كيف نفهم الأسباب المنطقية لصدمات تضرب اقتصاد العالم؟

مزيد من المفاجآت الجيوسياسية مثل غزو روسيا لأوكرانيا سيستمر بدفع الاضطرابات الاقتصادية

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يميل قصار الذاكرة لإسناد التوترات حول العالم إلى صعود الشعبوية، وهو طرح يجعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتعامل الولايات المتحدة العاثر مع "كوفيد-19"، جزءاً من قصة منفردة. يركز الزعماء من أمثال دونالد ترامب، الذين يعمدون لتأجيج عامة شعوبهم، على إيقاظ أسوأ غرائز الجسم السياسي، ويغرقون آراء الخبراء في محيط تجاذبات وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يدفع الاقتصاد الثمن.

مشكلة تلك النسخة من التاريخ الحديث هي أن الشعبويين، رغم مثالبهم البيّنة، ليسوا وحدهم المسؤولين عن فشل السياسات. هل تذكرون الأزمة المالية العالمية؟ وأزمة الديون السيادية الأوروبية؟ وركود أجور الطبقة الوسطى وتصاعد اللامساواة؟ كل الصدمات الكبرى التي تعرَّض لها النظام حدثت فيما كان يُفترض أن حكماء وأصحاب خبرات يتولون زمام الأمور.

قد يكون منطقياً تهافت الشعبويين وأصحاب التيار السائد من السياسيين سعياً لاستجابة حيال التحولات الزلزالية في طريقة سير أمور العالم. تبيّن معركة التفوق بين الولايات المتحدة والصين، وهي أبرز صراع وسط التوترات العالمية الحالية، أن المعسكرين المتنافسين في الولايات المتحدة يتبعان نهجاً متشابهاً إلى حد كبير.

أعلن عالم السياسة فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ" في 1989 حين كان الاتحاد السوفييتي يترنح، استناداً إلى انتصار الديمقراطية والرأسمالية على الاستبداد وسيطرة الدولة. كان هذا سابقاً لأوانه.

تراجع الليبرالية

أدى صعود الصين خلال العقود الثلاثة الماضية إلى تحوُّل ميزان القوى العالمي بعيداً عن دول السوق الحرة الديمقراطية، إذ تشير توقعات "بلومبرغ إيكونوميكس" إلى استمرار ذلك التحول مع انخفاض مساهمة أوروبا والولايات المتحدة وكندا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 59% في 1989 إلى 41% في 2022 و24% في 2050.

يتسبب ذلك التحوُّل منطقياً بنوعين من المشكلات بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وهما انفجارات تلي توترات مفاجئة بين الجانبين، والتكلفة المتراكمة على المدى الطويل جراء ابتعاد بعضهما عن بعض.

منع الرقائق الإلكترونية عن الصين يأتي في أسوأ وقت ممكن

يُعَدّ غزو روسيا لأوكرانيا مثالاً على النوع الأول من المشكلات، فلم تمضِ سوى أسابيع قليلة على ظهور الرئيس فلاديمير بوتين بجوار نظيره الصيني شي جين بينغ حين أعلنا شراكة "بلا حدود" حتى بدأت الدبابات توغل في الأراضي الأوكرانية. حتى لو لم تدعم الصين الغزو يستطيع بوتين على الأقل الرهان على حياد واحدة من قوتين عظميين عالمياً، والحد من تأثير أي رد فعل سلبي من أوروبا والولايات المتحدة.

لم يتوقف الأمر عند الصين، بل امتد إلى الهند أيضاً، وهي خامس أكبر اقتصاد في العالم، التي اختارت بوضوح عدم اختيارها الوقوف إلى جانب أحد الطرفين. كذلك الأمر في البرازيل، إذ حمل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي أُعيد انتخابه حديثاً الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مسؤولية إشعال الحرب. كما تجاهلت المملكة العربية السعودية مناشدة الولايات المتحدة لضخ النفط تعويضاً عن حظر بوتين للطاقة. الرسالة التي تصل إلينا من ذلك هي أن العالم يشهد تراجعاً للولايات المتحدة وحلفائها، وتمكناً لدول غير ليبرالية قد تتبعه صدمات للاستقرار.

مقياس للتأثيرات

إذا استمرت التوترات سريعة وقوية فسيكون مفيدآً وجود طريقة بسيطة لقياس تأثيرها. استخدم الاقتصاديان بمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي داريو كالدارا وماتيو إياكوفيلو كخطوة أولى سجلاً من أخبار صحفية لإطلاق مؤشر لقياس المخاطر الجيوسياسية. أدخلت "بلومبرغ إيكونوميكس" ذلك المؤشر في نموذج لاستبيان تأثير صدمات مثل الحشود العسكرية والإرهاب والحرب على الاقتصاد الأميركي. تكشف نتائج النموذج أن الصدمة الجيوسياسية بالربع الأول من 2022 نتيجة غزو روسيا لأوكرانيا تسببت بتراجع الاستثمار الأميركي 1.3%، وهو يتطلب ما بين 3 و5 سنوات للتعافي مجدداً، كما تراجع الناتج المحلي الإجمالي ​​0.3%، وارتفع التضخم 0.3%، فيما انخفض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" 1.8%.

"بوينغ" تدفع ثمن توتر العلاقات الأميركية-الصينية.. و"إيرباص" تجني الثمار

إفصاحاً عن بدهي، نقول إنّ اعتماد النموذج على مؤشر موحد لقياس المخاطر الجيوسياسية يتجاهل خصائص كل أزمة بعينها، إذ تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بتوقف الإمدادات العالمية للطاقة والسلع الزراعية، كما أن اندلاع حرب في تايوان سيتسبب بشلل سلاسل توريد الإلكترونيات. لكن رغم ذلك تبقى النتائج التي يوفرها النموذج نقطة بداية جيدة.

يدفع التباطؤ الحالي الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي للتفكير بطريقة مختلفة بشأن التأثير قصير المدى للصدمات الجيوسياسية، إذ إنّ روسيا تعاني ركوداً وأوروبا على وشك أن تلحق بها، ومعاناة كلتيهما ترجع بشكل كبير إلى قطع إمدادات الغاز. في الولايات المتحدة يدفع التضخم الناتج نسبياً عن حرب أوكرانيا مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تطبيق سياسات نقدية هي الأكثر تشدداً منذ الثمانينيات، ويشير نموذج "بلومبرغ إيكونوميكس" إلى رجوح اتجاه الاقتصاد إلى الانكماش في 2023، ما سيشطب ملايين الوظائف.

مجتمع أميش

قد يكون أثر الصدمات بطيئة التظاهر المتراكمة غير الفوري بنفس القدر من الخطورة مع مرور الوقت لسبب بسيط، هو أنّ تدفق السلع ورأس المال والعمالة بين الدول تعزز النمو وتحدّ من التضخم، فيما تأتي العلاقات المتوترة بعكس تلك النتائج جرّاء فرض قيود على التبادل التجاري وتدفق الاستثمار والهجرة بين الدول، ما يؤدي إلى تباطؤ النمو وتصاعد الضغوط التضخمية.

أميركا تقترح على أوروبا استهداف الصين بقيود تصدير مثل روسيا

تُقدِّر "بلومبرغ إيكونوميكس" تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بتراجع إمكانات نمو اقتصاد المملكة المتحدة بما يتراوح بين 1.7% و1.2% سنوياً على مدى عقد، ويُفقدها نحو 800 مليار جنيه إسترليني (917 مليار دولار) من الدخل.

تعتمل آلية مشابهة في التوتر الذي ساد علاقات الولايات المتحدة والصين، وقد بدأت بفرض ترامب لتعريفات جمركية إضافية. كان البعض يأمل أن تتجه إدارة بايدن لإذابة الجليد بين البلدين، لكن فتور العلاقة زاد في الواقع، فلم تُبقِ إدارة بايدن على التعريفات فحسب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، ومنعت إتاحة أشباه الموصلات المتطورة للصين في خطوة تهدف إلى تحويلها إلى مجتمع يشبه الأميش عبر تجميد تطورها التقني.

اشتعال بطيء

يزيد تداعي التجارة ومنع تدفق التقنية من احتمال ارتفاع الأسعار، إذ كشف قطع روسيا إمدادات الغاز عن أوروبا تلك الآلية سريعة التأثير لتوتر العلاقات، وبينما لن يشتعل حريق تضخم فوري في عالم لا يمكن للمستهلكين الأميركيين الحصول على سلع رخيصة من الصين، فإنه يُشعِل الأمر ببطء حتى يصل إلى الانفجار.

الصراعات الجيوسياسية تكبد اقتصاد العالم 1.6 تريليون دولار في 2022

التنبؤ بالسياسة أصعب من استشراف الاقتصاد، وقد تتراجع روسيا عن موقفها في أوكرانيا وتركز الصين على التحديات الداخلية، لا التوترات الجيوسياسية، كما قد يدعم الناخبون مرشحين معتدلين يعدون بحكم جيد كما فعلت الولايات المتحدة مع جو بايدن، وقد يستفيد وقتها بعض المناطق من تغيير مسار التجارة بعيداً عن توجهات التوترات الجيوسياسية، وقد يستفيد بعض الدول النامية من محاولات القوى العظمى المتنافسة لشراء الولاء عبر الاستثمارات، مثل إطلاق خطة مارشال أميركية جديدة لمنافسة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.

رغم ذلك، يبقى الدرس المستفاد مما حدث خلال السنوات القليلة الماضية أن أي شخص ينتظر عودة الاستقرار الجيوسياسي سينتظره طويلاً، فالتاريخ يُعيد نفسه، وتلك أخبار سيئة للنمو والرخاء.