بلومبرغ: اقتصاد السعودية نقطة مضيئة في عالم تسوده آفاق متشائمة

صورة جوية ليلية يظهر فيها شارع الملك فهد في مدينة الرياض وقد انتصبت على جانبيه أبراج الأعمال فيما انتشرت خلفها المنازل. السعودية
صورة جوية ليلية يظهر فيها شارع الملك فهد في مدينة الرياض وقد انتصبت على جانبيه أبراج الأعمال فيما انتشرت خلفها المنازل. السعودية المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

بلومبرغ/ من سلمى الورداني، ونيكولا باراسي، وزينب فتاح

ساد التشاؤم توقعات آفاق الاقتصاد العالمي أثناء تجمّع قادة الأعمال والتمويل في المملكة العربية السعودية الأسبوع المنصرم، لكن الدولة المضيفة كانت استثناءً جلياً للنظرة السلبية العامة.

تشهد المملكة أفضل أوقاتها الاقتصادية، إذ تتدفق أموال النفط لتدفعها نحو تحقيق أسرع معدل نمو في دول مجموعة العشرين التي تضم أكبر اقتصادات العالم. وساد التفاؤل الملموس أروقة فندق "ريتز كارلتون" في الرياض، مع اختتام فعاليات مبادرة مستقبل الاستثمار، بأن اقتصاد السعودية إلى صعود.

مبادرة مستقبل الاستثمار: "جيه بي مورغان" يرى أن المخاطر الجيوسياسية أهم من مخاوف الركود

المؤتمر، الذي انعقد لمدة ثلاثة أيام، ركّز على إبراز التحول الاقتصادي في المملكة، إذ لدى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الأموال اللازمة، أكثر من أي وقت مضى، لتحقيق هذا الهدف، بما يمثل تخطياً جذرياً لمرحلة شبه العزلة التي أعقبت مقتل الكاتب السعودي جمال خاشقجي عام 2018.

عزز الأمير محمد بن سلمان سلطته بشكلٍ ثابت عبر إحداث تحوّل تضمّن تخفيف قبضة هيئة الأمر بالمعروف، إلى جانب إطلاقه عام 2017 حملةً على الفساد في البلاد. ومؤخراً أصدر الملك سلمان عبد العزيز أمراً ملكياً بأن يصبح ولي العهد رئيساً لمجلس الوزراء.

الآن لدى السعودية أول فائض في الميزانية، ما يتيح تمويل المشاريع المحلية الضخمة، وتوجيه أموال صندوق الاستثمارات العامة البالغة 620 مليار دولار إلى مختلف الأصول حول العالم، وتعزيز نفوذها السياسي في المنطقة وخارجها.

قبل أسابيع قليلة من انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة، رفضت السعودية دعوات الرئيس الأميركي جو بايدن لزيادة إنتاج النفط لإبقاء الأسعار منخفضة. وبدلاً من ذلك قادت خطوة مع روسيا ودول أخرى لخفض إنتاج النفط، وهو قرار شوهد على نطاقٍ واسع في واشنطن على أنه تجاهل سيؤدي إلى عواقب.

العاصفة المثالية

يكمن وراء التباهي السعودي بالمنجزات الاقتصادية المحققة في الآونة الأخيرة تحدٍّ كبير، إذ لا تزال المملكة، التي تُعَدّ الفائز الأكبر من ارتفاع أسعار النفط، تسعى لإقناع العالم بأن لديها اقتصاداً متنوعاً بعيداً عن النفط يستحق الاستثمار فيه، فيما يتطلع معظم الذين سافروا إلى الرياض لحضور المؤتمر إلى بناء علاقات والفوز بعقود، وليس ضخ الأموال في البلاد.

لكن في الوقت الراهن، بينما يرسم المتحدثون في المؤتمر -بما في ذلك بعض كبار المصرفيين في البنوك الأميركية الكبرى- صورة قاتمة للتوقعات العالمية، تبدو السعودية وكأنها نقطة مضيئة.

المؤتمر تضمّن كثيراً من النقاش حول تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا على ارتفاع أسعار الطاقة وإبعاد التحول الأخضر عن مساره، وعن التباطؤ الذي يشهده اقتصاد الصين ومعاناة أسواقها من الضغوط البيعية، ودفع البنوك المركزية العالم نحو الركود لدرء أزمة التضخم.

جون ستودزينسكي، نائب رئيس شركة "بيمكو" (Pimco) العملاقة لصناديق المعاشات التقاعدية في كاليفورنيا، يقول بهذا الخصوص: "إذا كنت تريد تحديد العاصفة المثالية، فقد بلغناها".

في الوقت نفسه، نما الناتج المحلي في السعودية بنسبة 12.2% في الربع الثاني، وهو الأسرع منذ أكثر من عقد. وتوسع الاقتصاد غير النفطي -محرك خلق فرص العمل- بنسبة 8.2%. كما انخفضت البطالة إلى 9.7% في هذه الفترة، فيما تراجعت بالنسبة للنساء السعوديات إلى 19.3%. وقد تبدو هذه الأرقام مرتفعة بالمعايير الخارجية، لكنها بالنسبة إلى المملكة الأدنى على الإطلاق، كما تُعَدّ زيادة مشاركة السيدات في القوى العاملة إحدى ركائز برنامج التحول الاقتصادي.

خطة ديناميكية

وزير المالية السعودي محمد الجدعان نوّه بأن "كثيراً من الأسواق حول العالم يتراجع اليوم، فيما ترتفع السعودية.. لقد خططنا طيلة سنوات لبرنامج تنفيذ ديناميكي حقاً، واليوم نشهد النتائج".

وزير المالية السعودي محمد الجدعان: السنوات الست المقبلة مبشّرة لدول الخليج العربية

لا تزال الأوقات المثمرة تعتمد على الدخل النفطي الذي تحتاج إليه المملكة لتمويل انتقالها إلى اقتصاد بنموذج مختلف تماماً.

تُشير زينب الكفيشي، رئيسة الشرق الأوسط وأفريقيا في "إنفيسكو أسيت مانجمنت" في دبي، إلى أنه كان بإمكان السعودية الجلوس والاستمتاع بتحسن مستويات معيشة المواطنين بدعمٍ من أسعار النفط المرتفعة، "لكنهم اختاروا بدلاً من ذلك تنفيذ خطة إصلاح اقتصادي عاجلة".

محمد الجدعان، وزير المالية السعودي
محمد الجدعان، وزير المالية السعودي المصدر: غيتي إيمجز

هذه المقاربة تساعد في تفسير سبب قرار السعودية المخاطرة بإثارة الغضب الأميركي -وزيادة توتر العلاقة التي تعرضت لضغوط منذ مقتل خاشقجي، وهو ما نفى ولي العهد إعطاء الأمر به- من خلال استمرار دعم أسعار النفط عند مستويات مرتفعة تاريخياً حول 90 دولاراً للبرميل.

وأثار القرار تحفظات إدارة بايدن لأنه جاء في توقيت تُعتبر فيه أسعار البنزين المرتفعة داخل الولايات المتحدة عبئاً سياسياً.

بدا الأمير عبد العزيز بن سلمان، وزير النفط السعودي، حاسماً عندما ناقش رد الفعل الأميركي حول هذا الأمر، لاسيما لناحية رفض أن المملكة كانت تبحث عن مصالحها الخاصة. واستشهد بحالات سابقة استخدمت فيها السعودية طاقتها الإنتاجية الفائضة لمصالح الآخرين، لكنه أشار إلى أن هذا الزمن قد تغيّر، قائلاً: "لقد أخذنا عهداً على أنفسنا بالتركيز على مستقبلنا".

عبد العزيز بن سلمان: صادرات النفط السعودية إلى أوروبا تضاعفت إلى 950 ألف برميل يومياً

أوروبا الجديدة

جرى رسم هذا المستقبل في "رؤية 2030"، وهي خطة الأمير محمد بن سلمان للحدّ من اعتماد المملكة على النفط عبر تنويع اقتصادها وفتح سوقها.

ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل مطرد منذ إعلان الخطة، مع أنه ما زال يميل لصالح قطاع الوقود الأحفوري. وفي العام الماضي بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر 19.3 مليار دولار، وهو الأكبر منذ 2010، لكن الجزء الأكبر من المبلغ كان ناتجاً عن بيع شركة النفط الحكومية "أرامكو" لجزءٍ من وحدتها لخطوط الأنابيب.

يؤشر ذلك إلى أن أكثر أحلام ولي العهد طموحاً -أي "نيوم" التي يعلّق عليها مستقبل اقتصاد البلاد- يجب أن يجري تمويلها ذاتياً على الأرجح من أموال النفط.

استقطب مشروع "نيوم"، وهي المدينة المستقبلية التي يجري بناؤها في الصحراء بتكلفة تقديرية نصف تريليون دولار، عقوداً ضخمة من شركاتٍ حكومية، ولكن من غير السهل استقطابها كثيراً من الأموال الدولية التي قد تساعد في تسريع إنجازها.

كانت أكبر صفقة في مؤتمر هذا العام نموذجاً للسخاء السعودي، وليست كنايةً عن أموالٍ واردة، إذ أعلنت الحكومة عن تأسيس شركات لاستثمار 24 مليار دولار في البحرين وعُمان والأردن والعراق والسودان.

ولي العهد السعودي يطلق شركات لاستثمار 24 مليار دولار في 5 دول عربية

أعلن الأمير محمد بن سلمان عن الخطة عبر الفيديو، مصرحاً: "أعتقد أن أوروبا الجديدة ستكون الشرق الأوسط".

حلول لكل شيء

بخلاف الفنادق العالمية الفخمة، وعدد محدود من المطاعم الفاخرة الموجودة بشكلٍ أساسي في الهواء الطلق بمراكز التسوق، فإن القليل يمكن أن يذكّر زوار الرياض بأوروبا. فمع أن المملكة أصبحت أكثر انفتاحاً ثقافياً وأقل تمييزاً بين الجنسين في عهد الأمير محمد بن سلمان، إلاّ أن الكحول والمثلية مازالا محظورين، كما أن صناعة الترفيه في مهدها، ولا يزال عديد من المناسبات الاجتماعية يُقام على نطاقٍ خاص.

قد يمثل ذلك أحد العوامل خلف سعي الرياض الدؤوب لجذب المواهب الأجنبية وبناء صناعات جديدة أسوةً بمنافستها الإقليمية دبي، التي تصل فيها نسبة الأجانب إلى نحو 90% من السكان ويتمتعون بأسلوب حياة غربي إلى حد كبير.

يترك ذلك المملكة في سباقٍ مع الزمن -ومع الضوابط القائمة- لتحقيق الأهداف السامية لمبادرة مستقبل الاستثمار.

السعودية تخطط لتشييد أضخم مبانٍ عرفتها البشرية

كارين يونغ، الباحثة الأولى في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، ترى أن حالة الاستثمار في جميع أنواع الصناعات السعودية آخذة في التحسن، مستشهدة بأمثلة من التصنيع والمستحضرات الصيدلانية إلى الضيافة والترفيه، لكنها تَعتبر أنه "لا يزال عدم توافق بين حالة الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة، والجهود المبذولة لتسويق المشاريع الضخمة على أنها توفر حلولًا لكل شيء".