عصر الجرارات الروبوتية آت.. حين تزول المشاكل التقنية

فريق جامعي بريطاني ينجح في زراعة الحقول روبوتياً.. لكن الطريق لتبني هذه التقنيات ما يزال طويلاً

جرار من شركة "إيسيكي" اليابانية معدّل ليعمل ذاتياً يجرّ آلة تغرس البذار في التربة
جرار من شركة "إيسيكي" اليابانية معدّل ليعمل ذاتياً يجرّ آلة تغرس البذار في التربة المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تجوّلت في يوم من أبريل في حقول مقاطعة شروبشاير الإنجليزية بحثاً عن جرار زراعة روبوتي. كانت سماء ذاك اليوم ملبدة بالغيوم وكان مطره حبالاً فيما كان صف من أشجار البلوط يبدو وكأنه يراقب الأرض المزروعة.

هناك وقف بانتظاري كيت فرانكلين، المهندس الثلاثيني، مرتدياً لباس المزارعين البريطانيين التقليدي المؤلف من قميص ترسم ألوانه مربعات وفوقه سترة سميكة ياقتها من مخمل محزز ويعتمر قبعة من نسيج التويد الصوفي السميك.

شاهدت خلفه جراراً صغيراً أزرق اللون من صنع شركة "إيسيكي أند كو" (Iseki & Co) اليابانية. كان الجرار يجول ذهاباً وإياباً يجر محراثاً بأقراص معدنية تقلب التربة ومعها بكرة كامبردج المكونة من مجموعة أسطوانات معدنية تحدل التربة لتكسر تكتلاتها وتسويها. لكن لم يكن هناك أحد في مقعد السائق.

قال فرانكلين إنهم كانوا يخططون لزراعة الأرض في ذلك اليوم، "لكن هناك كثير من المخلفات في الحقل"، ويعني بذلك المخلفات العضوية المتبقية من المحصول السابق. لذا كان أحد الجرارات يعمل على طمر المخلفات بدل الزراعة.

زراعة القمح داخلياً تعد بتحقيق الأمن الغذائي العالمي

في 2017 أصبح فرانكلين وفريقه الصغير من جامعة "هاربر آدمز" الزراعية في الريف الإنجليزي أول مزارعين في العالم يزرعون حقلاً كاملاً، بدءاً من غرس البذور ووصولاً إلى الحصاد دون أن تطأ قدم إنسان الأرض. أطلقوا على أرضهم اسم "هاندز فري هكتار" (Hands Free Hectare)، ويساوي الهكتار الواحد 10 آلاف متر مربع.

زرع فريق فرانكلين في العام الأول 4.5 طن من الشعير الربيعي ثم 6.5 طن من القمح الشتوي في 2018. استُخدم بعض ذلك الشعير لصنع المشروبات الروحية والجعة، فيما ذهب بعض القمح لصنع طحين للبيتزا.

لم يكن مشروع "هاندز فري هكتار" ثمرة مركز ابتكاري معروف، مثل وادي سان خواكين في كاليفورنيا الذي يبعد نحو ساعة بالسيارة عن سان فرانسيسكو. فقد أُنجز المشروع الأصلي بميزانية ضئيلة بلغت 199 ألف جنيه إسترليني (235 ألف دولار) فقط. مع ذلك، نجح باستقطاب تغطية إعلامية واسعة، ما مكّنه من الحصول على تمويل إضافي بقيمة مليونيّ دولار، أتى جلّه من الحكومة البريطانية.

قرر فرانكلين وفريقه توسيع المشروع ليتحوّل إلى مزرعة "35 هكتار هاندز فري"، فقد استكشف هذا المشروع الأكبر الذي امتد ثلاث سنوات سبل تطبيق الزراعة الروبوتية على المستوى التجاري.

هل ستسهم هذه التقنيات في التخفيف من أثر شحّ اليد العاملة في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة؟ هل ستساعد على تأمين غذاء لمزيد من السكان فيما ترتفع حرارة الأرض؟ هل ستخفف من الضرر البيئي وتساعد على إنتاج محاصيل أفضل؟ هل يمكن لفريق فرانكلين أن يصنع منتجاً تجارياً قابلاً للاستمرار؟

ازدهار الزراعة الروبوتية

بدأ قطاع الزراعة الروبوتية يحقق ازدهاراً، مع ازدياد عدد الشركات الناشطة في هذا المجال من بضع عشرات إلى 180 على الأقل، حسب المؤسسة البحثية "ستارت يو أس إنسايت" (StartUS Insights).

فيما تقع معظم هذه الشركات في الولايات المتحدة وأوروبا، يوجد بعضها في شرق آسيا والهند وأميركا الجنوبية أيضاً. حتى أن شركات عريقة في مجال صناعة المعدات الزراعية دخلت على الخطّ هي الأخرى، مثل الشركة الأميركية "أي جي سي أو" (AGCO) التي تضم علاماتها التجارية كلّ من "فيندت" (Fendt) و"ماسي فيرغسون"( Massey Ferguson) والشركة الإيطالية- الأميركية "سي إن إتش أندستريال" (CNH Industrial) التي تشمل علاماتها التجارية من الجرارات الزراعية كلّ من "كايس أي إتش" (Case IH) و"نيو هولاند" (New Holland) و"ستير" (Steyr)، والشركة الأميركية الشهيرة "جون دير" (John Deere).

أطلقت "دير" هذا العام أول جرار روبوتي من إنتاجها، وهو نسخة عن طراز "8 أر" (8R) من جراراتها الزراعية، فيما طرحت شركة "سي إن إتش" منصة "أومنيباور" (Omnipower) الروبوتية لآلات زراعة البذور والمرشات وآلات التسميد.

تتوقع المؤسسة البحثية "برانديسنس" (Brandessence) أن تصل قيمة سوق المعدات الزراعية الروبوتية إلى 155 مليار دولار بحلول 2027، أي ما يفوق قيمتها في 2020 بمرتين ونصف.

يقرّ معظم العاملين في قطاع الزراعة بأن زيادة التوجه نحو المعدات الروبوتية أمر حتمي، لكن السؤال المطروح هو حول الشكل الذي سيتخذه هذا التحول وحجمه. قال فرانكلين: "هناك مزارعون لا يعتقدون أن هذا سيحصل، لكن يبدو أنهم أقلية".

الروبوتات الزراعية ستحلّ الكثير من مخاوفنا الغذائية

لقد تابعت فريق "فري هاندز" طوال ثلاث سنوات، من عام 2019 حتى تاريخ إتمام المشروع في سبتمبر 2022، وشاهدت الفريق يتحولّ من مبادر أول في السوق إلى نجم لم يتوقع أحد سطوعه، رغم التحديات التي واجهها من روبوتيات عنيدة ووباء وتعطل في سلاسل الإمداد، إضافة لعراقيل الطبيعة مثل الطقس البريطاني.

تطرح الزراعة الروبوتية مشكلة معقدة، فرغم أنها في بعض الجوانب أسهل من صنع سيارات ذاتية القيادة ملائمة للسير على الطرقات، بما أن الآليات الزراعية غير مضطرة للتعامل مع الازدحام المروري، إلا أن تطويرها أصعب بسبب اختلاف التضاريس بين مكان وآخر واختلاف المحاصيل.

مايك غوتيريد يراقب تحميل آلة زرع البذار
مايك غوتيريد يراقب تحميل آلة زرع البذار المصدر: بلومبرغ

آليات عنيدة

كان الفريق يخطط في أبريل لتوصيل جرار "إيسيكي" آخر بآلة لزرع البذور، على أمل أن يعمل الجراران بتناغم فيفتت أحد الجرارين التكتلات التي تعيق عمل آلة الزرع ويغرس الآخر البذور. لكن فيما عمل الجرار المتصل بالأسطوانات وبكرة كامبردج جيداً، واجه الفريق صعوبة بتوصيل آلة زرع البذور بالجرار الآخر. حين تمكن من معالجة هذه المشكلة، كان الجرار الأول قد أصيب بعطل جعله يتوقف فجأة بين فينة وأخرى بسبب مشكلة في زرّ التشغيل. سرعان ما بدأ الجرار الثاني يعاند مجدداً. أو بالأحرى عاد ليعمل بحسب تصميمه الأولي، حيث يطفئ بسبب نظام السلامة الذي يمنعه من السير إذا كان مقعد السائق شاغراً.

في نهاية المطاف، وضع زميل فرانكلين مايك غوتيريد، وهو مهندس بلحية خفيفة، وعاءً مليئاً بالماء في مقعد السائق وأحكمه بحزام الأمان. لكن عندها، عاد الجرار الأول ليتعثر مجدداً، وبدا من الواضح أن الجرارين لم يكونا ليعملا بتناسق في ذاك اليوم.

فيما أعرب فرانكلين عن احباطه، شدّد على ضرورة التركيز على الصورة الأشمل، قائلاً: "وقفت في حقل أشاهد جرارات ذاتية القيادة لخمس سنوات، وهذا لأمر مذهل فعلاً".

عمل فريق "مزرعة هاندز فري" من مركز "أغري- إبي" (Agri-EPI) الذي يأتي اسمه من اختصار لمصطلح "الابتكار الدقيق في الهندسة الزراعية" بالإنجليزية. المركز يقع في مبنى على شكل حظيرة طائرات عند الجانب الآخر من الطريق مقابل حرم جامعة "هاربر آدمز". زرت المكان أول مرّة في نوفمبر 2019 على أمل أن أتمكن من مشاهدة الفريق وهو يزرع أول محصول شتوي.

تُقسم المحاصيل الزراعية بشكل عام إلى شتوية، مثل القمح الشتوي وغيره من المحاصيل التي تُزرع في الخريف، وأخرى ربيعية مثل الشعير الربيعي الذي يُزرع في الربيع. ويُحصد المحصولان في نهاية الصيف.

شركة خدمات سحابية ناشئة تتطلع لأن تصبح كرة بلورية للمزارعين

لم يكن الطقس ملائماً، فقد انهمرت أمطار غزيرة في ذلك الصيف جعلت الحقول بِللاً في نوفمبر فتعذّرت زراعة الأرض بواسطة الجرارات.

في بعض المناطق، كانت المعدّات الزراعية التي تجرّها جرارات الفريق تغرق في مستنقع أوحال، أمّا البذور فتعفنت قبل أن تنبت. وجدت بدل ذلك مزارعي "هاندز فري" يعملون على معدّاتهم في الداخل. كان غوتيريد وجونوثان جيل، خبير المركبات ذاتية القيادة في الفريق الذي سبق أن عمل على صنع مركبات غطس غير مأهولة لمنصات التنقيب عن النفط في بحر الشمال، يحاولان إصلاح جرار "إيسيكي".

كان غطاء المحرك مرفوعاً والوحل يغطي عجلاته الضخمة.

تحويل الجرار إلى ذاتي القيادة

طلبت من غوتيريد أن يشرح كيف جعلوا جرار "إيسيكي" هذا بالذات ذاتي القيادة. بدأنا من يمين حجرة المحرك، حيث يقع الصمام الخانق الذي يتحكم بمحرك الجرار العامل على الديزل بقوة 38 حصاناً.

تأتي المركبة من المصنع مزودة بكبلين معدنيين متصلين بالصمام الخانق، أحدهما متصل بدواسة الوقود والآخر بناقل حركة يدوي لتغيير سرعات المحرك عند الحاجة. إلى جانب آليتيّ التحكم الموجودتين ضمن التصميم الأساسي، ربط فريق "هاندز فري" الصمام الخانق أيضاً بسلسلة معدنية متصلة بجهاز دفع خطّي ركبوه بأنفسهم ليحول حركة المحرك الكهربائي الدورانية كي تحرك قضيباً معدنياً إلى الخلف أو الأمام. حين يضغط القضيب الخاص بذراع التشغيل الخطّي على السلسة، تحرك السلسلة بدورها الصمام الخانق، ما يمكّن الفريق من التحكم بالمحرك عن بعد. للتحكم بنظام التوجيه، ابتكر الفريق جهازاً يتعامل مباشرة مع النظام الهيدروليكي، ما يعتبر حلاً أكثر دقة من الحلول السابقة التي كانت تستخدم محركاً لتحريك عجلة القيادية فعلياً.

في الجزء الخلفي من المركبة، كان هناك صندوق بلاستيكي يحتوي على لوحات دوائر إلكترونية متهالكة ومجموعة أسلاك، فيما يمتد من اليسار إلى اليمين نظام السلامة للتحكم بإطفاء المركبة، يتبعه جهاز توجيه خليوي يوصل الإنترنت إلى المكونّات داخل الصندوق من خلال قابس إيثرنت، وإلى الخارج من عبر تقنية واي فاي، ثمّ يتبعه جهاز كمبيوتر مصغّر "راسبيري باي" يؤمّن المعالجة الحاسوبية.

رغم أن محتويات الصندوق قد تبدو مرتجلة، إلا أن غوتيريد أوضح أن معظم الأنظمة المعتمدة فيه موجودة أصلاً في "الجرارات الذكية" المتوفرة في السوق.

حاسوب للتحكم بالجرار عن بعد
حاسوب للتحكم بالجرار عن بعد المصدر: بلومبرغ

توجهت مع جيل إلى الحقول التي تقع على بعد بضع مئات الأمتار من الحرم الجامعي قرابة وقت الغداء حين صحا الجوّ قليلاً، فيما قاد غوتيريد الجرار الزراعي إلى خارج. قصدنا حقل "بلو بيتس" حيث يعمل الفريق، وهو أحد خمسة حقول تفصل بينها أشجار وأسيجة نباتية. تحمل الحقول الأخرى أسماء "بورز لاند" و"نير مور" و"ميدل مور" و"توب أدني".

كان الفريق يعتقد أن حقل "بلو بيتس" سيكون الأول الذي سيجف بما يكفي لزراعته. قال جيل: "التربة هنا طينية أكثر وفيها منحدر صغير، ما يتيح تصريف المياه... لسنا واثقين 100% من قدرتنا على الزرع في كامل الحقل، لكن يمكننا أن نحاول بالجزء الأعلى منه".

الزراعة في الفضاء أصبحت ممكنة.. كيف سيكون ذلك؟

بدا أن القيادة الذاتية عملية محضرة سلفاً. في البداية، اضطر غوتيريد لقيادة الجرار من أجل تحديد الموقع بدقة مستعيناً بمحطة اتصالات قاعدية مجاورة ساعدت على تحسين إشارة نظام التموضع الاصطناعي بواسطة القمر الصناعي. إذ يتعين على النظام أن يكون بالغ الدقة.

قال غوتيريد: "حالياً يوجد 12 قمراً صناعياً فوقنا. لتحديد الموقع تحتاج إلى إشارات من ثلاثة أقمار، ولتحديده جيداً تحتاج إلى إشارات من ستة... في بعض الأماكن على ذلك المسار انخفض العدد إلى خمسة، وعلى مقربة من نهاية المسار فقدنا كلّ الإشارات". حُلّت مشكلة الموقع في نهاية المطاف، وأظهرت شاشة جهاز "سامسونغ غلاكسي" اللوحي الخاص بالفريق رسماً بيانياً للحقل بانت فيه خطوط مستقيمة تماماً تتصل فيما بينها بواسطة انعطافات نصف دائرية متقنة عند الأطراف.

عراقيل الوباء

تتطلب قيادة الجرار الزراعي بخط مستقيم على أرض غير مستوية مهارة من السائق البشري، فعليه أن يعدّل مساره باستمرار ليتعامل مع انحرافات المركبة وتعرجاتها فوق أخاديد التربة، ومع القوى الأخرى التي تأثر على المعدات الزراعية التي تجرّها المركبة.

لهذا السبب، سبق لمصنّعي الجرارات الزراعية أن أتمتوا عجلة القيادة لدرجة كبيرة، حيث طُرح النظام الأول من هذا النوع عام 1997 ويحمل اسم "بيلاين" (Beeline). لكن جعل المركبات ذاتية القيادة تربط كلّ خطوة بأخرى أمراً أصعباً، ولم يبدأ ظهور هذه الخاصية في أنظمة الجرارات التجارية إلا في حوالي 2019، حين قمت بزيارتي.

كان فريق مزارعي "فري هاندز" حينئذ يبنون أنظمتهم الخاصة أيضاً بدل الاكتفاء بالاعتماد على الأنظمة التجارية الناشئة. كان عملهم طموحاً، فيشمل الدمج ما بين التشغيل عن بعد وسرعة التقدم المدمجة وأنظمة التحكم بالمعدات التي تجرّها المركبات وخرائط المسارات المعدّة سلفاً وبروتوكولات السلامة المأتمتة.

انطلق الجرار أخيراً وهو يقود نفسه ذاتياً، فيما جلس غوتيريد في مقعد السائق للحيطة. وقف جيل إلى جانبي محاولاً شرح ما يجري مستخدماً منتجاً من علامة ألعاب تجارية بريطانية عريقة في مجال مضامير سباق السيارات المصغرة. قال: "تخيل مضمار (سكاليكستريك) Scalextric وكلّ قطعة منه تحمل أمر تحكم لتحدث فعلاً ما".

صحيح أن الجرار كان يقود نفسه، إلا أن التربة كانت مبتلّة لدرجة تمنع زراعة أي محاصيل. اضطر الفريق للانتظار حتى مايو ليبدأ بالزرع بسبب الطقس ووباء كورونا بعده.

حصل الفريق على إذن لاستئناف العمليات الروبوتية خلال فترة الإغلاق للحدّ من تفشي الوباء، وزرع محاصيل لتغطية التربة، وهي مزيج نباتات منها البرسيم والفجل لا تُحصد للأكل بل تُستخدم للحفاظ على سلامة التربة ثمّ تصبح سماداً بعد فلاحة التربة لاحقاً.

فضّل الفريق الخيار الأسهل في ظلّ الوباء. قال غوتيريد: "تتطلب محاصيل تغطية التربة زراعةً وجزّاً فقط، بينما تحتاج المحاصيل المخصصة للبيع زراعةً وحدلاً وتكرار رشّ وبعدها حصاداً في ظلّ قيود أكثر صرامة على توقيت كلّ عملية".

تمت عملية الزرع بسلاسة في "بلو بيتس"، حيث خلّفت آلة زرع البذور أخاديد متقنة على غير عادة في التربة. لكن مع الانتقال من الربيع إلى الصيف، وفي ظلّ وباء كورونا وفوضى سلاسل الإمداد، أصبح تأمين قطع الغيار صعباً. مع ذلك، تمكن الفريق من جزّ محصول تغطية التربة ليصبح مجرد بقايا تكسو الأرض ورشّ مبيدات الأعشاب الضارة روبوتياً لتنظيف التربة استعداداً لإعادة الزرع.

التوصيلات الإلكترونية التي تمكّن الجرار من العمل ذاتياً
التوصيلات الإلكترونية التي تمكّن الجرار من العمل ذاتياً المصدر: بلومبرغ

زيارة ملكية

عدت في سبتمبر من ذلك العام إلى "هاربر آدمز" على أمل أن أرى الفريق يزرع أول محصول قابل للأكل في إطار المشروع. قبل وصولي، تحدث فرانكلين وجيل بإبهام حول نية شخصية مهمة أن تزور المشروع قبلي.

حين وصلت إلى الحقول، وجدت المزارعين بكامل أناقتهم على غير عادة وقد ارتدوا قمصاناً بياقات تحت وزرات العمل. تبين أن الأميرة آن قد زارت الحقول توّاً وغادرت بأسلوب ملكي حقيقي على متن مروحية.

عمل جرار "إيسيكي" الذي كان يجرّ مجدداً آلة زرع بذور بشكل مثالي أمام الأميرة، لكن ليس أمامي. وجدت الجرار متوقفاً على طرف حقل "نير مور"، فيما كان غوتيريد وفرانكلين يفحصانه. لم يكن الجرار يسير في الاتجاه الملائم، وقد تمكّنا أخيراً من اكتشاف أن المشكلة في البرنامج الإلكتروني الذي حاول جعل الجرار يستدير بشكل حاد للغاية.

أدت حدة الزاوية لثني مستشعر المحور الأمامي الذي يراقب موقع العجلات ومزقت حلقة مطاطية مانعة للتسرب على الجانب الآخر من الهيكل، ما أدى لتسرب السائل الهيدروليكي إلى التربة.

عمل المهندسون على إصلاح جهاز الاستشعار فيما كان الذباب يحوم حولهم والشعور بالإحباط يخيّم على المكان. قال فرانكلين ساخراً: "هذه أمور روبوتية بالغة التقنية، كيف يمكننا إصلاحها بطريقة ترقيعية؟"

بعد إصلاح المنظومة، عاد الجرار ليسير بخطوط مستقيمة ومنتظمة ويقوم باستدارات متقنة، وتمكنت آلة زرع البذور من غرس محصول القمح الشتوي. لكن سرعان ما ظهرت مشاكل أخرى. كانت التربة رطبة بسبب هطول الأمطار ما أدى إلى تكتلها فسدت آلة الزرع.

لو كان إنسان يشغل المركبة لتمكّن من تجنب المشكلة عبر استخدام الذراع الهيدروليكية للآلة كي يرفعها فتسقط تلك الكتل، إلا أن أتمتة مثل هذه العملية عمل صعب. بدل ذلك، سار المزارعون خلف الجرار، وحين بدأت آلة زرع البذور بالانسداد، صرخوا "توقف، توقف!" فأوقف أحدهم المحرك عن بعد، ثمّ أزالوا الكتل بمذراة.

فكروا في نهاية المطاف بحلّ وهو تسيير أقراص دوّارة أمام آلة زرع البذور لتفتيت التربة، لكنهم لم يكونوا قد توصلوا إلى هذه الفكرة حينئذ. قال غوتيريد: "يكمن جزء كبير من البحث والتطوير في تجريب أمور جديدة والفشل والتجريب مجدداً".

نماذج مستقبلية

توجهت بعدها إلى حرم الجامعة الرئيسي للقاء الأستاذ المتقاعد سايمون بلاكمور، اختصاصي الروبوتيات الزراعية وأحد كبار ملهمي فرانكلين. عمل الاثنان عن كثب بين 2012 و2013 حين كان فرانكلين يركز على مجال الأتمتة في السنة الأخيرة من دراسته الهندسة الزراعية. تجولت برفقة بلاكمور بين المختبرات التي كانت مركز عمله في السابق، وراح يبرز الفوائد الاقتصادية والبيئية للزراعة الأكثر دقة وللأتمتة.

قال بلاكمور: "تستند الممارسات الحالية في مجال الزراعة إلى السائد... هذا ما قمنا به في العام الماضي، وهذا ما كان أبي يقوم به". يعني ذلك على سبيل المثال هدر موارد هائلة بسبب رشّ حقول كاملة بالقدر نفسه. أضاف: "ما أدعو إليه هو نظام آلي جديد يستند إلى ماكينات صغيرة وذكية".

كانت فكرته تهدف أصلاً للتمكن من التخلص من نوع محدد من النباتات في الحقول، أو استهداف أعضاء مريضة محددة من النباتات. عند الاستعانة بالبشر في الزراعة، تكون الغاية صنع مركبات أكبر تدريجياً حتى يتمكن سائق واحد من القيام بعمل أكثر، إلا أن تلك المركبات العملاقة تضغط التربة، فظهرت الحاجة إلى فلاحة التربة ميكانيكياً.

هو يعتقد أن بإمكان أسطول من الروبوتات الصغيرة أن يساعد المزارعين على التخفيف من ضغط التربة ومن استخدام المواد الكيميائية، ويخفف الحاجة إلى اليد العاملة بشكل عام.

أطلعني بلاكمور على نموذجين يعودان لفترة عمله أستاذاً. كان أحدهما يستند إلى فكرته عن"الحصادة الانتقائية" وقد صنعته لأجله "ماسي فيرغسون" (Massey Ferguson) حوالي عام 2006. تهدف هذه الآلة لحصد محاصيل مثل الخسّ، وهي تشبه المدرّع بشكلها المنخفض على الأرض، ومعدّة لتسير على عجلات صغيرة.

تكمن غايتها في أن يستشعر جزؤها الأمامي بكلّ نبتة من المحصول، فيحدد جودتها وكميتها قبل اتخاذ قرار بحصادها أو الانتظار.

أما جزؤها الخلفي فيتألف من عربة قابلة للانفصال عن الحصادة الرئيسية، تذهب بشكل مستقل لتوصيل الخضروات المقطوفة طازجة إلى وحدة التخزين المبردة المركزية، ثمّ تعود لتزويد الماكينة بالوقود أو البطاريات.

قال: "الجزء الأمامي هو الحصادة، والجزء الخلفي هو اللوجستيات المؤتمتة". في حين لم يُنتج نموذج "ماسي فيرغسون" قطّ، قال لي بلاكمور لاحقاً إنه على ثقة بأن هذا النظام سيُصنع في المستقبل القريب.

أمّا الروبوت الثاني فكان عبارة عن آلة بيضاء بصلية الشكل تسير على عجلات، كُتب على جانبها اسم "نورمن"، وقد صمّمه وبناه فريق من طلاب شهادة الماجستير في جامعة "هاربر آدمز" في 2017.

حمل الروبوت جهاز رشّ مبيدات ذكي في الخلف لرشّ العشب الضار فقط، بدل أن يرش كامل الحقل. تُعدّ هذه الآلة أقل تعقيداً بكثير من الحصادة الانتقائية. أخبرني بلاكمور لاحقاً أن "المرشات الذكية طُورّت في عدّة دول حول العالم مثل الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة، وبعضها متوفر في السوق حالياً".

فوائد اقتصادية

رغم نجاح النظام الذي طوّره فرانكلين وزملاؤه، إلا أنه يحرص على عدم نسب كلّ الفضل في الاندفاعة الجديدة نحو الزراعة الروبوتية لنفسه. مع ذلك، يقول إنهم قدموا إرشادات لفرق التطوير في شركات صناعية عالمية، ويعتقد أن مشروعه أسهم في إثبات ما قد يحمله المستقبل للآخرين. قال: "إذا ما نظرت إلى ما هو أبعد من (هاندز فري)، سترى آلات تعمل في الحقول".

مع تسارع وتيرة تطور الزراعة الروبوتية، بدأت التساؤلات الاقتصادية تحلّ مكان الأسئلة التقنية. أجرى فريق "هاندز فري" تحليلاً توقع فيه أن تسهم الأجهزة الروبوتية التي طوّرها بخفض تكلفة إنتاج القمح للطنّ مقارنة بالمعدات التقليدية التي يشغّلها البشر ضمن المزارع التي تصل مساحتها حتى 450 هكتاراً.

في مزرعة مساحتها 59.4 هكتار، كان الفارق بين 168 جنيهاً إسترلينياً لطنّ قمح باستخدام جرار تقليدي بقوة 28 كيلوواط، مقارنة بـ140 جنيهاً إسترلينياً عند استخدام جرار روبوتي. جاءت تكلفة استخدام المعدات الروبوتية أقل من ذلك في المزارع الأكبر.

تكلفة الزراعة في أميركا تقفز بأعلى معدل على الإطلاق خلال 2022

قال سايمون بيرسون، الأستاذ المتخصص في تقنية الزراعة الغذائية في جامعة لينكولن في بريطانيا إن البحوث في مجال أتمتة الزراعة اكتسبت طابعاً ملحاً في بريطانيا مع تبني حدّ أدنى وطني جديد للأجور في 2016، ثمّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

لقد ارتفعت كلفة اليد العاملة الزراعية وبعد بضع سنوات واجهت البلاد شحاً في العمالة الزراعية المتوفرة بما أنه لم يعد سهلاً استجلاب يد عاملة موسمية مهاجرة من دول الاتحاد الأوروبي. قال: "كان لسان حال القطاع: انتظر لحظة، نحن بحاجة فعلاً للعمل بشكل منتج لأن أولئك العمّال لن يكونوا متوفرين لي".

يقرّ فرانكلن نظراً لمثل هذه العوامل الاقتصادية أن الحجج الداعمة للزراعة المؤتمتة تركز أكثر على منتجات تحتاج لكثير من اليد العاملة، بدل المحاصيل التي تزرع على مساحات شاسعة من الأراضي مثل الحبوب وفول الصويا والذرة، التي تستخدم الجرارات في زراعتها عادةً. قال بيرسون: "سيمرّ وقت طويل قبل أن نرى مزرعة حبوب تُزرع بالكامل بواسطة ماكينات روبوتية مثلما نفعل".

يشير فرانكلين إلى إمكانية اعتماد الأتمتة في بعض العمليات التي لا تعتبر مجدية اقتصادياً حالياً إذا ما استخدمت في المحاصيل التي تُزرع على مساحات شاسعة، مثل إزالة الأعشاب الضارة يدوياً، بدل رشّ كامل الحقل بمبيدات الأعشاب.

قال: "لن تجلب مجموعة من العمّال إلى حقلك ليزيلوا العشب يدوياً، ولا يوجد حلّ آلي لإزالة العشب الضار في حقل حبوب، لكن يمكنك ذلك بالتأكيد عبر الأتمتة". من شأن مثل هذه الحلول أن تمكّن المزارعين من خفض كبير في استخدام للكيمياويات.

هو يتصور أيضاً نموذجاً شبه روبوتي، حيث يقود المزارع مركبة ترافقها مركبات أخرى ذاتية القيادة. قال: "ربما يتواجد شخص في الحقل يزرع البذور بواسطة آلة زرع البذور، لكنه ربما يكون أيضاً يتبع آلة زرع أخرى يقودوها روبوت".

تحديث الجرارات القديمة

أقام فريق فرانكلين شراكات مع الشركات البريطانية "فارمسكان أغ" (Farmscan Ag) و"ماب أوف أغ" (Map of Ag) و"بريسيجن ديسيجنز" (Precision Decisions) لتصنيع مجموعة أدوات تحديثية تتلاءم مع آلات زراعية من صنع علامات تجارية مختلفة.

تصنع "فارمسكان" أجهزة تحكم تُركّب على بعض الآلات مثل المرشات وآلات زرع البذور، وقد يصبح نظام "هاندز فري" منتجاً آخر تضيفه إلى محفظتها.

تتوقع معظم كبرى شركات صناعة المعدات الزراعية أن تكون عملية التحول المرحلية هذه المستقبل الأكثر ترجيحاً للزراعة المؤتمتة. يبلغ متوسط عمر الجرار الزراعي في الحقول حوالي 20 عاماً، ما يعني أن تجديد أساطيل الجرارات يستغرق وقتاً طويلاً.

استجابت كبرى الشركات الصناعية للطلب في السوق عبر طرح أدوات حديثة متوافقة مع القديمة بما يمكن من أتمتة الجرارات القديمة سواء كانت من صناعتها أو ربما أيضاً من صناعة شركات أخرى.

قال باراغ غارغ، كبير المسؤولين الرقميين في شركة "سي إن إتش": "طريقة تعاملنا مع (الزراعة) الروبوتية تقوم بالدرجة الأولى على إجراءات ما بعد البيع، بما أنه توجد كمية ضخمة من المعدات التي يمكن تطويرها". قول فرانكلين إن الأدوات التحديثية التي تعمل عليها الشركات الكبرى "قد تكون مشابهة جداً" لتلك التي يقدمها فريقه.

استحوذت كبرى شركات صناعة الجرارات الزراعية في السنوات الأخيرة على مجموعة شركات ناشئة التي تعمل على حلّ المشكلة. في يونيو 2021، اشترت "سي إن إتش" شركة "رايفن إندستريز" (Raven Industries)، حيث تستخدم "سي إن إتش" اليوم أدوات الزراعة الدقيقة من "رايفن" في علامتيها التجاريتين "كايس أي إتش" (Case IH) و"نيو هولاند" (New Holland)، فيما تواصل "رايفن" كذلك بيع منتجاتها من خلال شبكة التوزيع الخاصة بها.

اشترت "أي جي سي أو" (AGCO) في 2021 أيضاً شركة "هيدسايت" (Headsight) التي كانت قد بدأت العمل على الأتمتة الزراعية منذ 1998.

ركزت معظم جهود الشركات الناشئة على محاصيل تخصصية مثل الفراولة والعنب والخس التي ما تزال تعتمد بشكل كبير على العمل اليدوي. يعزى هذا التركيز جزئياً للموقع المناسب لهذه المحاصيل. يوضح سيث كراوفورد، نائب الرئيس الأول للزراعة الدقيقة والشؤون الرقمية في "أي جي سي أو" فإن هذه هي المحاصيل "محلية بالنسبة لكثير من الشركات الناشئة في وادي السيليكون".

استبدال العمل اليدوي

غالباً ما تتحدث الشركات الناشئة عن وجهة النظر الاقتصادية. قال بيتر فيرغيسون، مدير تطوير الأعمال في شركة "أدفانسد فارم تكنولوجيز" (Advanced Farm Technologies) التي تأسست في كاليفورنيا في 2018: "إجمالي تكلفة اليد العاملة لزراعة خمسي هكتار من الذرة تبلغ 150 دولاراً من مرحلة ما قبل الإنتاج إلى ما قبل الزرع حتى ما بعد الحصاد... لكن تكلفة خمسي هكتار من الفراولة تبلغ 50 ألف دولار للحصاد فقط". فما تزال الفراولة تُقطف يدوياً.

قال إيريك أدامسون، المؤسس الشريك والرئيس التنفيذي لشركة "تورتوغا أغتيك" (Tortuga AgTech)، التي تعمل مثل " أدفانسد فارم تكنولوجيز" على أتمتة قطاف الفراولة وأيضاً العنب، إن المواد الغذائية المقطوفة يدوياً تشكل 20% من إجمالي إيرادات المزارع العالمية البالغة 5 تريليونات دولار، حسب تقديرات شركته.

قال رغم أن الفراولة لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً من هذا المبلغ، حيث تتراوح تكلفتها بين 18 مليار و20 مليار دولار سنوياً "مع ذلك هذه أسواق ضخمة تعتمد بالكامل على أشخاص يجولون في المزرعة ويقطفون كلّ نبتة".

ركزت شركة "فارم وايز لابز" (FarmWise Labs) في كاليفورنيا بقيادة المغتربين الفرنسيين سيباستيان بوييه وتوماس بالوماريس على إزالة الأعشاب الضارة من المحاصيل المتخصصة، لا سيما الخسّ وكذلك الكرفس والبروكولي، وهي محاصيل تتطلب كثيراً من العمل اليدوي لفترات قصيرة كلّ عام.

يستخدم روبوت "تايتان" ذو العجلات من "فارم وايز" الرؤية الآلية والذكاء الاصطناعي للتمييز بين الخس والأعشاب الضارة، ثمّ يزيل النباتات غير المرغوب بها، ويسهم في تجنب رشّ كامل الحقل بمبيدات الأعشاب، ويخفف الحاجة إلى اليد العاملة.

يؤكد بوييه أن الأجدى التركيز على مثل هذه الاستخدامات في مجال الأتمتة في المرحلة الأولى بدل الأدوات التقليدية التي تجرّها جرارات زراعية. كما هو يرى أن المنتجات المؤتمتة التي تطرحها كبرى شركات المعدات الزراعية ما هي إلا محاولة تسويق، بما أنه لا توجد بعد فائدة اقتصادية لجعل الجرارات ذاتية القيادة. قال: "هذا شيء جميل مثير يمكنك أن تضيفه لكتيب دعائي لجرارات باهظة الثمن لتتمكن من بيع مزيد منها".

مزيد من العوائق

واجه فريق "هاندز فري" بحلول مارس 2021 عائقاً جديداً بل عدة عوائق. لقد حان موعد زرع بذور المحاصيل الربيعية، إلا أن الحقل الذي كانوا يعملون فيه، وهو حقل "بورز لاند" لم يكن شكله مستطيلاً بدقة بل له شكل معقد رباعيّ الجوانب، بمحيط جنوبي متعرج بسبب خطوط الجهد العالي التي تعلوه معلقة على أعمدة كهرباء.

يعني ذلك تعذّر أن يتبع الجرار خطوطاً مستقيمة مبرمجة مسبقاً تترابط من خلال انعطافات 180 درجة مثالية.

فرش فرانكلين الذي اعتمر قبعة من التويد وارتدى سترة، خريطة الطريق على غطاء محرك سيارته. قال بتفاؤل: "كل هذه أعمدة تلغراف وهنا يوجد غطاء فتحة للصيانة سنتجنبه... ليس هناك ما يجعل هذه الأمور تسبب لنا أي مشكلة".

لكن المشاكل وقعت فعلاً، فقد اضطر المزارعون في اللحظة الأخيرة لتعديل حدود الحقل التي برمجوا عليها الآلة ليستثنوا جزءاً من المنطقة كان ما يزال رطباً جداً، بحيث يتعذر زرع البذور فيه. أدى ذلك ليصبح أحد أعمدة الكهرباء داخل المنطقة المحددة للاستدارة عند نهاية كلّ صفّ. قال غوتيريدي "لا يمكن الاستدارة حول استدارة".

فيما كان الفريق يحاول البحث عن حلّ، كان الجرار ينعطف كما هو مبرمج حول عمود كهربائي ويتوقف في منتصف الصفّ رغم من عدم وجود أي عوائق أمامه ويرفع آلة زرع البذور، وهي مناورة يقوم بها عادة عند نهاية كلّ صف. بدت الآلة وكأنها ممتعضة.

قال فرانكلين: "كنّا نعتقد أننا تخطينا هكذا خلل". اشتبه غوتيريد أن يكون سلكاً سائباً قد تسبب بالمشكلة، لكن تعين عليهم العودة إلى الورشة للتحق.

تمكّن الفريق أخيراً من زراعة الشوفان الربيعي في حقليّ "توب أدني" و"بورز لاند"، بعد التغلب أيضاً على بعض مشاكل التداخل اللاسلكي قرب خطوط الكهرباء. فشلت الزراعة في "توب أدني" في 5 من أصل 35 هكتاراً بسبب الجفاف، كما طرأ تأخير في تأمين قطع الغيار الحصادة المأتمتة المستخدمة للمساعدة على جلب محصول.

خيال علمي يتحقق

انطلقت أعمال الحصاد في 11 أغسطس وواجهت الحصادة التي استخدمها الفريق في حقل "بورز لاند"صعوبة في قطف محاصيل الشوفان الطويلة، فاضطر الفريق للجوء إلى سائق بشري لتشغيل آلية أكبر حجماً.

لكن في حقل "بلو بيتس"، نجح الفريق في حصاد غلة الفول الشتوي روبوتياً، وكذلك في حقليّ "ميدل مور" و"نير مور" حيث ينمو القمح الشتوي، تمكنت الحصادة الصغيرة من قطع السنابل الذهبية روبوتياً، فيما سايرها جرار ذاتي القيادة يجر مقطورة.

تدفقت الحبوب من منفذ الحصادة إلى المقطورة، وحين امتلأت توجّه الجرار إلى طرف الحقل لإفراغ الحمولة. كانت تلك أول مرّة ينجح فيها الفريق بهذا العمل المعقد الذي يتطلب تنسيق آلتين تعملان معاً. وتمكن الفريق في النهاية من حصد 150 طنّاً من القمح من مساحة 17.5 هكتار. باعوا الغلة في السوق مقابل 27553.66 جنيه إسترليني، كما حصدوا 7.08 طنّ متري من الفول من مساحة 1.7 هكتار إضافية، وباعوه مقابل 1522.20 جنيه، وهذه تعتبر عوائد جيدة جداً.

زرع الفريق آخر محصول شتوي له بعد ذلك ببضعة أشهر، فغرسوا بذور القمح الشتوي في حقليّ "توب أدني" و"بلو بيتس" وبذور الفول في "بورز لاندز". حين عدت لزيارة المكان في أبريل 2022 على مشارف نهاية المشروع الذي امتد ثلاث سنوات كان الجميع متعباً.

لم يعد فرانكلين يبدو كالعالم الشاب الذي التقيته في 2019. أمّا غوتيريد فظهر عليه إرهاق رجل أمضى وقتاً طويلاً يصلح أعطالاً في طقس سيئ. أمّا جيل، خبير الروبوتيات، فانتقل للعمل في شركة تجارية. رغم كلّ ذلك، لم يرق عمل الجرارات إلى مستوى آمالهم، فلا تناسق بين عمل آليتين، وهناك حاجة لوعاء ماء متصل بحزام الأمان حتى تسير المركبة، لكنهم تمكنوا في النهاية من زراعة محصول الربيع.

"أشعر بالفخر" كانت إجابة فرانكلين حين سألته عن شعوره مع الاقتراب من نهاية المشروع. لقد أسهم وفريقه في تحويل الزراعة الروبوتية من فكرة خيال علمي مستقبلية إلى واقع سيكون ملموساً في المستقبل القريب، ودفعوا المزارعين نحو طرح تساؤلات حول إمكانية استمرار الوضع الراهن الذي يعتبر أن الاستعانة بآلية كبيرة يقودها إنسان هي أفضل حل دائماً.

طموح جديد

بدأ يراود فرانكلين طموح جديد بعد بضعة أشهر، فهو يتساءل عما إذا كان يمكن للأتمتة أن تكتب نهاية الزراعة أحادية المحصول السائدة منذ قرون. هل يمكن زراعة صفوف متناوبة من أجناس مختلفة بدل زراعة محصول واحد في الحقل؟ يتيح ذلك لكلّ نبتة أن تعوّض العناصر الغذائية التي تستهلكها النباتات الأخرى دون حاجة لاستخدام أسمدة أو إراحة التربة بين الدورات الزراعية.

كما أن تنوع المحصول يسهم بالحدّ من انتشار الأمراض النباتية أيضاً. علّق فرانكلين على مسألة مناوبة المحاصيل قائلاً: "إذ اعتمدت على شخص ليفعل ذلك، فإن هامش الخطأ يكون عالياً. لكن عند استخدام آلتنا، يكفي أن تحمّل خطة مسار القمح، وستسير الآلة ذهاباً وإياباً في الحقل، تزرع القمح فقط. ثمّ تحمّل خطة زرع الشعير، وستزرع الشعير فقط، وبعدها الفول مثلاً".

في غضون ذلك، بدأ موسم الحصاد الأخير لفريق "هاندز فري". في أغسطس وسبتمبر، ازداد هطول المطر الذي يتعين تجنبه، فاضطر الفريق للسهر حتى وقت متأخر من الليالي لإتمام أعمال الحصاد على ضوء مصابيح الآلات الأمامية.

عملت الحصادة عن كثب مع جراريّ "إيسيكي" الذين كانا يجران عربتي حبوب، وقد عملت كلّ المركبات بلا سائق. حصد الفريق حوالي 48 طناً من القمح وحوالي 91 طناً من الشعير الربيعي، وبلغت قيمة الغلال حوالي 35 ألف جنيه إسترليني.

أخيراً، في 16 سبتمبر، نشر حساب الفريق على موقع "تويتر" صورة للحصادة وعلى جانبيها جراريّ "إيسيكي" المعدلين. جاء في التعليق تحت الصورة: "العمل الميداني في مزرعة هاندز فري قد أنجز".