أزمة الطاقة في أوروبا ستكلفها 200 مليار دولار وربما أكثر

موظفة في منشأة لتخزين الغاز الطبيعي في بلدة مولدورف الألمانية
موظفة في منشأة لتخزين الغاز الطبيعي في بلدة مولدورف الألمانية المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

الأمر يشبه تسلسل سقوط سلسلة من أحجار الدومينو، تتهاوى واحدة تلو الأخرى، وكل قطعة منها تُكلّف مليارات من اليوروات. فشل مرافق طاقة من هنا، وتكلفة إمدادات دولة بأكملها من هناك. وعندما تهدأ الأوضاع؛ فإنَّ الفاتورة الإجمالية لإنقاذ سوق الطاقة الأوروبية هذا الشتاء ستتجاوز بسهولة حاجز 200 مليار دولار.

قد تبدو هذه قيمة تحمل مبالغة، ومع أنَّها قيمة تقريبية من دون شك؛ لكنَّها مع ذلك تقوم على حسابات متحفظة تستند إلى ما نعرفه اليوم من معلومات. فهي لا تغطي أسوأ السيناريوهات الممكنة كإغلاق روسيا لإمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا بشكل كامل، أو قدوم شتاء أكثر برودة من المتوسط.

ويبدو أنَّ قلة من السياسيين يدركون حجم الأزمة المقبلة وتكاليفها، ومن بين الوحيدين المدركين فعليّاً للأزمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس. (أما البقية فهم مشتتون بسبب أمور السياسة الداخلية في كثير من الحالات). ودعا الاتحاد الأوروبي إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء الطاقة في نهاية هذا الشهر، لكن ينبغي أن يسبق ذلك اجتماع يركز على الطاقة، ويضم رؤساء الحكومات قبل العطلة الصيفية.

خطة توفير

سيتعين على الاتحاد الأوروبي اتخاذ قرار بشأن برنامج كبير لتوفير الطاقة، بما في ذلك حملة عامة لدعم أهدافه، وهو بحاجة أيضاً لتوضيح أنَّ الدول الأوروبية ستساعد بعضها من خلال مشاركة كميات الغاز القليلة التي ستكون متاحة، وهذا يعني دعوة المملكة المتحدة وسويسرا والنرويج إلى طاولة المفاوضات في بروكسل أيضاً.

ومع استمرار ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء؛ ستعاني المزيد من المرافق والشركات العاملة في مجال تجارة الطاقة في أوروبا. فعلى سبيل المثال؛ خلال الأسبوع الماضي في ألمانيا، بلغت العقود الآجلة للكهرباء لمدة عام واحد أعلى مستوياتها على الإطلاق عند أكثر من 350 يورو (352 دولاراً) لكل ميغاواط/ساعة، بزيادة قدرها 750% من متوسط 41 يورو بين عامي 2010 و2020. كذلك، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي لعام 2023 في أوروبا مؤخراً.

تتمثل الفرصة الوحيدة لنجاة مزودي الطاقة في تمرير ارتفاع أسعار الجملة الهائل إلى العملاء، لكن هذا لن يؤدي إلا إلى دفع عملية الإنقاذ الاقتصادي إلى الانهيار، وحينها ستواجه الأسر والشركات فواتير باهظة بشكل لا يمكن تحمّله وستحتاج إلى مساعدة حكومية.

اقرأ أيضاً: كيف سيؤثر وقف إمدادات الغاز الروسي على اقتصاد أوروبا؟

في النهاية، سيتحمّل دافعو الضرائب التكلفة إما بشكل مباشر وفوري من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والغاز، أو بشكل لاحق على مر السنين، من خلال ضرائب أعلى لدفع تكاليف عمليات الإنقاذ الاقتصادي. وبهذا الصدد؛ يتعين على الحكومات الأوروبية أن تكون صريحة بشأن التكاليف، إذ يمكنها الكسب من خلال حجة أنَّ هذه الأموال تُنفق جيداً للتصدي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

شركات الكهرباء في أوروبا

دعنا نتطرق أولاً إلى مزوّدي الطاقة، فقد أعلنت شركة "يونيبر" (Uniper) الألمانية، أكبر المشترين للغاز الروسي، خسارتها وطلبت مؤخراً تدخل حكومة البلاد لإنقاذها. وتشير التقديرات الأولية لفاتورة الإنقاذ الخاصة بها إلى 10 مليارات يورو. كذلك، فشلت شركة "إليكتريسيتي دو فرانس" (Electricite de France) كمنتج موثوق للكهرباء، وأصبحت بحاجة للمساعدة اليوم، وبالتالي؛ ستعيد باريس، التي تمتلك بالفعل حصة أغلبية بها، تأميم الباقي بتكلفة لا تقل عن 8 مليارات يورو.

تعد شركتا "يونيبر" و"إليكتريسيتي دو فرانس" مجرد نقطة البداية في بحر واسع، فهما ضمن عشرات مزودي الطاقة الذين يخدمون أكثر من 200 مليون أسرة في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.

وربما ستنجو الغالبية من العاصفة، لكنَّ الكثيرين سيحتاجون إلى المساعدة. وعلى أقل تقدير، سيحتاجون إلى قروض مدعومة من الدولة وضمانات حكومية أخرى لشراء الغاز الباهظ الثمن في السوق الفورية لتعويض خسارة الغاز الروسي. وفي أسوأ الأحوال؛ سيحتاجون إلى التأميم ولو كان بشكل مؤقت فقط.

جدير بالذكر أنَّ القروض المدعومة من الدولة ليست زهيدة، ففي بداية هذا الشهر منحت الحكومة التشيكية شركة "سي إي زد" (CEZ) الحكومية، وهي شركة تخدم بلداً يزيد عدد سكانه قليلاً عن 10 ملايين شخص، قرضاً طارئاً بقيمة 3 مليارات يورو. كذلك، قدّمت الحكومة الألمانية بالفعل من خلال بنكها الحكومي "كيه دبليو إف" (KwF) قروضاً بقيمة 15 مليار يورو لمشغل سوق الغاز في البلاد لشراء الغاز وملء الخزانات قبل الشتاء. وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كان سيتم سداد هذه القروض.

ماذا عن الأفراد؟

بالنسبة للأسر؛ فإنَّ المشكلة تعد أكثر وضوحاً في المملكة المتحدة. ففي فبراير، أعلنت لندن عن خطة إنقاذ بمليارات الجنيهات الإسترلينية للتخفيف من تأثير رفع سقف أسعار الطاقة بنسبة 54% في البلاد، وهو الحد الأقصى للرسوم التي يمكن أن تفرضها المرافق على الأسر سنوياً مقابل الكهرباء والغاز.

في ذلك الوقت، كان سقف السعر يرتفع من 1,277 جنيه إسترليني (1,512 دولار) إلى 1,971 جنيه إسترليني سنوياً اعتباراً من الأول من أبريل. واعتباراً من أكتوبر، من المقرر أن يقفز الحد الأقصى للسعر إلى حوالي 3,300 جنيه إسترليني سنوياً، كما يُتوقَّع الإعلان عن زيادة تقارب 70% في أوائل أغسطس.

مع ذلك؛ فإنَّ متوسط الدخل السنوي للأسرة قبل الضريبة في المملكة المتحدة يبلغ 31,770 جنيه إسترليني. وهذا يعني أنَّ الأسرة البريطانية ستنفق أكثر من 10% من دخلها على الكهرباء والغاز، وهذا هو التعريف الأمثل لما يعرف بفقر الطاقة. ومن دون الأموال الحكومية؛ ستتخلف الأسر عن سداد فواتيرها، مما يخلق مشكلة ديون لمزودي الطاقة، وبالتالي؛ إما أن تنقذ لندن الأسر، أو يتعين عليها إنقاذ مزودي الطاقة.

اقرأ أيضاً: ديون شركات الكهرباء الأوروبية ترتفع إلى 1.7 تريليون دولار

يدور السؤال هنا حول حجم مساعدات الحكومة البريطانية المحتمل؟ في بداية هذا العام، أدت زيادة سقف أسعار الطاقة بمقدار 693 جنيهاً إسترلينياً إلى إصدار دعم بقيمة 9.1 مليار جنيه إسترليني. وتشير الحسابات إلى أنَّ الزيادة المقبلة البالغة 1300 جنيه إسترليني تقريباً ستؤدي إلى إصدار خطة إنقاذ بقيمة 17 مليار جنيه إسترليني.

ومع أخذ هذه العوامل المعروفة فقط؛ فإنَّ الفاتورة البالغة 200 مليار دولار والمخصصة لعمليات الإنقاذ وتأميم الشركات والقروض المدعومة من الدولة وغيرها، لا تبدو مبالغاً بها بعد الآن.

احتمالات مفتوحة

يمكن أن تزداد المشكلة سوءاً بسرعة كبيرة. وهذا يقودنا للتفكير في "يونيبر" مجدداً. ففي ظل قطع بوتين لإمدادات الغاز عن ألمانيا بنحو 60%، تخسر "يونيبر" حوالي 30 مليون يورو يومياً لأنَّها مضطرة لشراء الغاز نفسه في السوق الفورية. وهذا يمثل نحو 10 مليارات يورو سنوياً، أي ما يعادل تقريباً تكلفة ما تخطط الحكومة الألمانية حالياً لإنفاقه لإبقاء الشركة واقفة على قدميها.

وإذا أوقف بوتين التدفقات تماماً؛ فإنَّ الخسائر اليومية لـ"يونبير" ستقفز إلى نحو 100 مليون يورو يومياً أو أكثر من 35 مليار سنوياً، وسيتعيّن على الحكومة توفير هذا المبلغ إذا أرادت الحفاظ على هدوء الشعب.

وإذا سُمح لمزوّدي الطاقة بنقل تكاليف الغاز المرتفعة إلى المستهلكين؛ فإنَّ بنك "غولدمان ساكس" يقدّر أنَّ الأسر الأوروبية ستدفع 470 يورو شهرياً مقابل الكهرباء والغاز، بزيادة 290% عن التكلفة المعتادة في منتصف عام 2020. ومن الواضح أنَّ كثيرين لن يستطيعوا تحمّل هذه التكلفة، وربما الأغلبية، وستكون هناك حاجة إلى خطة إنقاذ أكبر بكثير لمساعدة المستهلكين على تدبير أمورهم.

أخيراً، لا يوجد شك بأنَّ الشتاء القادم سيكون باهظ الثمن، والسؤال الوحيد الآن هو: "باهظ إلى أي حد"؟