدا أن بنك إنجلترا تعهد برفع معدل الفائدة في نوفمبر، إلا أنه صدم الجميع حين لم يفعل ذلك، ليعود ويحدث صدمة بالقدر نفسه، حين رفعها في ديسمبر. أحدث البنك الوطني السويسري في 16 يونيو صدمة بعدما رفع معدلات الفائدة للمرّة الأولى منذ أكثر من عقد، والصدمة الأكبر أن هذه الزيادة كانت بنصف نقطة مئوية.

"المركزي الأوروبي" يتعلَّم درساً في طريقة إدارة سوق السندات

ما التالي؟ تقوم الخطة الضمنية للمصرفيين على اعتقاد بأنه بعد فوضى لا يمكن تجنبها مثل تلك التي حصلت في السبعينيات، ستستعيد المصارف المركزية مصداقيتها ويعود الانتظام لكن تحقيق ذلك لن يكون سهلاً فالثقة في كافة المؤسسات قليلة جداً أصلاً. لم تعد كلمة باول أو لاغارد بوزن كلمة فولكر ولا توزن بميزان الذهب.

يعود جزء كبير من سبب خسارة المصارف المركزية مصداقيتها إلى اضطرارها للقيام بكثير، فسبب عدم رغبة الحكومات المنتخبة باتخاذ الإجراءات التي قد تحفّز النموّ أو التعامل مع الأزمات أو عدم قدرتها على ذلك، اضطر التكنوقراط غير المنتخبين لملء الفجوة، وهم لم يقوموا بذلك عن طيب خاطر. فقد ماطل البنك المركزي الأوروبي طيلة عامين خلال أزمة الديون السيادية لإجبار السياسيين على إصلاح شوائب اليورو البنيوية. كما أصرّ بن بيرنانكي حين كان يشغل منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي على أن يصوّت الكونغرس على برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة الهادف لإنقاذ البنوك كي لا يكون البرنامج نتاج المصرف المركزي وحده. لكن في كلتا الحالتين، ترك السياسيون الأمر للمصرفيين للتعامل مع الفوضى.

مسؤولية من؟

يمكن القول إن السبب الرئيسي لعودة التضخم في العام الماضي كان لجوء الحكومات في 2020 للإنفاق التحفيزي لدعم المؤسسات والأسر خلال الفترة الأسوأ من الوباء. لم تستوعب البنوك المركزية أن ذلك يعني أن بإمكانها الكفّ عن شراء السندات في إطار سياسة التيسير الكمي. انتظر الاحتياطي الفدرالي حتى مارس ليجري آخر عملية شراء تيسير كمّي له، فيما يتعيّن على المركزي الأوروبي القيام بآخر عملية شراء هذا الشهر.

ما المطلوب من بايدن للخروج من مأزق التضخم؟

بات حلّ المسألة على عاتق السياسيين مع عودة تكلفة المعيشة لتكون قضية محورية بدلاً من التكنوقراط في الاحتياطي الفيدرالي تماماً كما كان الحال في السبعينيات، كما أن ذلك أصبح مسألة بقاء لبعضهم. يستخدم الجمهوريون في الولايات المتحدة مصطلح "التضخم الناجم عن بايدن" استباقاً لانتخابات التجديد النصفي في نوفمبر.

تبحث إدارة بايدن والعديد من الحكومات الأخرى عن سبل لمكافحة التضخم غير السياسة النقدية وترزح الحكومات على امتداد العالم تحت وطأة ضغوط شعبية من اليسار واليمين لتلعب دوراً فعّالاً أكبر في الاقتصاد، مثلاً من خلال تحديد سقف لأسعار الطاقة أو دعم أسعار الطاقة للأسر للحدّ من معاناتها على المدى القصير.

يبدو إذاً أن مرساة العملات ستكون الثقة بالحكومات بدل المصارف المركزية، وهذه ليست فكرة مطمئنة.