سنغافورة تسحب "الأدمغة والعضلات" من ماليزيا

عاملات يرتدين كمامات واقية أثناء عملهن في منشأة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية
عاملات يرتدين كمامات واقية أثناء عملهن في منشأة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية المصدر: غيتي إيمجز
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بدأ اقتصاد ماليزيا ينبئ ببشائر تحسّن بعد الوباء. فقد أعيد فتح الحدود البرية مع سنغافورة، ما يجلب الملايين من الزوار.

عادت أيضاً الازدحامات المرورية الخانقة التي تشتهر فيها العاصمة كوالالمبور، كما تدفق المتسوقون مجدداً إلى مراكز التسوق. لكن هذا الانتعاش ترافق مع مفارقة لافتة، فالعديد من العاملين انتقلوا إلى وظائف تدرّ أجوراً أفضل في الجارة الجنوبية الثرية للبلاد، لدرجة أن الشركات الماليزية تواجه تحديات لتلبية الطلب على خدماتها.

فمن السياحة إلى الزراعة، يتسبب نقص العمالة بعرقلة الانتعاش الاقتصادي. كما يضيف إلى الضغوط التي يرزح تحتها أصلاً اقتصاد الدولة المنتمية إلى الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل، والتي كانت في السابق نموذجاً للدول في طور النموّ، إلا أنها عانت من تباطؤ طويل الأجل في النمو، كان قد بدأ قبل فترة من وباء كورونا. وللانتقال إلى المستوى التالي من الاقتصادات المزدهرة، لابدّ أن توقف ماليزيا نزف أدمغتها.

اقرأ أيضاً: جورج سوروس ومهاتير محمد وإرث 1997

تطمح ماليزيا للخروج من فخّ الدخل المتوسط، فهي أقل ثراء من سنغافورة، ولكنها في وضع أفضل من جيرانها الآخرين مثل إندونيسيا والفلبين. مع ذلك، فإن جلب اليد العاملة من الخارج للعمل في مجالات الزراعة والبناء والصناعة الخفيفة إلى المتوسطة شيء، وما تواجهه ماليزيا من ضربة مزدوجة شيء آخر. فالقوى العاملة منخفضة المهارة مستنفدة بسبب تجميد التوظيف وإغلاق الحدود خلال وباء كوفيد. لكن يُرجّح أن يستأنف أصحاب المهارات العالية هجرتهم على الأرجح.

بدأت ماليزيا ببطء تخفيف قيودها على التوظيف. ولتعويض النقص الحالي، يشجع أصحاب العمل السكان المحليين على الإقبال على وظائف كانوا يرفضونها في السابق، تتسم بأنها وظائف قذرة وخطرة وصعبة.

دخل مرتفع في سنغافورة

في منطقة مرتفعات الكاميرون في ماليزيا، تنتظر الشاحنات للانطلاق إلى سنغافورة محمّلة بالطماطم، والفلفل، والبصل، والخيار. هناك، يستعين المزارع، لويس لاو، للمرّة الأولى بمواطنين ماليزيين للقيام بأعمال كان يشتغل بها الأجانب في العادة. وقال لي "نحن نواجه مشكلة كبيرة". في بينانق على الساحل الشمالي الغربي، عدد كبير من السفن التي كان يفترض أن تبحر لأسبوع على الأقل، لا تزال راسية في الميناء بسبب النقص في العمالة المهاجرة.

في الجانب الآخر من ماليزيا، في ولاية جوهر، يتذمر أصحاب الفنادق من جاذبية سنغافورة. وسّلطت صحيفة "ذا ستار" الضوء على هذه الأزمة في صفحتها الأولى، فتناولت شكاوى المديرين التنفيذيين في الفنادق من ندرة اليد العاملة الأجنبية للعمل في تنظيف الغرف وتسجيل الدخول وإبقاء أضواء الفنادق منارة. وقال مدير شركة "توريزم جوهر" (Tourism Johor)، سوهايري هاشم في مقابلة مع الصحيفة إنه "من الصعب على الفنادق هنا أن تتنافس مع أصحاب العمل في سنغافورة، حيث يحصل السكان المحليون على ثلاثة أضعاف الراتب مقابل القيام بالأمر نفسه".

ماليزيا تُخفض توقعات النمو وتُوجه سياستها النقدية لإنعاش الاقتصاد

إلغاء قيود السفر ينعش وظائف الطيران ومطار سنغافورة يحتاج 6600 وظيفة

بعد الضغط بقوة باتجاه إعادة فتح الجسر مع سنغافورة، وجدت الشركات في جوهر أنها بالكاد لديها ما يكفي من الأشخاص لفتح الطريق. وفيما يقول أصحاب العمل في ماليزيا إن سنغافورة، المدينة الدولة حيث الناتج الإجمالي المحلي للفرد هو من الأعلى في العالم، تستقطب المواهب، فإن سنغافورة تعاني من نقص هي الأخرى. وصلت نسبة البطالة في سنغافورة إلى 2.2%.

تسعى حكومة سنغافورة التي فرضت أيضاً قيوداً مشددة على الحدود خلال وباء كورونا، للتخفيف من النقص حيث يحثّ الوزراء الشركات على توظيف سكان محليين. كان الاعتماد على العمالة المستوردة تحوّل إلى موضوع حساس خلال العقد الماضي، بالأخص بعد أن أدى الركود العميق في عام 2020 إلى انتكاسة انتخابية نادرة للحزب الحاكم. وعلى الرغم من تراجع اليد العاملة خلال العامين الماضيين، إلا أنها لا تزال تشكل أكثر من 20% من السكان.

التحدي الأكبر لماليزيا

ستبقى سنغافورة وماليزيا اللتان اتحدتا معاً لسنتين حافلتين بالاضطرابات في الستينات متصلتين اقتصادياً على الدوام. أظهرت الدولتان، كلّ بطريقتها، مشاعر متباينة حيال العمالة الأجنبية، بدون أن يحدّ ذلك من حاجتهما إليها. تواجه ماليزيا التي تعاني من شيخوخة السكان خطر الركود قبل أن تحقق الثراء، وهي بحاجة إلى عمالة نابضة بالحيوية لتجنب هذا المصير. أمّا سنغافورة وعلى الرغم من ريادتها كمركز أعمال عالمي، لا تزال بحاجة لمقاولين وسائقي حافلات وعمال بناء وممرضين.

بالمقارنة بين الدولتين، يبدو أن ماليزيا تواجه التحدّي الأكبر، فهي تواجه هجرة الأدمغة والعضلات، مدفوعة بتمييز عرقي يصعب معالجته ويفضل قومية المالايو على الأقليات الأخرى.

"يغادر قسم كبير من المواطنين الأكثر تعلماً وكفاءة البلاد بسبب نقص الفرص"، بحسب ما جاء في تقرير للبنك الدولي في العام الماضي حول تقدم البلاد لتصبح ضمن شريحة الدول عالية الدخل، وهو هدف يرجح تحقيقه بين عامي 2024 و2028. شكل أصحاب الكفاءات العالية ثلث المهاجرين إلى الخارج، أي ما يوازي 20% من إجمالي السكان المحليين الحاصلين على تعليم جامعي.

كيف سيتغير مركز سنغافورة المالي بعد الجائحة؟

من أجل إقناع المواطنين على البقاء في البلاد، لا بدّ أن تخفف ماليزيا من بعض القيود التي أعاقت نشاط قطاع الأعمال. فكثير من الشركات المدعومة من الدولة أو الشركات المملوكة اسمياً من قبل جهات خاصة ويديرها أشخاص مقربون من الحكومة تمتد أيديها إلى كلّ القطاعات تقريباً، ما يحدّ من المنافسة. وفي العادة، تُستخدم الشركات المملوكة من الدولة كحصّالات لتمويل المشاريع والتعهدات المرغوبة سياسياً التي تقدم إسهامات محدودة في الديناميكية الإجمالية. وهذا ببساطة لا يلبي طموح المتخرجين الشباب.

في الغالب، العمّال الأجانب في ماليزيا هم من أصحاب المهارات المنخفضة، فالقليل منهم نسبياً متخرجون من المدارس الثانوية. وهم بدؤوا في سدّ الثغرات في سوق العمل قبل عقود، بالأخص في قطاع الصناعة. وكانوا يشكلون 15% من القوة العاملة قبل الوباء، بحسب البنك الدولي. (إلى جانب عدد كبير من العمال غير المسجلين الذين يصعب إحصاؤهم).

لطالما طمحت ماليزيا للانضمام إلى صفوف الاقتصادات المتقدمة، واستعرضت بفخر بعضاً من إنجازاتها، مثل قطاع صناعة السيارات المحلي، وأطول مبنى في العالم وغيرها. لكن سيكون من الجيد أن تركز على عناصر أقل بريقاً وأكثر تأثيراً في النجاح، مثل سوق العمل القادرة على دعم التنمية في العقود المقبلة، وليس مجرد إرث من السنوات الذهبية من نهاية القرن العشرين.