الصين تبني مدناً خضراء لكنها تعاني لتجد من يسكنها

منظر جوي لبحيرة Xinglong في قلب مدينة تشنغدو تيانفو بارك وهو نموذج لخطة الصين لبناء مدن أكثر اخضراراً
منظر جوي لبحيرة Xinglong في قلب مدينة تشنغدو تيانفو بارك وهو نموذج لخطة الصين لبناء مدن أكثر اخضراراً بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تقوم الصين ببناء جنة حضرية بمساحة أكبر من مدينة هيوستن الأمريكية. وتقع هذه المدينة الجديدة خارج مدينة تشنغدو الجنوبية الغربية، إذ يتمُّ استقبال الزوار بمساحة واسعة من العشب المشذَّب، الذي يحيط ببحيرة صناعية تزيّنها زنابق الماء، وهذه المساحة الخضراء هي بحجم حديقة سنترال بارك في نيويورك تقريباً.

هذه المدينة هي مشروع "تيانفو بارك"، التي تعدُّ واحدة من مئات مشاريع بناء "المدن البيئية"، التي استحوذت على المزارع والأراضي الريفية في الصين. وتأتي في إطار محاولة الحكومة توفير السكن لـ 100 مليون شخص، إذ تخطط لنقلهم من القرى إلى المناطق الحضرية بحلول عام 2020.

نمط حياة أفضل للمواطنين

وبعد عقود من التوسع الحضري العمراني الحر الذي سمح للضواحي الخرسانية الشاهقة بالانتشار حول مدنها الكبيرة، الذي التهم الأراضي الزراعية، وخلق التلوث، تحاول الصين إيجاد طريقة أكثر استدامة للنمو، وتوفير نمط حياة أفضل للمواطنين.

إنَّ أحد سكان هذه المناطق الخضراء، يكنَّى بـ"فان"، و يبلغ من العمر 56 عاماً، وقد انتقل إلى المنطقة عام 2013 عندما كانت لا تزال إحدى ضواحي تشنغدو المهملة، ويقول: "الهواء هنا جيد حقاً، هناك نظافة في أيِّ مكان تذهب إليه. وأنا لست نادماً على قراري على الإطلاق، فقد تضاعفت قيمة شقتي".

وأدَّت الموافقة على مشروع "تيانفو"، عام 2014، إلى تدفق الدعم الحكومي الذي ساعد في تعزيز أسعار العقارات. وخلال النصف الأول من عام 2019 وحده، وقَّعت المدينة عقوداً لاستثمارات بما يزيد على 300 مليار يوان (44 مليار دولار).

وعند اكتمال أعمال البناء الرئيسية هذا العام، سيتمُّ تخصيص ما يقرب من 60% من المساحة لخلق ست بحيرات صناعية، و30 متنزهاً، ومساحات خضراء أخرى. ومن المفترض أن يصل عدد السكان في المشروع إلى 6.3 مليون نسمة مع حلول عام 2030، وذلك بما يعادل ربع حجم مدينة شنغهاي، أكبر المدن الصينية.

ويقول تشانج سيكي، رئيس هيئة التدريس في "معمل التحضُّر المستدام التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا": "تقدِّم المدن الجديدة تجارب متكاملة. ويمكن للحكومات اختبار الأفكار المبتكرة فيها بسهولة". وتابع تشانج: "إنَّ المدينة الجديدة

لا تحتاج للتعامل مع السكان الموجودين"، على عكس ما يحدث عندما تعيد الحكومة تطوير المدن القائمة بالفعل، فيكون الأمر أكثر صعوبة.

تدهور الأراضي العشبية

وتمَّ ابتكار النهج الأخضر الذي تتبعه الصين من أجل معالجة اثنتين من القضايا البيئية الملحة. إلا أنَّ البناء، وتوسُّع البنية التحتية الحضرية، ومشروعات الإسكان، يعدُّ بحد ذاته أحد أكبر مصادر الغازات الدفيئة في البلاد.

ووفقاً لدراسة أجراها باحثون في "جامعة ماريلاند"، قد ينتج عن تحقيق هدف التوسع الحضري العمراني للأمة أكثر من غيغا طن من ثاني أكسيد الكربون الإضافي. وفي الوقت نفسه، فإنَّ عملية البناء التوسعية ساهمت في تدهور كل من البيئات الريفية والحضرية، إذ تعاني معظم المدن الرئيسية في الصين من تلوث الهواء، وتدني جودة المياه.

ووفقاً لوزارة البيئة الإيكولوجية، تعاني حوالي 90% من الأراضي العشبية في الصين، و40% من أراضيها الرطبة الرئيسية من التدهور.

وفي عام 2012، بدأ الرئيس شي جين بينغ في التأكيد على نظريته حول "الحضارة البيئية"، لتبدأ التنمية تأخذ التكاليف البيئية في عين الاعتبار، غير أنَّ ذلك الطموح لم تتم ترجمته دائماً إلى سياسات ملموسة. وعلى الرغم من أنَّ الإرشادات الحكومية الخاصة ببناء مدن جديدة تتضمَّن مصطلحات طنانة، مثل "منخفض الكربون"، و "الحماية البيئية"، إلا أنَّها تتضمَّن القليل من المتطلبات المحددة، في حين يتعلَّق بكفاءة الطاقة، ومواد البناء.

مدينة المنتزهات

ساهم التأييد الشخصي من قبل الرئيس الصيني شي في ازدهار "تيانفو"، إذ قام بزيارة مدينة تشنغدو في عام 2018، وأشار إلى أنَّ التنمية العمرانية الخاصة بالمدينة ينبغي أن "تسلط الضوء على مميزاتها كمدينة تتمتَّع بوجود متنزهات، لتكون مدينة المنتزهات (بارك سيتي)". وسرعان ما أضافت الكوادر المحلية لاحقة "بارك سيتي" إلى اسمها الرسمي، وعلِّقت لافتات في الشوارع تعلن عن ذلك. وقد تمَّ إنشاء "معهد بارك سيتي للبحوث" للمساعدة في تحويل المشروع إلى "نموذج مشهور وناجح عالمياً" للتحضر.

وتقول وو تشانغهوا، كبيرة الباحثين في مؤسسة "مركز الصين والعولمة" البحثية، ومقرُّها بكين، إنَّ سياسات الصين تثبت أنَّ القيادة العليا عازمة على إصلاح البيئة، وليس هذا ما يؤدي إلى تحفيز البيروقراطيين المحليين دائماً، مضيفة: "يمكن أن يكون الدعم الكبير وتحفيز النمو الاقتصادي دافعاً أقوى".

استهلاك كميات كبيرة من الطاقة

وبحسب ما قال دينغ وو، وهو الأستاذ المشارك في قسم الهندسة المعمارية والبيئة المبنية في جامعة "نوتنغهام نينغبو" في الصين؛ فإنَّه من بين مئات المشاريع المصنَّفة كمشاريع لبناء "مدن بيئية"، لا يلجأ الكثير منها للاستعانة باستراتيجيات مستدامة، مثل المباني الموفِّرة للطاقة، وتخطيطات المرور الذكية، والطاقة المتجددة.

وأضاف: "غالباً ما يقوم المطورون العقاريون بالإعلان عن مبانيهم بوصفها "صديقة للبيئة" كونها تحافظ على ثبات درجة حرارة، ومستويات الرطوبة والأكسجين في الداخل، لكنَّ تحقيق ذلك يتطلَّب في الواقع استهلاك كميات كبيرة من الطاقة".

وتابع: "إنَّهم يساوون بين كون المباني "صديقة للبيئة "، وكونها مريحة، وفي الحقيقة هذه المشاريع لا تمت بصلة لكونها صديقة للبيئة، بل يمكن أن يكون لها تأثير معاكس".

وبالنسبة للعديد من السكان، فإنَّ المناظر الطبيعية الجميلة، والمباني الحديثة في "تيانفو" تجسِّد روح "المدينة البيئية"، وتشكِّل تقدماً كبيراً مقارنة بالمدن رديئة البناء في الماضي. ومن وجهة نظرهم، فإنَّ الهواء النظيف، والمياه النقية، والشوارع البراقة تعدُّ مقاييس أكثر أهمية "للحضارة البيئية" من المباني التي تحافظ على الطاقة.

جذب السكان

هذه المدن بالطبع تحتاج إلى أعمال ووظائف لتنمو، وليس مجرد حدائق جميلة. وقد انتقلت بعض الشركات المحلية التي أغرتها الإعانات الحكومية، والإعفاءات الضريبية إلى ناطحات السحاب الجديدة في المنطقة التجارية المركزية في "تيانفو"، وذلك على الرغم من أنَّ المنطقة بعيدة عن مركز المدينة.

كما قامت سلاسل عالمية، مثل "ستاربكس"، و "بيتزا هت" بافتتاح منافذ مطلة على الماء بها، إذ يقوم وكلاء العقارات ببيع الشقق للمارة من خلال الترويج لاستثمارات الحكومة في المنطقة.

وتقول تشنغ" من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، إنَّه من السابق لأوانه القول ما إذا كانت "تيانفو" ستجتذب عدداً كافياً من السكان. وأضافت: "قد يكون هناك عرض أكبر بكثير من الطلب إذا لم يشعر الناس بالحاجة إلى الانتقال إلى مدينة مبنية حديثاً، خاصةً مع وجود أماكن معروضة في أماكن أخرى بالمدينة"، في إشارة إلى مدينة تشنغدو، التي أصبحت في السنوات الأخيرة وجهة شهيرة للشباب الذين يبحثون عن إيجارات أقل من مدن أكبر، مثل بكين، وشنغهاي.

قوة مالية جديدة

لقد حدث ذلك في الصين من قبل. فقد تمَّ رسم صورة لمدينة بينهاى الجديدة في تيانجين، الواقعة على طول الساحل الشرقي، على أنَّها ستشكِّل قوة مالية جديدة. وذلك حينما أطلق رئيس مجلس الدولة السابق وين جيا باو المشروع منذ أكثر من 10 سنوات. وفي عام 2019، كان 100 ألف شخص فقط يعيشون ويعملون في هذه المدينة البيئية التي أنشئت بالتعاون بين الصين وسنغافورة. وهو ما وضع المشروع الرائد في بينهاي، بمسافة بعيدة بشكل كبير عن الهدف الذي وضعته الحكومة له، والمتمثل في احتضان 350 ألف مقيم دائم مع حلول عام 2020.

أين يذهب سكان الريف ومزارعهم؟

وعلى بعد 15 دقيقة بالسيارة على طريق سريع تمَّ تجهيزه حديثاً، ويؤدي إلى خارج "تيانفو"، حيث يلعب سكان قرية هونغشيانغ لعبة "الما جونغ" بعد ظهر يوم الأحد في يوليو من العام الماضي، وكانوا يتحدثون عن المدينة المتنامية بالقرب من قريتهم. وهم محاطون بحقول الأرز، وغابات الخيزران، وتساءل هؤلاء السكان عن موعد هدم قريتهم لإفساح المجال أمام "تيانفو ". وناقشوا ما إذا كان سيتمُّ تعويضهم مقابل التنازل عن منازلهم التي توارثوها على مدى أجيال؛ إذ يبلغ عمر مزارع أحد هؤلاء السكان 67 عاماً، وتكنَّى بـ "زو"، وعبَّرت عن قلقها من ألا تكون مؤهلة للحصول على معاش تقاعدي، أو رعاية صحية في المدينة، على الرغم من أنَّها ستكون قد فقدت موردَ رزقها الوحيد.

في حين عبَّرت واحدة من السكان، وهي وانغ شيوليان، الأم لطفلين، التي تبلغ من العمر 33 عاماً، أنَّها تشعر بالحيرة حيال فكرة المدينة البيئية بأكملها. وأضافت أخيراً: "كل يوم عندما أفتح نافذتي أرى الطبيعة، لا أعرف لماذا يريدون هدمها لبناء بعض المساحات الخضراء المزيفة".