إلى أين يتجه الاحتياطي الفيدرالي في ظل تفكير باول بالتضخم فقط؟

التطورات الجيوسياسية قوضت نظام التجارة العالمي الذي استطاع التغلب على التضخم في ما سبق

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

لو عُدت إلى مسكنك لتجد غوريلا على أريكة في غرفة معيشتك الأنيقة، فإن بعض اللوم يقع عليك لأنك تركت بابك مفتوحاً، لكنّ أحداثاً عالمية ساعدتها على بلوغ بابك.

رغم أنك تحمل هراوة في يدك، فإنك تدرك أن التعارك مع وحش بري وزنه 150 كيلوغراماً سيحيق دماراً بمسكنك، لذا تحاول دفعه ليخرج عبر الباب دون أن يتسبب بكثير من الأضرار، لكن بلا جدوى. بات جلياً الآن أنه لا بد من التضحية ببعض الأثاث.

الاحتياطي الفيدرالي يبالغ باهتمامه حيال 500 رأي عشوائي

هذه هي حال جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي اليوم. تمثل الغوريلا بالطبع معدل التضخم في الولايات المتحدة الذي بلغ 9.1% في يونيو بدعم من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. رغم تباطؤ الاقتصاد فإن الغوريلا لم تغادر الأريكة، وحان الوقت لتهشيم بعض المصابيح لإيصال فكرة أن التهديد حقيقي.

عندما بدأ باول وزملاؤه رفع أسعار الفائدة في مارس، أعربوا عن أملهم في أن يتمكنوا من هندسة هبوط سلس للاقتصاد. كما لو كان سحراً، سيعود العمال بأعداد كبيرة إلى سوق العمل، ما يقلل ضغط الأجور، وستختفي عقد سلاسل التوريد المتشابكة، كما ستتدفق الرقاقات الدقيقة والدراجات وكل شيء آخر إلى الولايات المتحدة مع انحسار فيروس كورونا في الخارج. كان يُفترض أن يهدأ التضخم دون أي تكلفة على الوظائف.

مقاربة مختلفة

حطم فلاديمير بوتين هذا السيناريو المأمول حين غزت روسيا أوكرانيا، فتفاقم التضخم مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. لكن يقع اللوم أيضاً على تحليل بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي بدا أنه يقلل من شأن انتشار التضخم إلى الخدمات بعد السلع، والآن بات خياره الوحيد هو جرعة ثابتة من دواء رفع أسعار الفائدة لتصحيح الأمور. قال جيسون توماس رئيس الأبحاث العالمية لدى مجموعة "كارلايل" (Carlyle) في واشنطن: "كانوا يحاولون نفي احتمال وقوع ركود. هذا أمر غير معقول" إن كنت تحاول أن تبدو جدياً بمقارعة خصم شرس مثل التضخم. وأضاف: "المفارقة هي أن الطريقة الوحيدة لتحقيق هبوط سلس هي التوقف عن محاولة إقناع الناس بأن هذا منطقي" مع الإبقاء على خطر حدوث شيء أسوأ مثل الركود قائماً على الدوام.

باول: التزام "الاحتياطي الفيدرالي" محاربة التضخم "غير مشروط"

هذا بالضبط ما قد يفعله باول، فقد قال في مؤتمره الصحفي في 27 يوليو إنه يُرجِّح أن يتباطأ الاقتصاد وتضعف سوق العمل مع استمرار الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة. تحوَّل باول من الحديث عن هبوط سلس إلى آخر أقل سلاسة، وقد تكون الخطوة التالية هي توقع ارتفاع حادّ في البطالة.

قالت ماري دالي، زميلة باول ورئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، في 2 أغسطس إنّ حملة أسعار الفائدة "لم تقترب نهائياً" من معدلها المستهدف الذي يتراوح الآن بين 2.25% و2.5%. تسعّر الأسواق لزيادة بنحو نقطة مئوية كاملة في سعر الإقراض القياسي بحلول نهاية العام، ما يجعلها حملة التشديد الأشرس منذ بدأ رئيس الفيدرالي السابق بول فولكر هجومه على التضخم في أواخر 1979.

مفارقة غير منتظرة

لم يكن هذا العالم الذي يتوقعه باول، رجل أسهم الملكية الخاصة السابق الآتي من واشنطن. كان يعمل على إنهاء استراتيجية جديدة تهدف إلى إدارة التضخم الذي كان في غاية الانخفاض حين بدأ الوباء، ويا لها من مفارقة. أما في ما يتعلق بالتوظيف، الذي يُعَدّ العنصر الآخر في مهمة الاحتياطي الفيدرالي، فقد عرّفه مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي بأنه "هدف شامل وواسع النطاق"، وقالوا إنهم لن يصدروا أحكاماً مسبقة عندما يكون الاقتصاد في حالة توظيف واسعة.

مسؤولون ببنك الاحتياطي لا يرون دليلاً على تراجع التضخم حتى الآن

قلب الوباء هذا المشروع رأساً على عقب، ولم يعُد أحد يعرف ما الذي سيبقى بعد هزيمة موجة التضخم الأخيرة. يدرك محافظو البنوك المركزية تماماً أن التحالفات الجيوسياسية تغيرت، وأن نظام التجارة المريح الذي سبق أن ساعد على خفض التضخم على مستوى العالم قد انهار. قالت كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي في المنتدى السنوي للبنك المركزي الأوروبي في سينترا بالبرتغال في يونيو: "لا أعتقد أننا سنعود إلى بيئة التضخم المنخفضة تلك".

بلغ متوسط ​​مشاركة القوة العاملة للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عاماً 88.1% منذ بداية 2020 في الولايات المتحدة، أقل بنقطة مئوية من متوسط ا​لسنتين المنتهيتين في 2019. إذا لم تنتعش الهجرة فيُحتمل أن تواجه الولايات المتحدة أسواق عمل أضيق مستقبلاً. بعبارة أخرى، قد تكون قيود العرض من نوع أو آخر ظاهرة في الأفق لسنوات، مما يبقي التضخم أعلى من هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%.

جحيم فوضى

لن يحب الأميركيون وممثلوهم السياسيون سماع ذلك، فهم يعتبرون التضخم سرقة لقوتهم الشرائية التي جنوها بشق الأنفس. قال جون كينيدي السناتور الجمهوري عن ولاية لويزيانا، المعروف بسلاطته، مخاطباً باول في جلسة استماع في يونيو: "لدينا فوضى كارثية هنا، أتعي هذا؟ التضخم يضرب مَن أمثّلهم بشدة حتى يكاد يكسر عظامهم". إذا بدأ سكان لويزيانا بفقدان وظائفهم عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بما يكفي لسحق الطلب، فقد يصبح التشبيه الذي سيستخدمه كينيدي حينها أشدّ قتامة.

كيف فشلت البنوك المركزية في التنبؤ بصدمة التضخم العالمية؟

حصل باول على دعم الحزبين لخفض التضخم، ولكن كبار الديمقراطيين بالطبع يحتجّون على انتقاله إلى موقف أشد، وعلى وصفه لسوق العمل بأنه "ضيّق للغاية" وتلميحه إلى استعداده لأن يرى ارتفاعاً في البطالة، فهم بحاجة إلى الفوز بمقاعد أكثر في الانتخابات النصفية لضمان إقرار أجندتهم الطموحة. سألت السيناتورة إليزابيث وارن الديمقراطية من ماساشوستس باول خلال شهادته أمام الكونغرس في يونيو، قائلة: "ما الأسوأ من التضخم المرتفع والبطالة المنخفضة؟ إنه التضخم المرتفع والركود مع ملايين الناس العاطلين عن العمل... أرجو أن تعيد النظر في ذلك قبل أن تدفع هذا الاقتصاد من فوق الجرف".

سوق الإسكان

توجد بالفعل علامات على أن أسعار الفائدة بدأت تؤذي، فقد تراجعت مبيعات المنازل القائمة في يونيو للشهر الخامس وصولاً إلى أدنى مستوياتها في عامين، فيما قفزت معدلات الرهن العقاري وتراجع الاقتصاد في الربع الثاني. تبقى سوق العمل القوية هي اللغز الكبير الذي يراقبه الاحتياطي الفيدرالي الآن من كثب. بلغ متوسط ​زيادة الوظائف في أبريل حتى يونيو 375,000 شهرياً. يقدر الاقتصاديون أن هذه الوتيرة ستتباطأ إلى 250,000 وظيفة مضافة في يوليو، لكن لا يزال هذا الرقم قوياً جداً.

الركود على الأبواب.. كيف نستعدّ للأزمة الاقتصادية المقبلة؟

إذاً كيف ستنتهي كل تجارب السياسة النقدية هذه؟ يتساءل بنك الاحتياطي الفيدرالي نفسه عن ذلك أيضاً، كما يقول لورانس ماير محافظ الاحتياطي الفيدرالي السابق. أضاف أن صانعي السياسة لم يكونوا واضحين تماماً بشأن وجهة نظرهم حول حل التضخم عبر تحسين المعروض من السلع والعمالة أو انخفاض الطلب فحسب.

يرسل باول وزملاؤه بازديادٍ إيحاءات بأنهم لم يعودوا قادرين على انتظار العرض ليحل نفسه بنفسه، ما لا يترك لهم أي خيار سوى الاستمرار في رفع الفائدة وكأنما يقولون: هذا هو مضرب البيسبول أيتها الغوريلا! إلى حين بدء تعثر الطلب. قال ماير الذي يدير شركة لتحليل السياسات تحمل اسمه في واشنطن: "يصعب على عضو مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن يقول: نعم، علينا أن نخرج الناس من وظائفهم لخفض التضخم... إذا كنت ستفعل كل ما يتطلبه الأمر لخفض التضخم، فيجب أن يكون الركود خياراً سياسياً"، حتى لو لم يكن باول يرغب في أن يكون صريحاً بهذا الشأن.