تخلّف دول نامية عن سداد ديونها يمتحن القوة الناعمة الصينية

الصين تتصدر أزمة الديون العالمية كونها أكبر مُقرِض حكومي للدول النامية خلال العقد الماضي

لوحة إعلانية لبنك الصين في مطار كينيث كاوندا الدولي في لوساكا، زامبيا
لوحة إعلانية لبنك الصين في مطار كينيث كاوندا الدولي في لوساكا، زامبيا المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

أرسل رئيس زامبيا هاكايندي هيشيليما رسالة ربما كانت مفاجئة في خطابه بعدما استعرض أربعة عنفات عملاقة تديرها مياه نهر كافو خلال جولة لتفقد أعمال تشييد أحد أهم السدود لمستقبل اقتصاد بلاده. شكر في خطاب أمام سفير الصين في بلده بكين على مساعدتها لإنشاء محطة الطاقة الكهرومائية التي قد تجعل الدولة الأفريقية مصدراً إقليمياً للكهرباء، ثم تساءل علناً بشأن تكلفتها البالغة مليارَي دولار أمام الرجل الذي موّلت بلاده مشروع السد بقروض كانت زامبيا تحاول إعادة التفاوض بشأنها.

عكست تلك اللحظة الدبلوماسية المحرجة في يوليو حجم التحدي الذي تواجهه زامبيا، إذ تحاول تصحيح أوضاعها المالية بعدما باتت أول دولة أفريقية تتخلف عن سداد ديونها خلال الوباء، فضلاً عن معاناتها من انخفاض لاحق في قيمة عملتها الوطنية. لكنها بيّنت أيضاً كيف وجدت الصين نفسها في الصفوف الأمامية لأزمة ديون دولية تتكشف أبعادها بعدما أصبحت أكبر مُقرِض حكومي للدول النامية خلال العقد الماضي.

الصين تشدد الإقراض وتعرّض الأسواق الأفريقية للخطر

بعد تشييد السكك الحديدية والجسور والسدود ومحطات الطاقة من بيرو إلى باكستان، دخلت مبادرة "الحزام والطريق" الصينية الرئيسية مرحلةً حرجةً جديدة، فقد شلّت صدمة أسعار الطاقة العالمية وارتفاع أسعار الفائدة قدرة بعض الدول على خدمة الديون المستحقة عليها. استجابةً لذلك، تتغلب الصين على عقبات سياسية داخلية للانضمام إلى نادي باريس للدول الدائنة الغنية للتفاوض بشأن تخفيض الديون.

يُعَدّ حجم الديون الخارجية الإجمالية لكل دولة على حدة، وهو 16 مليار دولار في حالة زامبيا، تافهاً نسبةً إلى حجم الاقتصاد الصيني وميزانيات مقرضي القطاع الخاص، غير أن سرعة وحجم هذا التخفيف سيحددان إن كان بإمكان بعض أفقر الدول الاستمرار بالاستثمار والنمو، أم أنها ستعاني من ركود كالذي أعقب أزمات الديون السابقة.

أزمة متصاعدة

تضاعف عدد البلدان التي تُتداول ديونها السيادية عند مستويات تعثّر خلال الأشهُر الستة الماضية، إذ بلغ 19 دولة تضم أكثر من 900 مليون شخص، وفقاً لبيانات جمعتها "بلومبرغ". كما وجهت الصين 60% من إقراضها الخارجي إلى بلدان تعاني حالياً من ضائقة ديون، وفقاً لخبراء اقتصاديين. قالت ديبورا بروتيغام، الخبيرة في الإقراض الصيني بجامعة جونز هوبكنز: "لم تكن الصين في موقف تواجه فيه حالات تخلف عن السداد على نطاق واسع. لكن ذلك بدأ يحدث الآن".

بلغ إجمالي قروض الصين المستحقة لدى البلدان النامية 157 مليار دولار عندما ضرب الوباء، لكن المبلغ الفعلي قد يكون أكبر بكثير لكون بيانات البلدان تتسم بالضبابية في ما يتعلق بالإبلاغ عن الديون. لكن النبأ السار هو أن بكين مستعدة للانضمام إلى دائنين آخرين في إعادة التفاوض على ديون الدول النامية، ما يسرع عملية التسوية نظراً إلى تمكّن كل دائن من رؤية حجم القروض التي يكون الآخرون مستعدّين لتحمّلها.

عقد وزير مالية زامبيا اجتماعاً عبر الإنترنت مع ممثلين عن الصين و22 عضواً في نادي باريس قبل شهر من زيارة هيشيليما للسد. بعد اجتماع ثانٍ في يوليو، وافقت تلك الدول على تخفيض ديون زامبيا في إطار إعفاء قدره 8.4 مليار دولار تحتاج إليه الدولة النامية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وفقاً لصندوق النقد الدولي.

البنك الدولي: الحرب الروسية تزيد مخاطر ديون أفريقيا

يُفترض أن يُسمح للدائنين بالحفاظ على القيمة الاسمية لمطالباتهم مع تأخير السداد استناداً إلى توقعات صندوق النقد الدولي المتعلقة بترتيبات تسوية الديون الجديدة للبلد الأفريقي. كانت هذه هي الطريقة المفضلة للصين في المرات السابقة، فضلاً عن معالجتها للديون المحلية. يُعَدّ ذلك أمراً هامّاً بالنسبة إلى بلدان أخرى، من إثيوبيا وغانا وكينيا إلى باكستان، التي تسعى جميعها لإعادة التفاوض على ديونها. تنص اتفاقية قرض صندوق النقد الدولي الأخيرة في سريلانكا على أنه يتعين على الدول سالفة الذكر إعادة هيكلة ديونها مع الدائنين الأجانب، كما قال نادي باريس إنه مستعدّ للعمل مع أعضاء من خارج النادي مثل الصين. يتطلب صندوق النقد الدولي بدء المحادثات مع الدائنين لتحرير أموال المساعدة الطارئة.

قال غيود مور، وزير الأشغال العامة السابق في ليبيريا وزميل مركز التنمية العالمية حالياً، وهي مؤسسة فكرية مقرها واشنطن: "يمكن للمرء أن يتوقع أن تتعامل دول أخرى مع زامبيا باعتبارها نموذجاً"، لكن النبأ السيئ هو أن مفاوضات الديون التي من شأنها أن تضم الصين والدول الغربية والمقرضين من القطاع الخاص تعدّ أمراً شاقاً، ما يؤخر تحرير الأموال الشحيحة التي تحتاج إليها الدول الفقيرة بشدة. لذا قد تفضل البلدان الأخرى التفاوض مع دائنيها واحداً تلو الآخر.

غياب التنسيق

ينشغل كبار القادة الصينيين بالقضايا المحلية والعلاقات مع الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة، فيما يتجلى غياب شخص أو جهة تضطلع بالإشراف على الإقراض الخارجي. لقد أدى ضعف التنسيق بين مختلف البنوك والوزارات في بكين إلى أن يستغرق الأمر أكثر من عام للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الدول الأخرى، بعدما تخلفت زامبيا عن سداد ديونها الخارجية في 2020. كما لعب انعدام الثقة في دول نادي باريس الأخرى دوراً بعد سنوات من إبداء الولايات المتحدة استنكارها للإقراض الصيني الخارجي علناً باعتباره "فخاً للديون". يرى يوفان هوانغ، الباحث في جامعة كورنيل، أن هذا يتضح في حالة زامبيا، وقال: "هناك من يجادل بأن إعادة الهيكلة التي يقودها صندوق النقد والبنك الدوليان محض مؤامرة من الغرب لإيذاء الصين. لقد صعّب تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين على المسؤولين في بكين تبرير أن مثل هذا التعاون المتعدد الأطراف يصبّ في مصلحة الصين".

الصين تتنازل عن قروض لأفريقيا وتوجه 10 مليارات دولار إلى دول بالقارة

بدا سفير الصين في زامبيا دو شياوهوي كأنه يؤكد هذا في أغسطس، متحدثاً في مركز مؤتمرات بنته الصين هدية لزامبيا لاستضافة قمة الاتحاد الأفريقي، إذ قال: "نعتقد أن التعاون الثنائي الودّي هو أفضل طريقة للتعامل مع الديون بين دولتين صديقتين".

لا شك أن هناك حاجة ملحة للتعامل مع الديون بغض النظر عن كيفية تحقيق الانفراجة في هذا الصدد. تشترك أزمة الديون العالمية الحالية في بعض العناصر مع الاضطرابات التي حدثت في السبعينيات والثمانينيات حين تخلفت عشرات الدول النامية في أميركا اللاتينية وأفريقيا عن سداد ديونها لدول أثرى. يُبرِز هذا مخاوف من أن عملية إعادة التفاوض على الديون الحالية قد تطول مثلما حدث في الثمانينيات، مغيباً النمو لعقد كامل قبل أن تعترف الدول الغنية بأن الديون غير محتملة لتبدأ شطبها.

أقرضت البنوك الصينية زامبيا 1.5 مليار دولار في 2017 لإطلاق مشروع سد كافو، أي ثلاثة أرباع التكلفة النهائية للمشروع. مولت الحكومة الربع المتبقي ببعض عائدات بيع السندات الدولارية التي أصدرتها للمرة الأولى، بالإضافة إلى اقتراض من بنك التنمية في جنوب أفريقيا في جوهانسبرغ. تشاركت الصين رسمياً رئاسة لجنة الدائنين في زامبيا مع فرنسا، لكنها في الواقع كانت اللاعب الرئيسي. تدين زامبيا إجمالاً بمبلغ 6 مليارات دولار للصين، مقارنة مع 1.3 مليار دولار فقط لنادي باريس بأكمله، وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي. كما دانت بنحو 5 مليارات دولار لحاملي سندات اليورو ودائنين تجاريين.

التخلف عن السداد

لم تستطع زامبيا إدارة عبء الديون فتخلفت في نوفمبر 2020 عن سداد مدفوعات سندات دولية بقيمة 43 مليون دولار، لتصبح أول دولة أفريقية تتخلف عن السداد خلال الوباء. ساعد الذعر بين المقرضين الأجانب على دفع عملتها إلى مستوى منخفض تاريخي في 2021، ما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى رقم من خانتين. انخفض دخل الفرد في زامبيا في ذلك العام 10% إلى 1040 دولاراً.

استغرق الأمر حتى العام الجاري لتوافق الصين على الانضمام إلى اللجنة مع مقرضين حكوميين آخرين. جاء القرار بعد وقت قصير من حث هيشيليما الصين على اتخاذ إجراء بشأن الديون خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في 31 مايو. تغير بعض البنوك الصينية طريقة صياغة عقود القروض وتتخلص من البنود التي تستبعد إعادة هيكلة الديون مع أعضاء نادي باريس، في إشارة إلى أن بكين يمكن أن تستمر بدعم محادثات متعددة الأطراف بشأن الديون، وفقاً لبراد باركس المدير التنفيذي لدى "أيداداتا" (AidData)، وهو مختبر أبحاث في "كلية ويليام وماري" في فيرجينيا يتعقب الإقراض العالمي.

لا تزال هناك صعوبات طفيفة بالطبع، إذ تخشى بكين من أن الدول الأقل احتياجاً قد تنتهز تلك الفرصة، كما تتخوف من احتمال إثارة رد فعل عنيف محلياً. تتجاوز الصين بشكل دوري عن فئة صغيرة من قروضها للبلدان منخفضة الدخل عبر تحويل القروض دون فوائد إلى مساعدات. تزامنت الجولة الأخيرة من الإعفاءات في أغسطس، التي قد تبلغ أدنى من 1% من قروضها في أفريقيا، مع بدء دافعي الرهون العقارية في الصين إضراباً عن مشروعات الإسكان غير المكتملة. دفع هذا بمواطنين ليتساءلوا غاضبين في منشورات عبر الإنترنت عن سبب عدم تقديم المساعدة نفسها للمقترضين الصينيين.

حذر مرتقب

يتوقف كثير على عمليات إعادة هيكلة ديون الدول النامية، لأسباب ليس أقلها أنها بحاجة إلى الإبقاء على انخراط الصين في تمويل مشروعاتها التنموية. ستصعب تلبية حاجة الدول النامية الماسة إلى تطوير البنى التحتية إذا توخت بكين مزيداً من الحذر بشأن إقراضها. لقد روّج كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لبدائلهما الخاصة لمبادرة "الحزام والطريق"، لكن اعتماد أحد مخططاتهم على المقرضين من القطاع الخاص يعني أن توقعات نجاحها غير مؤكدة.

يقدم مشروع سد كافو، البالغة طاقته 750 ميغاواط، مثالاً بارزاً على ذلك. واجهت زامبيا خلال العقد الماضي قصوراً مزمناً وانقطاعاً للتيار الكهربائي لما بلغ نحو 18 ساعة في اليوم. كما تواجه دول أفريقية أخرى، بينها جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب أفريقيا، عجزاً في قطاع الطاقة، وهي حريصة على استيراد مزيد من الكهرباء من زامبيا. وصف دو، السفير الصيني، المنشأة بأنها "طابعة نقود مصنوعة في الصين" قد تجني مليون دولار يومياً.

قال كينيث كونغا، وزير الطاقة في زامبيا في الحكومة التي وقّعت على اتفاق بناء المشروع: "كانت البلاد في وضع يائس للغاية بالنسبة إلى الكهرباء، وكان واضحاً جداً أننا بحاجة إلى هذا المشروع... كانت الصين الخيار الأفضل، لأنك يمكنك التحدث معهم ويمكنهم التفكير".

مال هيشيليما نحو القوى الغربية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منذ وصوله إلى السلطة قبل عام. انتخبت كينيا وليام روتو رئيساً في أغسطس، جزئياً على وعد بإعادة التفاوض بشأن القروض الصينية التي حصل عليها سلفه. لكن لا يزال مرجحاً أن يسعى معظم العالم النامي لعلاقات اقتصادية وثيقة مع الصين، أكبر مستهلك للسلع الأساسية في العالم.

الصين هي أكبر زبون لصادرات النحاس من زامبيا، وهو أهمّ صادراتها، وقد تخطت علاقات البلدين فترات اضطراب منذ أن بنت الصين خط سكة حديد تنزانيا-زامبيا في السبعينيات لربط مناجم النحاس بميناء دار السلام. افتتح هيشيليما في أغسطس رسمياً حديقة لإحياء ذكرى الخط والعمال الصينيين الذين ماتوا خلا بنائه. في أثناء تجولهما في متحف في الموقع، وقف السفير دو مرة أخرى إلى جانب الرئيس لالتقاط صورة تحت لافتة كتب عليها "عاشت الصداقة بين شعوب زامبيا وتنزانيا والصين".