التنمية الاقتصادية قصة خيالية في الدول الفقيرة

الفجوة تزداد بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان النامية مقابل نظيرتها الغنية

مجموعة من النساء والأطفال في منطقة كارابيلو الفقيرة بدولة بيرو.
مجموعة من النساء والأطفال في منطقة كارابيلو الفقيرة بدولة بيرو. المصدر: غيتي إيمجز
Eduardo Porter
Eduardo Porter

Eduardo Porter is a Bloomberg Opinion columnist covering Latin America, US economic policy and immigration. He is the author of "American Poison: How Racial Hostility Destroyed Our Promise" and "The Price of Everything: Finding Method in the Madness of What Things Cost."

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

كانت أميركا اللاتينية بقعة فقيرة للغاية من العالم في 1980. فلم يكن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها يتعدى 42% من حصة المواطن العادي فيما تُسمى بــــمجموعة الدول السبع الغنية التي كانت تحكم وتتحكم في الكوكب حينها.

ثم طرأت تغيرات كثيرة دفعت الحكومات من بوينس آيرس إلى مكسيكو سيتي إلى إحداث تغيير جذري في السياسات الاقتصادية التي اتبعتها على مدى نصف قرن، وكان الاقتصاد يعتمد فيها على الدولة، وسياستها الاقتصادية تنصب على القطاعات المحلية.

من هذه التغييرات تقليص الدول للميزانيات، وبيع المؤسسات العامة، كما فتحت أبوابها أمام التجارة ورأس المال الأجنبي. وانفتحت على الخارج، حيث ربطت المكسيك، على سبيل المثال، اقتصادها مع الولايات المتحدة من خلال اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا). وارتبطت البرازيل والأرجنتين نوعاً ما عبر السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور). ولم تفوت الصين هذه الفرصة، فانقضت لشراء سلع المنطقة.

لكن بعد كل هذا، بلغت حصة الفرد من الناتج المحلي في أميركا اللاتينية خلال العام الماضي 29% مقارنة مع نظيره في دول مجموعة السبع.

تراجع كبير في التنمية

قبل أن نُلقي باللوم في ذلك على عدم كفاءة أميركا اللاتينية، يتعين وضع ما يلي في الاعتبار، أولاً: انخفض الانتاج الاقتصادي للمواطن العادي في أفريقيا من 17 إلى 10% مقارنة بمثيله في العالم الغني خلال تلك الـ42 عاماً قياساً بتكافؤ القوة الشرائية، كما هوى متوسط ​​نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الشرق الأوسط من 114% إلى 41% مقابل متوسطه للفرد في دول مجموعة السبع.

"تحويل الطاقة إلى غذاء" فرصة الشرق الأوسط ليصبح سلّة غذاء العالم

في الواقع -وباستثناء جنوب وشرق آسيا- تراجعت التنمية على مدى الجيل الماضي في معظم البلدان التي لم تصبح غنية بعد. وفشل التقارب الاقتصادي الذي اعتاد الاقتصاديون تصور ه على أنه ثمرة حتمية لتلاقي رأس مال العالم الغني بالعمالة الرخيصة بالعالم الفقير في أن يصبح واقعاً ملموساً في كثير من الأماكن، بحيث لا يُعتبر غيابه مجرد صدفة.

فترات النشوة والأحلام الجامحة -مثل العقد الذي بدا فيه أن الصين تشتري كل ما يمكن أن تنتجه أميركا الجنوبية من الحديد والنحاس وفول الصويا واللحم- انتهت على جعجعة بلا طحن إلى حد بعيد. كما أن المساعي التي رُوج لها على أنها مضمونة النجاح -مثل ربط الاقتصاد المكسيكي بأغنى وأكبر سوق استهلاكية عالمياً- فشلت في تحقيق رخاء واسع النطاق.

نتائج غير مرضية

بعض القصص الأكثر إيجابية كانت متواضعة المردود نوعاً ما. فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في الهند من 5 إلى 13% مقارنة بنظيره في مجموعة السبع، وفيتنام من 5 إلى 21%. وارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الصين، التي تمثل ذروة النجاح الاقتصادي القائم على التصدير في الآونة الأخيرة، من 3 إلى 33% من متوسط ​​مجموعة الدول السبع. ويُعد هذا تقدماً في حد ذاته، لكنه لم ينقل الصين إلى مصاف الدول الغنية رغم ذلك.

الصين تدرس إعلان هدف 5% للناتج المحلي مع تحول التركيز للنمو

يثير السجل المحبط للعديد من محاولات إصابة هدف التنمية أسئلة على الاقتصاديين أن يحاولوا الإجابة عليها بصدق، بدلاً من التملص والمراوغة والتلعثم، وتلك الأسئلة هي: هل هناك مسار تنمية ممكن لعالم الفقراء؟ كيف يبدو؟ وماذا سنفعل إذا لم نجده؟

دعونا لا نذهب إلى ما ذهبت إليه شركة "ماكنزي" للاستشارات من أن الاستثمار في رأس المال البشري ضروري لزيادة الإنتاجية، والانضمام إلى سلاسل القيمة العالمية. فهذا لن يساعد البلدان التي لا تستطيع تحمل تكاليف إرسال جميع أطفالها إلى المدرسة الثانوية، ناهيك عن الجامعات. ووفقاً لدونالد رامسفيلد، فإن الدول الفقيرة بحاجة إلى استراتيجيات لتنمية وتطوير العاملين لديها، وليس للذين قد تفضلهم الشركات الاستشارية.

هل يحل التصنيع المعضلة؟

تكمن المشكلة بالنسبة للاقتصاديين -الذين لا يتجاوز تعاطيهم مع هذه القضية مجرد التشجيع والحض على "التجارة الحرة" و"الحكم الرشيد" دون تقديم حلول قابلة للتطبيق- في أن سجل التنمية والقواعد والاستراتيجيات التي طُبقت على مدى العقدين الماضيين لا تقدم سوى القليل من السوابق التي قد تكون مفيدة وملهمة في العالم الجديد.

قد يثور سؤال: ماذا عن التصنيع؟، وإجابته تكمن في اليابان وكوريا، ونمور شرق آسيا والصين، وألمانيا ما بعد الحرب. فعلى مدار قرابة 100 عام، قدم التصنيع من أجل التصدير إلى حد بعيد الاستراتيجية الوحيدة الناجحة لجلب الرخاء على نطاق واسع إلى البلدان الفقيرة في العالم.

المنتجون لا يكترثون لمخاوف الركود وخطط الإنفاق خير دليل

هذه ليست مصادفة. فالتصنيع لديه قدرة فريدة على رفع الإنتاجية وزيادتها حتى بالنسبة لعمال المزارع الأقل تعليماً، ممن يحتاجون فقط إلى إقامة مصنع لإنتاج قمصان أو ألعاب بلاستيكية وسط الحقول لتنمية مواردهم. فالصادرات تساعد على تخطي السوق الاستهلاكية المحلية الصغيرة. ويمكن للدخل من هذه الشركات أن يدفع مقابل الاستثمار في رأس المال البشري والمدخلات الأخرى للارتقاء في سلسلة القيمة.

الأتمتة تهدد الوظائف

مع ذلك، فإنه حتى أكثر الاستراتيجيات نجاحاً في الماضي بات محكوماً عليها بالفشل فيما يبدو. والسبب واضح وهو الأتمتة. فلم يعد الاقتصاد الصناعي بحاجة إلى العمالة، خاصة من النوع الرخيص غير الماهر.

لا يقتصر هذا فقط على الولايات المتحدة، التي يبذل الرئيس الأميركي جو بايدن جهوداً حثيثة فيها لزيادة الوظائف بقطاع التصنيع. فالعمالة تتقلص في هذا القطاع على مستوى العالم. وفي جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، انخفضت وظائف التصنيع إلى 9% من إجمالي العمالة في 2018، قبل جائحة كوفيد-19، مقارنة بـ14% في 1990، وتراجعت في نيجيريا إلى 7% بدلاً من 12%.

"غوغل" تعتزم تسريح 12 ألف موظف وتخفض قوتها العاملة 6%

ورغم كل ما وعدت به اتفاقية (نافتا)، كان 17% فقط من العمال المكسيكيين يعملون بمجال التصنيع في 2018، انخفاضاً من 20% خلال 1990. بل إن حصة التصنيع من العمالة في الصين انخفضت من ذروة بلغت 22% في 1995 إلى 19.5% في 2018.

لسوء الحظ، فإن ما يتعين أن تقدمه الدول النامية هو في الغالب عمالة رخيصة وأقل مهارة. وإذا كانت مكافآت الأربعين عاماً الماضية عن هذا المورد تبدو متواضعة، فإن الأجيال الجديدة من التكنولوجيا الموفرة للعمالة والقائمة على الذكاء الاصطناعي ستجعل الأربعين عاماً المقبلة أكثر صعوبة.

الاقتصاد الحضري يهدد لزراعة

الزراعة ليست ببعيدة أيضاً عما طال الصناعة. فرغم الثقة التي تضعها البرازيل في فول الصويا ولحم البقر والاهتمام الذي توليه بهما، إلا أن زيادة الإنتاجية في الزراعة تدفع الناس إلى التسرب من الحقول للبحث عن وظائف في الاقتصاد الحضري.

لا تستطيع الاقتصادات القائمة على المواد الخام تحقيق النتيجة المرجوة، وهو درس لا تمل بلدان أميركا اللاتينية من تعلمه مراراً وتكراراً. فهي توظف عدداً قليلاً من الأشخاص وتقدم سبل ربط محدودة مع قطاعات أخرى من الاقتصاد. وربما تحفز هذه الاستراتيجيات الصادرات وتفيد قلة من الناس، لكن معظم العمال، وخاصة الأقل تعليماً، سيتخلفون عن الركب.

الاستثمارات العالمية الخضراء تتجاوز تريليون دولار للمرة الأولى

على الرغم من أن صانعي السياسات من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية قد يعلقون آمالاً كبيرة على أن تفتح معركة تغير المناخ مسارات جديدة للتنمية، فإن صرخة "لماذا نصدر الليثيوم إذا كان بإمكاننا تصدير بطاريات أيونات الليثيوم؟" لن تصطدم فقط بالحواجز القديمة المتمثلة في نقص رأس المال والمعرفة، والتي خرجت من رحمها نظرية التبعية في الستينيات، ولكن أيضاً بنظريات جديدة أفرزتها الأتمتة.

سياسات تعرقل العالم النامي

في الواقع، من المرجح أن يؤدي مسعى العالم الغني للتخلص من الكربون إلى تقويض خيارات التنمية للعالم الفقير، إذ سيحد من وصول بلدانه إلى الطاقة الرخيصة ويقيد واردات الأسواق المتقدمة مما قد تعتبره موارد "ملوثة".

إذا أضفنا إلى ذلك المزيج سياسات "اشترِ الأميركي" و"التقريب" (الذي يعني نقل العمال من البلدان البعيدة إلى أخرى قريبة) ومحاولات الولايات المتحدة الأخرى للتراجع عن الاقتصاد المعولم، فسيجد العمال في العالم النامي أنفسهم في وضع حرج.

كندا متخوفة من سياسة "اشتر الأمريكي" بعد عرقلة أنبوب "كيستون" النفطي

بحث داني رودريك من جامعة هارفارد هذه العلاقة والترابط بين المشكلات أكثر من غيره. وكتب عما يسميه تراجع التصنيع المبكر، واستكشاف طفرات النمو في بعض البلدان الأفريقية، والتي فشلت في توليد العديد من الوظائف العالية الإنتاجية، وقيم كيف أظهرت سلاسل التوريد العالمية أنها ليست ذات فائدة تذكر لوفرة عمالتها الرخيصة.

ما خلص إليه بعد دراسة البدائل لا يدعو للتفاؤل إلى حد بعيد، وهو أنه يتعين على البلدان النامية أن تكتشف كيفية بناء التنمية بحيث تتمحور حول شركات الخدمات المحلية، التي تستوعب معظم عمالها. لأنه لا يوجد بديل آخر هناك. وهذا هو "الحل الوحيد المتاح"، على حد تعبيره.

مسار غير واضح للاقتصاد

يبدو الطريق غير واضح، فهناك هناك حاجة إلى سياسات لزيادة إنتاجية قطاع غير منتج نسبياً لديه القليل من الحوافز للتطور. وهذه الشركات بشكل عام صغيرة، وغالباً ما تكون غير خاضعة للوائح التنظيمية الرسمية -مثل تجار التجزئة والمطاعم وربما عيادات وفنادق- ومقيدة بقاعدة مستهلكين محليين ضعيفة واستثمارات محدودة، سواء أجنبية أو محلية.

يتعين على الحكومات في العالم الفقير أن تطور سياسات صناعية بشكل أساسي، ولكن من أجل الخدمات. فإذا وجد عدد كافٍ من هذه المشروعات الصغيرة سبيلاً للدخول تحت مظلة الاقتصاد الخاضع للتنظيم والنمو وتعزيز التوظيف؛ سيتمكن حينها من ترسيخ طبقة محلية متوسطة من شأنها توفير سوق محلية أكبر لخدماتها.

ختاماً، ومع انطلاق المحاولات، تبدو هذه المهمة طويلةً للغاية. قال رودريك "إنها لا تجعل النمو والتنمية مستحيلاً. المستحيل هو معجزات النمو السريع للغاية التي نراها". لكن أكثر ما يمس الحقيقة رغم إيلامه هو تحذيره "إذا لم تفعلوا ذلك، فسيكون الأمر أسوأ". والسؤال الآن هو: كيف سيتعامل العالم مع الفقر باعتباره مصيراً لا مفر منه؟