بريطانيا.. العلامة التجارية المَلَكية ووعاء "المارمايت"

بعد رحيل إليزابيث الثانية.. كيف يرى البريطانيون قدرة الملك تشارلز الثالث على إدارة الَمَلكية "الشركة"؟

الملك تشارلز الثالث، المدير الإبداعي الجديد للعلامة التجارية (بريطانيا)
الملك تشارلز الثالث، المدير الإبداعي الجديد للعلامة التجارية (بريطانيا) المصدر: غيتي إيمجز
Ben Schott
Ben Schott

Bloomberg Opinion Columnist · Branding · Design · Consultancy · Jeeves & Wooster · Miscellanies

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

قد يبدو للبعض أن تقييم الملكية البريطانية كعلامة تجارية تناول سطحي أو حتى مساس بالطابع المقدّس. لكن الأمر لا يبدو كذلك بالنسبة إلى العائلة المالكة التي اعتبرت نفسها شركة عائلية منذ أن لقّبها جورج السادس باسم "الشركة".

بغض النظر عن أوجه التشابه السيميائية (المتعلقة بعلم تحليل الرموز والدلالات) بين الأعلام والعلامات والأناشيد والأنغام والشعارات والعبارات الترويجية، تُعدّ الملكية البريطانية علامة تجارية عالمية، وكانت الملكة سفيرة لهذه العلامة.

باستثناء المسيح، كانت إليزابيث الثانية بالتأكيد صاحبة الصور الأكثر استنساخاً في تاريخ البشرية. فعلى سبيل المثال، تُتداول حالياً نحو 4.7 مليار ورقة نقدية و29 مليار قطعة نقود معدنية تحمل صورة الملكة في المملكة المتحدة فقط، والتي تُعتبر شعاراً شخصياً ومؤسسياً ممتداً منذ سبعة عقود. وقد امتد كذلك انتشار الصورة في أوجها إلى 33 دولة أخرى على الأقل.

ولفهم حجم رسوخ الملكة في العلامة التجارية "بريطانيا"، انظر إلى التغييرات الجارية في البنية التحتية للبلاد. كانت بعض التغييرات فورية (مثل قَسَم الحكومة؛ والإجراءات القانونية؛ والنشيد الوطني)؛ في حين ستتداخل بعض التغييرات الأخرى لعقود (مثل الرموز البريدية؛ وصياغة جوازات السفر؛ وكتب الصلاة). إلا أنه، مع مرور الوقت، سيدمج تشارلز الثالث بسلاسة في نسيج الدولة ولن تبدو كلمات (حفظ الله الملك) وكأنها مستغرقة للغاية في لغة شكسبير.

إليزابيث الثانية قدمت رؤية ثورية بشأن الملكية في بريطانيا

إذا بدا كل ذلك دستورياً بشكل كبير، يجدر بنا أن نتذكر حجم ما قامت به إليزابيث الثانية لتحديث العلامة التجارية للملكية. مدفوعة بتلاشي الاحترام ومطالب الوسائل الإعلامية، شجّع الأمير فيليب الملكة على استحداث ابتكارات جريئة تُقرّبها إلى رعاياها، بدءاً من السماح بعرض تتويجها على التلفزيون إلى الاختلاط مع العامة في جولات المشي الملكية. أعطت الملكة موافقتها، في عام 1969، على بث الفيلم الوثائقي الرائد، "فلاي أون ذا وول" (Fly on the Wall)، والذي أُذيع في "بي بي سي" لمدة عام كامل.

غفران الزلات

بالطبع، تعرّضت الملكة لعثرات شخصية أيضاً. أكثر تلك العثرات إثارة للمشاعر وردت في عام 1966 عندما تأخرت الملكة عن زيارة أبرفان عقب انهيار المنجم الذي قتل 116 طفلاً و28 بالغاً. أما العثرة الأكثر خطورة، فكانت في عام 1997 عندما فشلت الملكة في احترام عمق الألم العام بعد وفاة الأميرة ديانا.

مع ذلك، غُفِرَت لها مثل تلك الزلات التي كانت وليدة الحذر وليس القسوة. نمت الثقة في الملكة بمرور الوقت إلى أن وصلت لذروتها عند ظهورها مع جيمس بوند في افتتاح أولمبياد لندن 2012، ثم عندما احتست الشاي مع الدب "بادينغتون" في يونيو الماضي.

كان لا يُمكن التفكير في انخراط العلامة التجارية في مثل هذه الشراكات قبل عقد من الزمان فقط، وهي في الحقيقة ليست جرأة سياسية فحسب، ولكنها تدل بشكل مبهر على مدى قدرة الملكة على توجيه وتوسيع العلامة التجارية للملكية لمدة 70 عاماً و214 يوماً.

تشارلز ملكاً.. وداع وتتويج يغيران وجه بريطانيا

ولكن ماذا سيحدث إذاً في عهد تشارلز الجديد؟

بدا من تصريحات الملك تشارلز الثالث العلنية الأولى، بصفته ملكاً، أنه يُدرك بوضوح ضرورة تقييد أنشطته الخيرية والتجارية المثيرة للجدل مؤخراً، وكذلك آرائه الصريحة حول البيئة والتخطيط الحضري، حتى وإن كانت بارعة.

يبدو أن تشارلز ووريثه ويليام يعترفان بأن "الشركة" تتطلب تقليص حجمها، على غرار أسلوب شركة "ماكنزي"، من أجل تأسيس نظام ملكي أكثر انسيابية وخالٍ من المتاعب والمسؤوليات والتشتُّت والإحراج.

قد لا يكون هذا الأمر سهلاً حتى ولو روقبت العلامة التجارية بوسيلة ضئيلة للتستّر على سلسلة من المخالفات الصغيرة والنقائص الأخلاقية.

أطلق أفراد العائلة المالكة عبر العقود عدة مشاريع شغوفة ونشاطات جانبية، كان بعضها خيرياً مثل جائزة دوق إدنبرة التي أنشأها الأمير فيليب في عام 1956، أو صندوق أمير ويلز الخيري للتبرعات الذي أسسه الأمير تشارلز في عام 1976.

مشاريع ملكية

كانت بعض المشاريع الأخرى ريادية مثل أول سلسلة من كتب الأطفال بعنوان "بادجي ذا ليتل هليكوبتر" (Budgie the Little Helicopter) التي نشرتها دوقة يورك سارة عام 1989، وأصبحت سلسلة رسوم متحركة فيما بعد. أسّس الأمير تشارلز، في عام 1990، شركة "داتشي أوريجينالز" (Duchy Originals) الرائدة للأغذية العضوية، التي دخلت في شراكة مع "ويتروز" (Waitrose) لاحقاً. كما أنشأ الأمير إدوارد، في عام 1993، الشركة التلفزيونية "أردنت بروداكشنز" (Ardent Productions) التي تعرضت للسخرية كثيراً وتم إغلاقها في عام 2009 بأصول قيمتها 40.27 جنيه إسترليني فقط. أطلق الأمير أندرو، في عام 2014، سلسلة "أنا رائد أعمال متسلسل"(I am a serial entrepreneur)، ضمن مشروع "بيتش@ بالاس" (Pitch @ Palace) العملاق والمثير للجدل غالباً.

تثير مثل هذه المشاريع سؤالاً صعباً، ألا وهو كيف يُفترض أن يعيش أفراد العائلة المالكة العاطلين وكيف لهم أن يموّلوا حياتهم؟ فإذا أقاموا مشاريع خاصة أكثر مما ينبغي، يوصفون بأنهم موسرون يتربحون وقد ولدوا وفي فمهم ملعقة ذهبية، وإذا كانت مشاريعهم أقل مما ينبغي، يُصبحون عالة أو طفيليات يعيشون على البر والإحسان.

سُلّط الضوء على هذه المعضلة بشكل صارخ من خلال دوق ودوقة ساسكس عند انفصالهما بإرادتهما عن التاج الملكي في عام 2020، وركزا على المحتوى (استلهاماً لعائلة أوباما).

بعد إلغاء الملكة لعلامتهما التجارية الملكية الأصلية "ساسكس رويال" (Sussex Royal) بسبب ارتباطها بالملكية، أطلق هاري وميغان علامة "أرتشي ويل" (Archewell) التجارية التي تجمع بين نموذج "المنظمة العالمية غير الربحية المعتمدة على التأثير" وبين أعمال الإنتاج الصوتية والمرئية التي تهدف للربح، بما في ذلك سلسلة وثائقيات هاري "هارت أوف إنفيكتوس" (Heart of Invictus)، وسلسلة البودكاست "أرتشي تايبس" (Archetypes) لميغان بالتعاون مع "سبوتيفاي".

يبقى أن نراقب ما إذا كان الزوجان الملكيان المتعطشان للظهور الإعلامي، والمقيمان في مدينة مونتي سيتو بولاية كاليفورنيا، سيتحولان لاحقاً إلى بلاط منافس أم سيتم تناسيهما كلية. لكن إذا استمر هاري وميغان في استغلال الملكية لتحقيق الربح، ربما يثبت أن "أرتشي ويل" هي النسخة الفاسدة الباهتة التي تقلدها العلامة التجارية بوضوح في الملمس والمظهر.

تحديات تشارلز

يرى معلّق الشؤون الملكية، ستيفن بيتس، أن تحديث النظام الملكي في عهد إليزابيث الثانية اتبع استراتيجية وعاء "مارمايت" (Marmite)، التي أعطت الأولوية، مثل مستخلص الخميرة والخضروات المعروف، للتطوير التدريجي بدلاً من التغيير الجذري للعلامة التجارية، (أعادت "يونيليفر" هذا الإطراء بإصدار خاص من وعاء "مارمايت" للاحتفال باليوبيل البلاتيني لصاحبة الجلالة).

إلا أن اتباع خطى أي رئيس تنفيذي ناجح أمر شديد الصعوبة، وارتداء تاج الرئيس التنفيذي الذي أدار ببراعة "شركة الملكية" لمدة سبعة عقود هو شيء آخر- حتى وإن حظي ذلك الشخص بأطول فترة تدريب في التاريخ.

بريطانيا تبدأ التفكير فيما لا يُمكن تصوّره: الحياة بعد الملكة

كان الأمير تشارلز سابع أشهر أفراد العائلة المالكة فقط قبل وفاة الملكة، وفقاً لبيانات "يوغاف" (YouGov)، وأحبّه 42% من البريطانيين فقط. في الأيام القليلة الأولى من حكمه، رأى 63% منهم أن تشارلز "سيقوم بعمل جيد كملك" مقارنة مع 32% في مايو الماضي. لكن 40% فقط توقعوا أن "يتبع نفس النهج الوظيفي" لوالدته التي حصلت على نسبة تأييد مقدارها 85% في عهدها. بمجرد انتهاء الحداد ومُضي فترة العسل، سرعان ما سندرك المدى الذي اعتمدت فيه عاطفة الجمهور تجاه الملكية على الشخصية الرائعة للملكة، وليس المؤسسة.

لذلك من الأفضل للملك تشارلز الثالث الاحتفاظ بوعاء "مارمايت"، ليس فقط من باب ما يبوح به الوعاء بشأن تطور العلامة التجارية، ولكن لشعاره الذكي الذي يعكس واقع عهد تشارلز الجديد: "إما أن تحبها أو تكرهها".