من دافوس.. الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية يرسمان المستقبل

الحدود بين الخيال العلمي والواقع إلى اضمحلال

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

على مدى نصف قرن كرّس المنتدى الاقتصادي العالمي نفسه على أجندات صنّاع القرار السياسي والاقتصادي والعلمي حول العالم، حيث يلتقون مطلع كل عام في منتجع دافوس السويسري لمناقشة قضايا الحاضر والمستقبل. ولسنواتٍ، احتلت نقاشات الثورة الصناعية الرابعة مساحة كبرى على أرضية الحوار. هذا العام الذكاء الاصطناعي، والاقتصاد القائم على مبادئ الفيزياء الكمية، والتكنولوجيا الحيوية باختراقاتها الصحية والغذائية والبيئية، والعوالم الافتراضية بآفاقها وأدواتها.. كلها في قلب المعادلة، لتكتب فصلاً من مستقبل البشرية.

الكومبيوتر الكمّي

من عالم المال، إلى الفضاء، إلى الطاقة، تَعِدُ التكنولوجيا الكمية بطفرة أداء حقيقية. فهل نحن على أعتاب ثورة وشيكة عمادها الحواسيب الكمية (Quantum Computer)؟

تمكّن حاسوب كمّي لشركة غوغل من حل مسألة بغاية التعقيد في 3 دقائق، بينما توقع العلماء أن يستغرق أضخم حاسوب كلاسيكي على وجه الأرض 10 آلاف عام لحلها. وفي يناير 2019، قدّمت IBM للعالم أول حاسوب كمّي تجاري على شكل آلةٍ غريبة.

تقف الكومبيوترات التقليدية، بما فيها الـ"سوبر كومبيوترز"، عاجزة أمام معضلات كبرى لا تتوفر على وجه الأرض طاقة "حوسبية" لمعالجتها، على غرار الأمراض المستعصية والمشكلات المناخية، والتي يَعِدُ الحاسوب الكمّي بحلها.

يان غوتز، الرئيس التنفيذي والمؤسس لشركة IQM، يُنوّه بأن التكنولوجيا الكمية "ستؤثر على العقد المقبل، ولديها القدرة على جعل العالم مكاناً أفضل، خاصةً لناحية تطبيقاتها المحتملة بمجال اكتشاف الأدوية.. لقد خرجنا من جائحة للتو، وتعلمنا أهمية تطوير الأدوية بسرعة كبيرة، ويمكن للتكنولوجيا الكمية تسريع هذه العملية. وكذلك الأمر بالنسبة للتغير المناخي، حيث يُمكن للحوسبة الكمية المساعدة بجعل عملية إنتاج الأسمدة والغذاء أكثر فعالية وكفاءة من حيث الطاقة المستخدمة".

يتجاوز المبلغ المرصود -المعلن- للأبحاث والتطوير بمجال التكنولوجيا الكمية 30 مليار دولار، وتأتي الصين في الصدارة عبر خطط لإنفاق 15 مليار دولار، يليها الاتحاد الأوروبي بـ7 مليارات، فالولايات المتحدة بـ1.5 مليار دولار. وتتوقع دراسة لـ"ماكنزي" أن تتسارع وتيرة الاستثمار الحكومي والخاص في هذا المجال، بما يضيف بحلول 2035 قيمةً تناهز 700 مليار دولار إلى 4 قطاعات أساسية تزدهر بظل الاقتصاد الكمي، هي: الصيدلية والكيماويات والسيارات والتمويل.

التكنولوجيا الحيوية

نالت الشركات العاملة بمجال التكنولوجيا الحيوية (Biotech) شهرةً واسعة خلال العامين الأخيرين، بفضل الحمض النووي المرسال (RNA) الذي استُخدم في عدد من اللقاحات التي تمّ تطويرها لمجابهة فيروس "كوفيد"، والأنسولين البشري الذي يبشّر بعلاج مرض السكري.

واستقطبت هذه الشركات في الولايات المتحدة وأوروبا عام 2021 ما يفوق 115 مليار دولار من التمويل. في حين بلغ إجمالي قيمة الطروحات الأولية لهذه الشركات 19.3 مليار دولار. وبحلول 2025، يُتوقّع أن تتجاوز قيمة قطاع التكنولوجيا الحيوية 727 مليار دولار.

إينا كراتسبرغ، الرئيس التنفيذي للأعمال في شركة Ginkgo Dioworks، تُنوّه بأنه "في الأيام الأولى من جائحة كورونا، كان الجميع قلقاً بأن تطوير اللقاح سيستغرق وقتاً طويلاً. لكن لقاحات الـMRNA أتت في وقتٍ أبكر بكثير من المتوقع بحلول ديسمبر من السنة الأولى لانتشار الجائحة، من خلال الذكاء الاصطناعي وتقنية تعلُّم الآلات".

وتشير إلى أن استراتيجية شركتها "تهدف إلى منح العلماء القدرة على فهم الأمراض المعقدة، والتنبؤ بأهداف الأدوية التي يمكن أن تكون ناجعةً مع الأمراض غير المكتشفة بعد، بموازاة اكتشاف الأدوية الجديدة للأمراض التي ليس لها أدوية فعالة حتى الآن.. وفي الوقت الحالي لدينا 15 دواءً قيد التطوير".

كراتسبرغ ترى أن "الحوسبة الكمية هي تكنولوجيا مثيرة جداً للاهتمام، لكنها تحتاج إلى سنوات بعد، وعندما نفكر في علم الأحياء، سنجد أنه مجال معقد للغاية، فالبشر مكونون من 37 تريليون خلية، ولذا يمكن أن نتخيل مدى صعوبة ذلك، وبالتالي عند تصميم دواء أو تركيبة بروتينية، لديها هدف حيوي مُحدد لمعالجة مرض ما، ستحتاج إلى طاقة حوسبة هائلة ومعقدة للغاية. وأهم هدف بالنسبة لنا هو إيصال هذه التكنولوجيا إلى عشرات الآلاف من العلماء، لتحفيز الابتكار واكتشاف الأدوية الجديدة لمعالجة الأمراض المعقدة".

المراحل الأولى

بدورها، تَعتبر جوانا شيلدز، الرئيسة التنفيذية لـBenevolent AI، أننا في المراحل المبكرة من الثورة البيولوجية؛ "ومثلما أدّى اختراع الكومبيوترات والشرائح المصغرة، في القرن العشرين، إلى الثورة الرقمية، فالآن بدأنا نحصل على الأدوات التي نحتاجها لنفهم تعقيدات الأنظمة البيولوجية، ولتصميم الأنظمة والبرامج والشيفرات الجينية، وامتلاك التقنيات التي تمكّننا من توليد الجينات بتكلفة منخفضة وبكفاءة".

وتوضح أن "علم الأحياء لا يقتصر على أسواق محددة، فهو لا يستخدم في صناعة الأدوية والغذاء فقط، بل الثورة البيولوجية لها تأثير على كافة الأوجه، من الأدوية التي نتناولها، والمواد التي تُصنّع منها ثيابنا، ومواد التغليف، إلى إعادة تدوير النفايات وإنتاج الوقود المستدام".

ورغم أنه "لا يوجد لدينا ما يكفي من مبرمجي الخلايا ومهندسي الكائنات الحية حالياً، لكن المجتمع البيولوجي يكبر باستمرار"؛ بحسب شيلدز، مؤكدةً أن "هناك جيلاً من الشباب الذين يدرسون هذا العلم ويكتسبون المهارات المطلوبة للبرمجة البيولوجية".

الذكاء الاصطناعي

ارتفع الاستثمار العالمي للشركات في مجال الذكاء الاصطناعي بين عامي 2019 و2020 بنسبة 40% ليبلغ 67.9 مليار دولار. ويتجلّى ذلك من خلال الروبوتات التي باتت حاضرة في العديد من الأنشطة الاقتصادية والدفاعية واللوجستية والمالية. ففي أسواق الأسهم العالمية يُقدّر أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي باتت مسؤولة عن قرابة نصف حجم التداولات اليومية. وبحلول عام 2030، ستصبح 400 إلى 800 مليون وظيفة مؤتمتة بالكامل بحسب تقرير لشركة الاستشارات "ماكنزي".

إيمي ويب، مؤسسة معهد Future Today، توضح أن "الحدود بين ما يشبه الخيال العلمي وما يصبح واقعاً لا تزال مبهمة. وجرت على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي العديد من النقاشات حول الذكاء الاصطناعي المُبدع والهندسة البيولوجية، وغيرها من المواضيع التي كانت تمثل نظريات فكرية من دون أمثلة التطبيق العملي لها. غير أن الأمر بدأ يتغير، حيث نشهد الآن الانتقال إلى التطبيق العملي لبعض تلك التكنولوجيات غير المعقولة".

فيما يخص الذكاء الاصطناعي، هناك عدد من الدول والشركات التي تبني المستقبل اليوم. ومن الواضح أن الولايات المتحدة والصين تعملان بقوة في هذا المجال. "غير أن القصة التي لا يسمع عنها معظم الناس، تكمن بأن هناك العديد من المشاريع في منطقة الشرق الأوسط، حيث أنشأت إمارة دبي مركزاً لدراسة الذكاء الاصطناعي. ورغم أن عدد الشركات الموجودة في هذا المركز ليس كبيراً جداً حالياً لكن هناك دعم حكومي وفير ما يتيح تفعيل نشاطه"، بحسب ويب.

وتضيف: "من الواضح أننا ننتقل من المرحلة التي كانت تتميز بقدرتنا على توجيه الأجهزة الآلية، في حين بدأت هذه الأجهزة تعترف بنا وتوجهنا الآن. وبالحديث عن العقد الأخير، فأودّ أن أصفه بحقبة الذكاء الاصطناعي المحسوس، حيث كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي تستخدم المعطيات حولنا لمساعدتنا على تحسين الإحساس بالبيئة المحيطة. لكننا تجاوزنا هذه المرحلة، فحالياً نحن ننتقل إلى حقبة الذكاء الاصطناعي المُبدع، ما يعني أن الأنظمة الذاتية ستتخذ قرارات نيابة عنا، ما قد يُسهم، على سبيل المثال، بتسريع عملية اكتشاف أدوية جديدة، ومواجهة مسائل خطيرة، والتقدم بمجالات الخدمات البنكية والتأمين".