بريطانيا تخطئ التعامل مع ارتفاع تكلفة رعاية الأطفال

ترتفع الأصوات المطالبة بإصلاح نظام رعاية الأطفال في بريطانيا مع ازدياد تكلفة الحضانات

مسيرة احتجاج في لندن للمطالبة بتحسين رعاية الأطفال وإجازات الوالدين ومرونة سياسات العمل
مسيرة احتجاج في لندن للمطالبة بتحسين رعاية الأطفال وإجازات الوالدين ومرونة سياسات العمل المصدر: أ.ب/سيبا
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

تبرز بين الهموم التي تقضّ مضاجع البريطانيين قضية لم يأتِ بها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي درجت تسميته "بريكست".

لقد تعالت الأصوات تنادي بالتصدي لارتفاع تكلفة رعاية الأطفال ممن لم يبلغوا سنّ المدرسة بعد، ويأتي ذلك قبل الانتخابات العامة المرتقبة في غضون سنتين. لكن لا حلّ سحري في نظام تهيمن عليه مؤسسات خاصة. فيما يُرجح أن يتطلب أي إصلاح جدّي ضخّ أموال عامة، فيما يسعى رئيس الوزراء ريشي سوناك لحدّ الإنفاق كبحاً للتضخم.

ريشي سوناك محافظ جديد من الطراز القديم

يبلغ متوسط تكلفة إدراج طفل في حضانة بدوام كامل في بريطانيا حوالي 14 ألف جنيه إسترليني (17 ألف دولار) في السنة، وقد تصل إلى ضعفيّ هذا المبلغ في لندن ومدن أخرى، فيما لا يتجاوز معدل دخل الأسرة بعد حسم الضريبة 32 ألف جنيه إسترليني.

يجعل هذا بريطانيا في صدارة الدول الأغلى لناحية رعاية الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السنتين والثلاث سنوات قياساً إلى الأجور بين 38 دولة عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

تتوفر إعانات وإعفاءات ضريبية مبكرة للأشخاص المؤهلين للاستفادة منها، كما أنه مع بلوغ الطفل سنّ الثالثة، تصبح جميع العائلات مؤهلة للحصول على نوع من أنواع المساعدة، إلا أن سبر أغوار نظام الإعانة ليس سهلاً.

تراجع عمل النساء

تفاقم هذه التكلفة الباهظة مواجع البريطانيين في ظلّ ارتفاع أسعار كافة السلع الأخرى، وتقوّض تطوراً تحقق على مدى عقود على صعيد استقطاب النساء إلى سوق العمل.

أظهر تحليل بلومبرغ بزنيسويك لبيانات صادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية ارتفاعاً في عدد النساء اللائي استقلن خلال سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر ليعتنين بالمنزل أو الأسرة مقارنة بالفترة عينها من 2021، وكان الارتفاع أشد مقارنة مع سنة أخرى منذ 1994 على الأقل.

حذّرت ساره رونان التي تقود المنظمة غير الربحية "وومن بَجت غروب" (Women’s Budget Group) التني تعنى بالتربية في مرحلة الطفولة المبكرة والعناية بالأطفال من أنه "في حال لم يدرك السياسيون أن هذه المسألة ستكون حاسمة في الانتخابات، سيواجهون أهالٍ غاضبين جداً".

ظهر امتعاض الأهالي جلياً في يوم سبت من أكتوبر حين احتشد 15 ألف شخص في 11 موقعاً ليشاركوا في مسيرة الأمهات للمطالبة بإصلاح نظام رعاية الأطفال وإجازات الأمومة والأبوة وبتدابير عمل أكثر مرونة.

"بريكست" يكلف بريطانيا 124 مليار دولار كإنتاج مهدر سنوياً

سرعان ما بدأ البرلمان تحقيقاً في المسألة فأصبحت في صدارة النقاش السياسي.

ينصح الاتحاد الصناعي البريطاني الحكومة بتوسيع نظام ساعات رعاية الأطفال المجانية المخصصة حالياً للأطفال في عمر 3 و4 سنوات، ليشمل أيضاً الأطفال في عمر سنة وسنتين. تقول مجموعة الضغط إن من شأن ذلك أن يمكّن مزيداً من النساء من العودة إلى العمل.

من جهتهم، يرى المنادون بإصلاح نظام رعاية الأطفال أن التغيير أساسي لمصلحة الأهل والاقتصاد على حدّ سواء، فيما يستعد الاقتصاد البريطاني لمواجهة أسوأ سنتين له مقارنة بالدول الصناعية الكبرى الأخرى، مع ترجيح انزلاقه إلى ركود في 2023، وتسجيل أبطأ نسبة نموّ مقارنة بأقرانه من الدول في 2024، حسب توقعات صندوق النقد الدولي.

كانت دراسة نشرتها مجموعة "برايس ووتر هاوس كوبرز" في 2022، وجدت أن الناتج المحلي البريطاني قد يرتفع بمقدار 177 مليار دولار سنوياً في حال زيادة معدل عمالة النساء ليوازي المعدل المسجل في السويد التي تعدّ دولة رائدة على صعيد توفير رعاية للأطفال في عمر الطفولة المبكرة.

تجارب دول أخرى

لطالما واجهت الحكومات المحافظة في بريطانيا مطالبات بإصلاح نظام رعاية الأطفال، إلا أن حلولها لم ترقَ قطّ إلى مستوى الإصلاحات الجوهرية التي يطالب بها المعترضون. ردّت وزارة التربية برسالة إلكترونية على أسئلة طُرحت عليها قائلة إنها تنظر في "خيارات تحسين تكلفة رعاية الأطفال ومرونتها وتوافرها" دون أن تعطي تفاصيل.

في غضون ذلك، يرزح سوناك تحت ضغوط من حزبه كي يطرح مبادرات جريئة أمام الناخبين، لكنه لم يقترح حتى الآن أي مبادرة على صعيد السياسات. كان عدد من النواب المحافظين المؤثرين قد أنشؤوا مجموعة ضغط غير رسمية لحثّ مستشار الخزانة جيريمي هنت على تناول مسألة ارتفاع تكلفة رعاية الأطفال في الموازنة السنوية للحكومة التي ستصدر في 15 مارس، والتي سيحدد فيها السياسات المالية للخزانة والقرارات الضريبية للسنة المالية الجديدة التي تبدأ في أبريل.

تتضمن مقترحاتهم تغيير نظام الإعانة وتسهيل قوانين التوظيف من أجل تخفيف العبء الضريبي على مقدمي خدمات حضانات الأطفال النهارية.

بريطانيا تتراجع بعد الصين والسعودية في مؤشر صحة المرأة

فيما تعهَّد حزب العمال بإحداث تحوّل شامل في نظام رعاية الأطفال إن فاز بالانتخابات، وهو ما ترجحه استطلاعات الرأي الحالية، إذ يسعى الحزب لتوفير رعاية الأطفال ابتداءً من تاريخ انتهاء إجازة الأمومة والأبوة حتى عمر 11 سنة.

سيتطلب ذلك استثماراً ضخماً في رعاية الطفولة المبكرة عبر توفير مزيد من الساعات المجانية وزيادة عدد وجبات الفطور المجانية ونوادي ما بعد أوقات المدرسة. كانت المتحدثة باسم شؤون التربية في الحزب بريدجيت فيليبسون قد بدأت بجمع معلومات من بعض الدول الأخرى.

زارت فيليبسون العام الماضي إستونيا، التي تمكنت من تحقيق نتائج تربوية مبهرة رغم أن تكلفة رعاية الأطفال فيها هي من الأدنى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما ذهبت إلى أستراليا في فبراير للاطلاع على إجراءات رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز المنتمي إلى حزب العمال، وقد مكّنته تعهداته حول رعاية الأطفال من إعادة حزبه إلى السلطة بعد نحو عقد في المعارضة.

سطوة القطاع الخاص

تملك الشركات الخاصة أكثر من ثلثيّ حضانات الأطفال في بريطانيا، فيما تملك الثلث الآخر جمعيات خيرية ومجالس محلية ومدارس تديرها الدولة.

يتغير مُلّاك هذه المؤسسات الخاصة بسرعة مطردة، ويرافق ذلك غالباً زيادات في الأسعار ومزيد من عدم الاستقرار. قالت شركة السمسرة العقارية "نايت فرانك" (Knight Frank) إن حجم الصفقات ارتفع سبعة أضعاف بين 2019 و2021، لتصل قيمتها الإجمالية إلى 57 مليون جنيه إسترليني.

اعتقدت أبيغيل نيت-ويلسون التي تعمل موظفة مالية في شركة صغيرة في غلاسكو أنها تمكنت من تحصيل رعاية بسعر مقبول لابنها البالغ من العمر سنة واحدة في إحدى الحضانات في مطلع العام مقابل 42 جنيهاً استرلينياً في اليوم.

لكن استحوذت شركة أخرى على المؤسسة ورفعت الأسعار بحوالي 30% قبل أن يبدأ بارتياد الحضانة، فاضطرت المرأة لزيادة عدد أيام عملها لتتمكن من تغطية التكلفة، وطلبت من جدّة الطفل التي تعاني من داء المفاصل أن تساعدها على الاهتمام به. قالت: "كان هذا آخر حلّ لديّ".

بعد الجائحة.. العاملات في مجال رعاية الأطفال يتركن القطاع إلى الأبد

قالت أنتونيا سيمون، الأستاذة المساعدة في كلية لندن الجامعية التي شاركت أخيراً في إعداد دراسة عن القطاع، إن الحضانات الخاصة الكبرى تعتمد بشدّة على الاستدانة وتركز في الأساس على عوائد قصيرة الأجل، ما يثير مخاوف حيال استقرارها المالي. أضافت: "هذه ليست مؤسسات تجارية عادية. يتعلق الأمر بحياة الأطفال، إنها مسألة أخلاقية".

عقدت شركة حضانات "ويلكوم" (Welcome) التي كانت حتى بداية 2022 رابع أكبر شركة لدور الحضانة في البلاد لديها أكثر من 5 آلاف فرع تابع لها اتفاقية إعسار اختيارية في أغسطس قضت ببيع معظم فروعها إلى مجموعة "هارب" (Harp Group) وهي شركة جديدة في مجال استثمار الحضانات.

كانت "ويلكوم" قد توسّعت سريعاً إلا أنها تعثرت في تغطية التكاليف التي تكبدتها وفي تسديد الديون التي تراكمت عليها نتيجة استحواذاتها قبل الوباء.

رفضت اثنتان من كبرى مجموعات الحضانات في المملكة المتحدة "برايت هورايزنز" (Bright Horizons) و"كيدز بلانت" (Kids Planet) التعليق على مدى توفر خدمة رعاية الأطفال بأسعار ميسرة في البلاد والاستقرار المالي لمشغليها في القطاع الخاص.

كما لم تستجب الشركات الكبرى الأخرى "هارب غروب" وحضانات "بيزي بيز" (Busy Bees) و"مونكي بازل داي" (Monkey Puzzle Day) لطلب التعليق.

نظام معقد

أنفقت الحكومة حوالي 5.3 مليار جنيه إسترليني حتى 2021 على التربية في عمر الطفولة المبكرة ورعاية الأطفال، ذهب معظمها لتمويل إعانات تسجيل الأطفال في دور الحضانات النهارية، حسب معهد الدراسات المالية.

يوازي هذا المبلغ 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي ويتماشى تقريباً مع المعدل العام في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلا أن المطالبين بإصلاحات في نظام رعاية الأطفال يعتبرون أن المشكلة تكمن في طريقة توزيع بعض هذه الدعم.

تغطي الحكومة ثلثيّ تكلفة عدد من ساعات الرعاية المجانية للأطفال بين عمر 3و 4 سنوات، فاسحة المجال أمام الحضانات الخاصة لتعويض الفارق عبر تقاضي رسوم أعلى من الزبائن غير المؤهلين للحصول على إعانات، حسب تحليل جمعية "أيرلي ييرز ألاينس" (Early Years Alliance) الخيرية لطلبات مقدمة وفقاً لقانون يضمن حرية الاطلاع على المعلومات.

يتسم هذا النظام بالتعقيد أيضاً، فبحسب معهد الدراسات المالية ثمّة ثماني مبادرات على الأقل تهدف إلى دعم قطاع تربية الأطفال في عمر الطفولة المبكرة في إنجلترا وتوفير الإعانات المالية له، وغالباً ما يتعين على الأهل أن يقوموا بالبحوث بأنفسهم وأن يتقدموا بالطلبات وإلا لن يستفيدوا من هذه الخدمات.

يقول دعاة إصلاح نظام رعاية الأطفال إن السياسة التي بدأت الحكومة تطبيقها في 2017 لتوفير 30 ساعة من الرعاية المجانية لبعض الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و4 سنوات تشكل مثالاً جيداً على عدم كفاءة النظام.

بيّنت جمعية "كورام" (Coram) الخيرية المعنية بالأطفال أنه كي تستفيد الأسرة من كامل الإعانة، يجب أن يكون الوالدان يعملان في وظائف يتقاضيان فيها الحدّ الأدنى للأجور أو أكثر مقابل 16 ساعة عمل في الأسبوع على الأقل. هذا يقصي بالتالي من يعملون بموجب عقود عمل مؤقتة بلا عدد ساعات محددةً سلفاً.

اكتشفت إيزابيل روترز، وهي أم لثلاثة أطفال تقيم في مانشستر الكبرى، أنها لم تعد تستطيع الاستفادة من إعانات الثلاثين ساعة المجانية حين خفضت ساعات عملها كي تتلقى تدريباً لتصبح ممرضة، فاضطر زوجها الذي يعمل مسعفاً أن يعمل بورديات إضافية في المساء وعطلة نهاية الأسبوع ليغطي التكاليف وقد أرهقهما ذلك.

قالت روترز إنها تشعر بأنها تُعاقب على سعيها للعمل في مجال الرعاية الصحية، وهو قطاع يعاني أزمة نقص موظفين، معتبرة السياسات المتبعة غير منطقية. قالت: "أعتقد أننا كدولة أخطأنا التعامل مع الأمر".