جورج سوروس ومهاتير محمد وإرث 1997

سعى مهاتير لتجنب تحميله مسؤولية الصعوبات المقبلة فوجّه أصابع الاتهام إلى قوى خارجية

الملياردير جورج سوروس (إلى اليمين) ورئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد
الملياردير جورج سوروس (إلى اليمين) ورئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد المصدر: غيتي إيمجز
Daniel Moss
Daniel Moss

Daniel Moss is a Bloomberg Opinion columnist covering Asian economies. Previously he was executive editor of Bloomberg News for global economics, and has led teams in Asia, Europe and North America.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

جاء الانهيار الذي سمي لاحقاً بالأزمة المالية الآسيوية على عدّة فصول، فخلال نحو سنتين في نهاية تسعينيات القرن الماضي، انهارت اقتصادات إندونيسيا وتايلندا وكوريا الجنوبية، في حين عانت ماليزيا من أشدّ ركود لها، وهزّت العالم بقيودها على رأس المال. لفهم طبيعة القوى التي دفعت نحو هذا الانهيار في السوق، يكفي التوقف عند لحظة واحدة في هونغ كونغ في أيام الانهيار الأولى.

شبّ خلاف في الاجتماع السنوي المشترك بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سبتمبر 1997 حول الطرف الذي يتحمّل مسؤولية الكارثة المالية الوليدة ونوع النموذج الاقتصادي الذي ستنتجه. كان نجما تلك المواجهة مهاتير محمد في أوج نفوذه كرئيس لوزراء ماليزيا والملياردير جورج سوروس، الذي كان قد قام برهانات جريئة ضدّ عملتيّ تايلندا وماليزيا قبل الأزمة. كان سوروس قد هزم مساعي بنك إنجلترا لدعم الجنيه الإسترليني قبل ذلك ببضع سنوات. كان مهاتير محمد قد قاد معدلات نموّ مرتفعة على امتداد معظم سنوات حكمه الـ16، وبات هذا النموّ مهدداً بالتراجع.

"بلاك روك" تقتحم الصين.. وسوروس يتحسر

فيما كانت تايلندا تخضع لقيود حزمة الإنقاذ بقيادة صندوق النقد الدولي، وتنزلق إندونيسيا نحو حزمة مماثلة؛ خشي مهاتير من أن يأتي الدور على ماليزيا. صوّر مهاتير وغيره من القوميين سوروس على أنَّه ممثل للرأسمالية العالمية، مع كلّ تقلباتها، فكان محط الأنظار عليه، وأحياناً الثناء، لقدرته على رصد الدول والأصول عندما تبدأ بالتلكؤ. كان مهاتير يقدّم نموذجاً عن الطريقة القديمة في ممارسة الأعمال بإدارة الدولة، فقد كان يترافق النموّ الاقتصادي الفائق غالباً مع المركزية السياسية.

خصم لدود

سعى مهاتير محمد لتجنّب تحميله مسؤولية الصعوبات المقبلة، فوجّه أصابع الاتهام إلى قوى خارجية تعمل على عرقلة تقدّم ماليزيا. ووجد هذا الخصم اللدود في سوروس الذي سبق أن وجّه لمهاتير انتقادات حادة. لا تخرج مجريات اجتماعات صندوق النقد الدولي إلى العلن في المعتاد، لكن خلال نهاية الأسبوع المشحونة تلك، كانت المواجهة بين الرجلين في أوجّها. مهاتير الذي كان قد نعت سوروس بـ"الأحمق" اتهم العمالقة الماليين بمحاولة القضاء على عقود من التنمية الاقتصادية التي أسهمت بصعود عشرات الملايين من المواطنين إلى الطبقة الوسطى. من جانبه، وصف سوروس مهاتير بأنَّه يشكّل "تهديداً" لبلاده.

الملياردير "سوروس" يقتنص ضحايا انهيار "آركيغوس"

برغم أنَّ المواجهة بين الرجلين كانت أشبه بشجار بين تلامذة في ملعب مدرسة؛ إلا أنَّ أسئلة عميقة كانت تكمن خلفها. هل ستستعيد آسيا معدلات النموّ الخارقة التي انتشلت مئات الملايين من السكان من الفقر خلال جيل واحد؟ هل يمكن للأطر السياسية التي بُنيت طيلة عقود حول شخص الزعيم أن تنجو من الانكماش المؤلم؟. في حين رحب القادة الآسيويون بتحرير الأسواق في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كطريقة لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر والمحفظات الاستثمارية الرأسمالية؛ فإنَّ فقدانهم للسيطرة الذي ترافق مع ذلك أقلقهم، وقد سعوا قبل الأزمة وفي مراحلها الأولى لتأخير ساعة الحساب.

استسلام تايلندا

بدأت الأزمة المالية الآسيوية تتجلّى يوم الثاني من يوليو قبل 25 عاماً، حين تخلت تايلندا عن مساعيها لدعم عملتها، البات. أدى استسلام تايلندا إلى تراجع حاد في أسواق صرف العملات، مما وضع بانكوك وجاكرتا وسيؤول على طريق طلب حزم إنقاذ من صندوق النقد الدولي. كما أشعلت الأزمة فتيل اضطرابات سياسية كانت قد بدأت تتراكم منذ زمن.

الانتفاضة السياسية في ماليزيا أمامها طريق طويل للاستقرار

في إندونيسيا، أدت الاضطرابات المترافقة مع الشروط القاسية، التي فرضها صندوق النقد الدولي حتى يمنح البلاد ثلاثة قروض طارئة بدءاً من أكتوبر 1997، لتعجيل نهاية حقبة سوهارتو التي امتدت لثلاثة عقود حافلة بنموّ مذهل، ولكن بالقمع أيضاً. فطالما كان الازدهار الاقتصادي قائماً؛ أمكن تجاهل الكثير من الأمور الأخرى. كلّ ذلك انتهى في مايو 1998 وسط أحداث عنف طائفية ومقتل متظاهرين من الطلاب على أيدي الشرطة. فاز مرشح المعارضة الكورية بالرئاسة للمرة الأولى بعد أشهر من ذلك. تمكّن مهاتير من الصمود، غير أنَّه ترك إرثاً من التشرذم في الإدارة الماليزية، مما أدى في نهاية المطاف إلى هزيمة الحزب الحاكم في 2018. واجهت عملية التحول الديمقراطي في المنطقة انتكاسات، برغم أنَّ الدول الثلاث باتت اليوم أكثر انفتاحاً بأشواط مقارنة مع ما قبل الانهيار.

الدولار القوي

لم تبقَ الأزمة محصورة على الصعيد الآسيوي، بل تمدّدت تردداتها إلى روسيا وأميركا اللاتينية. فرّت رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة الهشة وتراكمت في الدولار، فعاشت الولايات المتحدة فترة ازدهار، وتبنّت سياسة "الدولار القوي". كان مهندسا هذا الواقع السعيد، وهما محافظ مجلس الاحتياطي الفدرالي ألن غرينسبان ووزير الخزانة روبرت روبين، حاضرين في الاجتماع المشترك لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هونغ كونغ، لكنَّهما تجنّبا المسرحية التي كانت تحصل، وكان معهما أيضاً مساعد شاب في وزارة الخارجية هو تيم غيثنر، إذ لم يكن ازدهار الولايات المتحدة مهدداً بسبب اضطراب السوق بعد.

الدولار القوي "مشكلة العالم" في سوق النفط

لعب غيثنر دوراً أساسياً في التحديات المالية التي عصفت بالولايات المتحدة بين 2007 و2009، في البداية كرئيس للاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ثمّ كوزير للخزانة. ترى إحدى وجهات النظر أنَّ أزمة انهيار الرهن العقاري ما هي إلا تكملة لانهيارات الأسواق الناشئة التي حصلت قبل عقد. فقبل وقوع الأزمة؛ كان يسود الشعور عينه بالرضا عن الذات والثقة بأنَّ ثمة أموراً لا يمكن أن تحدث، فسوق الإسكان الأميركية لن تنهار، والحكومة لن تجبر على إنقاذ المؤسسات المالية المهمة للنظام. هذا كان الاعتقاد السائد في حينها. إلا أنَّ موجات الاضطرابات التي حدثت لم تختلف كثيراً عن تلك التي كانت قد هزّت القارة الآسيوية قبل عقد.

مسؤولية التدهور

بعد عام من تصرف مهاتير الاستفزازي في هونغ كونغ، الذي تضمّن دعوة لحظر التداول بالعملات؛ ربط سعر صرف الرينغيت الماليزي بالدولار، وفرض قيوداً على رأس المال. كما سحق أنور إبراهيم الذي كان يشغل منصب وزير المالية حينها، والذي كان متعاطفاً مع صندوق النقد و"وول ستريت". كما حمّل مهاتير اليهود، ومنهم سوروس مسؤولية التدهور الاقتصادي، وهي تصريحات هدفت لكسب المزيد من التأييد في أوساط المالايو المسلمين في بلاده، وهو أمر سيلطخ دوماً مسيرته المهنية. المفارقة هي أنَّ سوروس كان في وقت من الأوقات يدعم الرينغيت الماليزي.

اقتصاد ماليزيا يختتم 2020 بأسوأ أداء له منذ 22 سنة

إذاً هل كان الأمر مجرد دراما اعتيادية في الأسواق الناشئة منكّهة بثورة غريبة وقنابل كلامية أطلقها قادة يحملون مزاجاً متعكراً؟ بدا الأمر على الصعيد العالمي وكأنَّه الانهيار الكبير الأول في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. شكّل الانهيار حدّاً فاصلاً بالنسبة لآسيا، فقد سجل النمو تعافياً، إلا أنَّه لم يعد قطّ إلى مستويات ما قبل 1997 بشكل مستدام. في حين يمكن للسلطة أن تنتقل من طرف إلى آخر؛ فإنَّ الأنظمة المالية تتسم بطابع تقليدي أكثر. حين تنهار الافتراضات التي كانت مترسخة لفترة طويلة من الزمن، ومن النادر أن يبقى ذلك محصوراً بالشؤون المالية.