طموحات الهيدروجين الأخضر في تشيلي تزدهر

سلّمت محطة نموذجية تعمل بالرياح أول دفعة من الوقود الاصطناعي في ديسمبر

عاملان في وحدة تحويل الميثانول إلى بنزين يتحققان من تدفق المياه إلى منقّي الكربون النشط، في بونتا أريناس، تشيلي.
عاملان في وحدة تحويل الميثانول إلى بنزين يتحققان من تدفق المياه إلى منقّي الكربون النشط، في بونتا أريناس، تشيلي. المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ
تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

زوّار بونتا أريناس في تشيلي، وهي من أقصى مدن العالم جنوباً، يتعين عليهم أن يحذروا رياحها التي تهب بسرعة 120 كيلومتر في الساعة ويسهل أن تطيح بالمشاة غير المتيقظين. في موسط المدينة تجد حبالاً مربوطة بين بعض المباني كي يتشبث بها الناس إن ضربت عاصفة.

إن الاستفادة من الرياح القوية في تشيلي بند مهم في خطط الرئيس غابرييل بوريك، الذي تولى الحكم منذ عام تقريباً وتعهد بإحداث تحوّل أخضر في اقتصاد البلاد الذي يعتمد على الوقود الأحفوري وتعدين النحاس.

تشكّل الطاقة المتجددة أكثر من نصف استطاعة توليد الكهرباء في البلاد، ومن المقرر أن يستمر ذلك بالارتفاع حيث تعمل الحكومة على إغلاق أو إعادة استخدام جميع المحطات العاملة على الفحم بحلول 2040 على أقصى تقدير.

كما تسعى تشيلي لجذب مستثمرين من القطاع الخاص لتسخير الرياح لأغراض تجارية، جزئياً لغرض تخفيف وطأة جهود تحول الطاقة على بعض المجتمعات.

إنفوغراف: تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر حول العالم

قال وزير الطاقة دييغو باردو: "لأن عديداً من صناعاتنا، مثل النفط في الجنوب والفحم في الشمال، تتلاشى ببطء في هذا العالم الأخضر، علينا تقديم بديل لهذه المجتمعات كي تستمر بالعمل وتحقق استقراراً اقتصادياً".

يقع مشروع "هارو أوني" (Haru Oni)، النموذجي الذي بلغت تكلفته 74 مليون دولار، على بعد نحو 40 كيلومتراً إلى الشمال من بونتا أريناس، وهو ثمرة جهود التحوّل هذه. في مكان ليس فيه إلا الشجر، تقوم عنفات رياح عملاقة على مجموعة مباني، يضم أحدها محللاً كهربائياً، وهو جهاز يقسّم جزيئات الماء إلى أكسجين وهيدروجين.

يُطلق الأول في الغلاف الجوي، بينما يُلتقط الهيدروجين ويُدمج مع ثاني أكسيد الكربون لإنتاج الميثانول، وهو بديل للبنزين أنظف منه احتراقاً.

تشترك في المشروع شركتا "سيمنز إنرجي" (Siemens Energy) و"بورشه" (Porsche) الألمانيتين، إلى جانب شركة الطاقة الإيطالية "إينيل" (Enel)، وقد أُعلن عنه في 2020 وبدأ تشغيله نهاية العام الماضي.

مشروع "هارو أوني" يعتمد على الرياح للمساعدة في إنتاج وقود صناعي.
مشروع "هارو أوني" يعتمد على الرياح للمساعدة في إنتاج وقود صناعي. المصدر: بلومبرغ

نصنع المستقبل

قالت كلارا بومان، رئيسة العمليات في "إتش آي إف غلوبال" (HIF Global)، المطوّر الرئيسي للمشروع: "أي شيء نفعله اليوم فيما يتعلق بالمواد البترولية والوقود الصناعي قد يصنع المستقبل. سواء أكان في مجال البلاستيك أو المواد الكيميائية أو النقل، سنتمكن من استبدال الوقود الأحفوري بشيء اصطناعي وأخضر ومُنتج باستخدام الطاقة المتجددة".

يُعرف كل الهيدروجين المنتج عالمياً تقريباً على مستوى الصناعة باسم "الرمادي"، بمعنى أنه يُستخرج باستخدام الوقود الأحفوري، أي الغاز الطبيعي في المقام الأول لكن ذلك قد يشمل الفحم أيضاً، وزبائنه الرئيسيون هم مصافي الديزل ومنتجو الأسمدة.

في المقابل، يتركز كثير من الحماس لاستخدام الهيدروجين الأخضر على إمكاناته كبديل للوقود الملوّث للبيئة المستخدم في النقل، بما في ذلك السكك الحديدية والشحن.

عمالقة النفط يراهنون على الهيدروجين الأخضر لتشكيل مستقبل الطاقة

حدّدت تشيلي لنفسها هدفاً بأن تصبح واحدة من أكبر ثلاثة مُصدّرين للهيدروجين الأخضر بحلول 2040.

يرى محللون في "بلومبرغ إن إي إف" أن البلاد لديها القدرة على أن تكون واحدة من أقل المنتجين تكلفة في العالم، حيث تبلغ التكلفة المعادلة بنهاية العقد الحالي 1.09 دولار لكل كيلوغرام. التكلفة المعادلة هي مقياس يمثل جميع التكاليف الرأسمالية والتشغيلية لإنتاج نوع معين من الطاقة.

قالت ناتاليا كاستيلهوس رايبل، المحللة لدى "بلومبرغ إن إي إف": "كانت حكومة تشيلي أول من وضع استراتيجية هيدروجين في أميركا اللاتينية. هذه إشارة قوية للمطورين والعملاء في المستقبل. ربما تصبح البرازيل أكبر منتج في المنطقة، لكن تشيلي تقود هذا المسار حالياً".

لدى تشيلي 41 مشروع هيدروجين أخضر قيد التنفيذ، و"هارو أوني" من بين أكثر المشروعات تطوراً في البلاد، إذ سلّم المصنع أول دفعة بنزين اصطناعي في ديسمبر الماضي، ويُزمع رفع الإنتاج إلى 130 ألف لتر بحلول نهاية هذا العام.

عميله الوحيد حالياً هو "بورشه"، التي تستخدم الوقود في مركبات تجريبية. تهدف الخطة في النهاية إلى تنويع قاعدة العملاء لتشمل شركات الشحن والطيران.

حاويات تخزين في مشروع "هارو أوني"
حاويات تخزين في مشروع "هارو أوني" المصدر: بلومبرغ

بنية تحتية بسيطة

يُنقل الوقود المنتج من "هارو أوني" 35 كيلومتراً بالشاحنات إلى ميناء للتصدير، وهذا لا يتطلب إنشاء بنية تحتية مُكلّفة من خطوط الأنابيب.

قالت بومان: "لأننا نستخدم الوقود السائل، سواء كان الميثانول أو البنزين، يمكننا استعمال السفن العادية لنقل الوقود، لذا فهو ليس باهظ التكلفة". أضافت أن الموقع الجغرافي لتشيلي يمتاز أيضاً بإمكانية الوصول منه إلى كل من شرق وغرب الولايات المتحدة، إضافة إلى آسيا وأوروبا.

قالت شركة "إتش آي إف غلوبال" إن المصنع قدم قيمة مضافة للمجتمع المحلي، حيث يشكّل سكان من بونتا أريناس أكثر من 80% من كوادره العاملة البالغ قوامها 250 شخصاً، لكن الأمر لم يلق قبولاً لدى الجميع.

إنفوغراف.. 42% من طلب الهيدروجين سيوجه لإنتاج الكهرباء في 2050

يأتي ذلك فيما تعرب المجموعات البيئية في البلاد عن مخاوف بشأن مزارع الرياح الكبيرة اللازمة لإنتاج الهيدروجين الأخضر على نطاق تجاري. قال ريكاردو ماتو، مدير مركز "لينيادورا" (Leñadura) لإعادة تأهيل الطيور: "قد تغطي عنفات الرياح كل هذه المنطقة، لكننا لا نعرف طرق هجرة أكثر من 60 نوعاً من الطيور التي تعيش في باتاغونيا... نحاول فهم كل هذا في وقت قياسي، لكن لا يمكنك فعل ذلك بعجالة. ليست الطيور وحدها، مثل الزقزاق ماجلاني المهدّد بالانقراض، هي التي قد تتأثر. قد تواجه الدلافين والحيتان الخطر أيضاً إذا زادت حركة النقل البحري في المنطقة".

نقاش المعايير

كانت كل من "إتش آي اف غلوبال" و"إينل" قد توقفتا مؤقتاً عن خططهما لإنشاء مصنع هيدروجين أخضر لأغراض تجارية بحجم أكبر في المنطقة كان من شأنه أن ينتج 66 مليون لتر من الوقود بدءاً من عام 2026.

قالت بومان: "أدركنا أنه ما يزال هناك مزيد من الحوار مع السلطات فيما يتعلق بالمعايير التي يطلبونها لهذه المشاريع. هذا أمر مفهوم لكون هذا بلا سابق".

بيّن باردو أنه واثق من أنه سيتسنى استكمال المشروع هذا العام، قائلاً: "إنها عملية تعلم. نحن نعزز الفريق المحلي بالمهنيين القادرين على المساعدة في تقييم الأثر البيئي للمشاريع".

يدرك وزير الطاقة في تشيلي تماماً أن مثل هذه المشاريع قد تختبر مدى نجاح الحكومة ذات التوجّه اليساري الأكثر تطرفاً في البلاد خلال نصف قرن في العمل برأس المال الخاص.

قال في هذا الصدد: "سنفي بالوعود التي قطعناها على أنفسنا للشركات التي استثمرت في تشيلي"، مضيفاً أن مزيداً من المنح والقروض آتية، إذ تعمل السلطات أيضاً على تخفيف قواعد استخدام الأراضي لجذب مزيد من الشركات إلى صناعة الهيدروجين الخضراء الواعدة في تشيلي.