يتجنبون التقنية فيحيلون حياة زملائهم جحيماً

المتشبثون بالنهج القديم في الشركات يستصعبون التأقلم مع التطور التقني متسارع الوقع

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

يعاني معظمنا شيئاً من جهل تقني نخفيه عن زملاء العمل خجلاً، فيصعب على بعضنا ترتيب موعد باستخدام برنامج تقويم، أو استحداث رابط لبدء محادثة عبر تطبيق "زووم" (Zoom)، ويربك آخرين حفظ ملف بصيغة "بي دي إف" (PDF)، ويأتيك زميل يطلب رأيك بلوحات عرضه التقديمي لكنك لا تعرف شيئاً عن ذلك.

قد نظن أننا شارفنا على محو الأمية التقنية عالمياً بعد مضيّ نحو ثلاث سنوات منذ اضطر مئات ملايين الموظفين حول العالم فجأة، وقد كان غالبهم مجبراً، إلى أن يتقنوا التعامل مع تعقيدات برامج محادثات الفيديو، وأدوات التواصل التي يمكن استخدامها في حال التنقل.

كيف يجب أن تتحدث إلى "ChatGPT"؟ إليك الدليل المبسط للمستخدم

لم ألمس هذا التحول في مقابلات مع إداريين طلبوا عدم كشف هويّاتهم لتجنب إحراج موظفيهم. أخبرتني سيدة تدير فريقاً يكبرها معظم أفراده سنّاً، أنها تسعى لأن يكون من يعمل معها مرتاحاً في طرح الأسئلة، لكنها محبطة من لجوء الموظفين المستمر إليها بحثاً عن حلول لشؤون تقنية بدل التواصل مع قسم الدعم التقني للشركة، أو ببساطة البحث عن الإجابات على "غوغل".

قد يبدو الشبان أعلم في المسائل التقنية، لكنهم غالباً ما يعانون أيضاً من فجوات معرفية. أطلعني بعض الإداريين على أنهم اضطروا إلى الحديث مع أفراد من فرقهم من جيل "Z" (وهم مواليد أواسط التسعينيات حتى 2010) ليؤكدوا لهم ضرورة قراءة البريد الإلكتروني بانتظام.

أثر التقنية

جزء من المشكلة هو أن التقنيات الجديدة لا تزيل سابقاتها فتخلط هذه بتلك لفترات طويلة، كما كتب المنظّر الإعلامي نيل بوستمان في كتابه "تكنوبولي" عن استسلام الثقافة للتقنية: "إن التقنية الجديدة لا تضيف أو تطرح شيئاً، بل تغير كل شيء".

أن نتقن مهارة جديدة مثل الإشراف على مكالمة "زووم" مثلاً، يجعلنا في كثير من الأحيان نهمل تلك التي اكتسبناها من قبل، فتتراجع آداب البريد الالكتروني لدينا، كما نفتقر إلى التفكر لدى إرسال الرسائل المباشرة عبر "سلاك" (Slack)، كما ننسى وجود خيار الإرسال المتأخر. أو قد نفترض أنه علينا أن نطلب توجيهاً من شخص في محيط عملنا لمجرد أنه يتقن أداء بعض هذه المهام.

رؤساء شركات التكنولوجيا سيدفعون ثمناً باهضاً لخفض الوظائف

يمكن أن نعزو هذا النوع من السلوك إلى الإرهاق والاستنزاف الناجمين عن الضغط ، إلّا أن الأمر في معظم الأحيان يتعلق بآليات السلطة في أمكنة العمل. ثمة قصور عادي يضاف إليه ما يُعرف بعدم الكفاءة المتعمد.

هذا الشكل من المقاومة هو حصيلة تطور تاريخي نشأ في ظل نظام طبقي بيروقراطي لم يعُد بمعظمه قائماً الآن، فقد كان رجال الأعمال في السبعينيات والثمانينيات غير مضطرين إلى أن يجيدوا استخدام آلة لكتابة نصوص أو أن يتعاملوا مع آلة طباعة أو تصوير مستندات أو حتى أن يتولوا تنظيم مكالماتهم الهاتفية، فقد اعتمدوا على مساعدين شخصيين في هذه المهام.

مقاومة الواقع

سادت بعد ذلك حضارة الحد من الإنفاق عن حدوده الدنيا في الشركات، وظهر الحاسوب الشخصي. سواء شاء أم أبى، فقد أصبح بذلك الموظف ذو الياقة البيضاء مساعد نفسه الخاص، فبات مسؤولاً عن تلقي المكالمات وصياغة وتوزيع الملاحظات في المكتب وترتيب مواعيده.

لقد دخل بعض الموظفين سوق العمل دون أن يعرفوا طريقة غير هذه أصلاً، فيما لم يبقَ أمام بعض المحبطين أو الخائفين من فقدان وظائفهم سوى الإذعان بهدوء.

لكن بعضهم قاوم إعادة توزيع الأدوار هذه، إما لأنهم مخضرمون وتمكنوا من الاحتفاظ بمساعدين، وإما لأنهم تمكنوا البقاء في مناصبهم رغم التمنع عن توسيع مسؤولياتهم.

يتصرف هؤلاء وكأن لهم مساعدين لكنهم حقيقةً زملاء وعادة ما يكونون من صغار الموظفين الذين تخرجوا تواً، كما يكون معظمهم نساءً، يجبرون على أدوار ليست ضمن مهامهم الوظيفية، فيسهلون عمل مدير يتصرف كما لو كان عالقاً في عام 1994. مثال شائع على ذلك أن يُطلب من موظفة كتابة الملاحظات في كل اجتماع.

لا تكون مقاومة التقنيات الحديثة، في بعض مناخات العمل، متعلقة صراحةً بالسلطة، خصوصاً من جانب أصحاب المناصب العالية، فهم أصلاً بعيدون جداً عن أساليب التواصل اليومية لموظفيهم، ولا يدركون حتّى أهمية تعلمها.

ما بعد الوباء

لمس بريان إليوت، أحد نواب رؤساء "سلاك"، دليلاً على ذاك الانفصال عبر تواصله المستمر مع إداريين تنفيذيين حول معاناتهم في عودة الموظفين للعمل من المكاتب. يرأس إليوت "فيوتشر فورم" (Future Forum)، وهي مبادرة بدأت في سبتمبر 2020 لتساعد الشركات على مواجهة مرحلة الوباء وتسارع التحول نحو ثقافة العمل عن بُعد.

قال: "يريدون إعادة الموظفين إلى المكاتب لملء الفراغ حسب قولهم، لكن حقيقة الأمر هي أنهم يشعرون بفقدان السيطرة على المؤسسات التي يديرونها، لا سيما بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية... إنهم يفوتون التواصل القائم بين موظفيهم لأنهم غير منخرطين في أدوات تواصلهم".

معاناة ما بعد الوباء.. شركات التكنولوجيا تسرع وتيرة تسريح الموظفين

لم يُشِر إلى تطبيقات المراسلة مثل "سلاك" فحسب، بل إلى أدوات تشاركية مثل "غوغل دوكس" (Google Docs)، و"مايكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams)، و"إيرتيبل" (Airtable)، وغيرها من البرامج المخصصة لمجالات معينة.

استخدم الناس هذه البرامج قبل الوباء أيضاً، لكنها أصبحت الآن منصات أساسية للتواصل والبناء الثقافي في كثير من الشركات والجامعات والمنظمات غير الربحية.

نظراً إلى عدم استخدامهم تلك الأدوات، ترى هؤلاء الإداريين أكثر من يشتكي من تدني الاجتهاد وتراجع الإنتاجية ما بعد الوباء.

لم يبنِ عديد من المديرين، كل حسب سنه، علاقات ثقة معقدة عبر الإنترنت من قبل، ولم يكن لديهم تطبيق المراسلة "إيه أو إل" (AOL Instant Messenger)، أو أصدقاء على شبكة "تمبلر" (Tumblr)، كما لا يمكنهم تصوّر إيجاد شريك حياتهم عبر تطبيقات تعارف مثل "أوكيه كيوبد" (OkCupid)، أو "تيندر" (Tinder). تماماً كما لن يتفهّم الموظفون الشباب إمكانية بناء صداقة أو الوقوع في الحب عبر البريد العادي.

فجوة بين عالمين

علّق إليوت: "هناك تشبيه ساد أوائل الألفية حول حلبة الرقص والشرفة... إذ يوجد الأفراد الفاعلون على حلبة الرقص، وعلى الإداريين أحياناً الصعود إلى الشرفة لتغيير منظورهم ورصد النقاط المظلمة والأصوات الغريبة أو الأخطاء الأخرى".

في بعض الأحيان، يجب أن ينزل الإداريون إلى حلبة الرقص ليعيشوا التجربة، لكن ساحة الرقص تغير مكانها اليوم، فالمكاتب لم تعُد ساحة الأحداث منذ زمن، ويترسخ هذا الآن أكثر من أي وقت مضى.

بعبارة أخرى، يراقب الإداريون التنفيذيون ساحة الرقص القديمة وهي فارغة فيقلقون، ويُترك للمديرين المتوسطين مهمة إقناعهم بأهمية ما يحدث هناك دون أن يروه، وهذا ليس سهلاً.

أحد الأسباب العديدة لذلك نجده في تقرير أصدرته "فيوتشر فورم" هذا الخريف، بيّنت فيه أن المديرين المتوسطين هم من أبلغ عن انهيار التوازن بين العمل والحياة الشخصية للموظفين، وعن ارتفاع مستويات القلق بينهم خلال العام الماضي.

النساء يغادرن الوظائف القيادية في الولايات المتحدة بشكل قياسي

سواء كان سبب الفجوة التقنية هو كثرة أدوات التواصل، أو نقص التدريب على استخدامها، أو توجيه الإداريين أنظارهم إلى الحلبة الخطأ، فإن الدلائل تشير إلى غياب أكبر للشفافية المؤسساتية في كيفية عملنا وفي أساليب تواصلنا في أثناء العمل، وأيضاً في إدراك المسؤوليات التي يتحملها كلّ منا لإنجاز المهام.

على المؤسسة أن تسأل نفسها كل بضع سنوات، وخصوصاً لدى إدخال تقنيات جديدة على سير العمل: كيف يتغير أسلوب عملنا مع مرور الوقت؟ من منا يبدو أنه لا يزال يعاني صعوبات في الأساسيات المستخدمة؟ كيف نستطيع تحديد هذه الثغرات ومعالجتها دون إحراج أحد أو فضحه؟

ثم تأتي أهمية أن تحدد المؤسسة أنماط التواصل الحالية التي يتبعها الناس، ووضع معايير شفافة لكل منها بحيث لا تتكرر المراسلات بشكل غير مبرر ومن ثم تُتجاهل، كما يمكن للموظفين تطوير إيقاع يسمح لهم بأداء أعمالهم بدل إمضاء أوقاتهم في الرد على الرسائل.

مراعاة الآخرين

غرض رسائل البريد الالكتروني على سبيل المثال هو إعلام الموظفين بأمر ما، وتُخصص غرف المحادثة في "سلاك" لنقاشات عامة ضمن فريق ما، كما تترك الرسائل المباشرة للاستفسارات السريعة التي يجب تحديد مستويات لدرجة إلحاحها، أما المكالمات الهاتفية إن لم تكن مسبقة الترتيب فهي لطارئ الأمور فقط. حين يرفض أحد التزام هذا النظام فيجب أن يقومه المدير.

يخفف هذا الوضوح في الوسائل المستخدمة القلق من فقدان التواصل، فيتحقق المرء من بريده الالكتروني مرتين يومياً بدل أن يفعل ذلك كل عشرين دقيقة. يسمح للموظفين بتحديد أولويات تفقُّد أدوات الاتصال المختلفة، بدل إرهاق أنفسهم تنقلاً بين واحدة وأخرى.

الموظفون يحتفظون بموقفهم القوي في سوق العمل رغم مخاوف الركود

يسهل ذلك في الوقت نفسه اندماج الموظفين الجدد في ثقافة التواصل القائمة في المؤسسة، ويوفّر عليهم الضياع في البداية، وبذلك يلعب دور سور يحمي سير العمل، ويقسم المهام الوظيفية حسب كل تقنية واستخداماتها، وليس وفقاً لأهواء الأفراد.

يصل بنا التركيز المتعصِّب على إنتاجنا الفردي والحفاظ على ما نفضل إلى آلية عمل ذات ثغرات، تجد فيها دوماً من يسعى إلى سدها مستجيباً للخلل بغية إصلاحه، وهم في معظم الأحيان أشخاص يعملون بصمت دون أجر إضافي.

تقنية تريحنا

قد يسهل رفضنا للتعلم وعنادنا حيال إيجاد حلول وسطية حياتنا، لكنه يصعب حياة زملائنا في العمل على نحو ملحوظ، فإن كنت من دعاة المساواة في فضاء العمل فإن الوقت حان لتكفّ عن معاملة زملائك في العمل دونما تعمّد كما لو كانوا موظفي دعم تقني في الشركة.

إن سئمت عدم حدوث الأشياء من تلقاء نفسها، خذ وقتك لتتعلم فعلها بنفسك، بحيث تتوقف عن تمرير المهام دون قصد لآخرين. إن كنت تقنع نفسك بأن زملاءك لا يمانعون بذلك فعليك أن تعلم أنهم يمانعون قطعاً.

5 نصائح للترقي المهني في 2023 رغم الركود ببريطانيا

قالت لي سيدة إنها الوحيدة في فريقها التي تقاوم الانتقال لاستخدام التقويم الالكتروني منذ زمن، وإن مديرها في لحظة ما أخبرها بصراحة أنها تُفسِد الأمر على فريقها. قالت إن هذا هو كل ما احتاجت إلى أن تسمعه، فإنّ القرار الذي اعتقدت أنه يهمها وحدها تبين أنه في الواقع يؤثر في الجماعة.

هنالك كثير من العوامل المسببة لهذا الانقطاع التقني، فمجرد ظهور تطبيق جديد لامع لا يعني بالضرورة أن على الجميع أن يبدأوا باستخدامه، بل يتوجب على الموظفين والمديرين والتنفيذيين تفحُّص مقاومتهم وتجنبهم ورفضهم لما هو حديث، وطرح السؤال: هل يفسد تعنتي الأمر على الجميع؟