الأجسام الطائرة لغز يحير أميركا منذ 75 عاماً

إرث الضجيج والهستيريا والخداع يقوض أي تحقيق مشروع في حقيقة تلك الأجسام المجهولة في السماء

صورة للمنطاد الصيني في المياه بعد إسقاطه.
صورة للمنطاد الصيني في المياه بعد إسقاطه.
Stephen Mihm
Stephen Mihm

Columnist at Bloomberg (http://bloomberg.com/opinion). Author of A Nation of Counterfeiters; Crisis Economics (with Nouriel Roubini). Sleep-deprived father of three.

تعديل مقياس القراءة
ع ع ع

فتح مشهد إسقاط الجيش الأميركي ثلاثة أجسام مجهولة في غضون أسبوع، الباب أمام تكهنات ونظريات مؤامرة لا أساس لها، والتي ترجع في جانب منها إلى الرسائل الحكومية المتناقضة التي تبدلت بين الإنذار الحقيقي والرفض التلقائي.

للأسف، هذا يشبه إلى حد بعيد ما حدث قبل 75 عاماً، عندما أدت مشاهدة ما أصبح يُعرف باسم الأجسام الطائرة المجهولة إلى صخب إعلامي قوّض التحقيق المشروع فيما يُعرف الآن ببساطة بالظواهر الجوية المجهولة.

هذا الإرث من الضجيج والخداع لا يزال باقياً معنا إلى اليوم. وهو أمر مؤسف، بالنظر إلى أن المشاهدات الأخيرة -التي سجلها طيارون مقاتلون حاصلون على أوسمة- دفعت الكونغرس إلى إقرار تشريع يسعى إلى حل اللغز. سيتطلب القيام بذلك أن نتجنب سخافة ترتيب الأولويات والتعتيم المتعمد اللذين اتسم بهما أول تعامل رئيسي لنا مع هذه القضية.

ظواهر جوية بدون تفسير

رغم أن مشاهدة الظواهر الجوية التي تفتقر إلى تفسير تعود لقرون، فإنه يمكن القول إن هوسنا الجماعي بالأطباق الطائرة والكائنات الفضائية و"الرجال الخضر الصغار" وغيرها من التعبيرات التي باتت مألوفة الآن بدأ في 24 يونيو 1974، عندما اكتشف رجل الأعمال والطيار كينيث أرنولد تسعة أشياء تحلق بسرعة لا يمكن تصورها بالقرب من جبل رينيير في واشنطن.

فما كان من أرنولد إلا أن أبلغ مسؤولي الطيران بذلك. وعند الضغط عليه لوصف حركة المركبة الغريبة، شبّهها بـ"طبق يعدو على الماء". انتشر هذا التقرير الأولي كالنار في الهشيم على وكالات الأنباء والخدمات الإخبارية. وحرصاً على إضفاء إحساس بالأهمية والإثارة على القصة، راح الصحفيون يطورونها بإضافة انطباعاتهم عنها، بل جاؤوا بتفاصيل من بنات أفكارهم مع مرور الوقت.

كائنات فضائية وأجنَّة معدَّلة... المستقبل سيكون أكثر غرابة مما نتوقع

في غضون أيام قليلة، حوّل الصحفيون وصف أرنولد المجازي لما رآه إلى شيء ملموس أكثر، وأطلقوا عليه اسم "طبق طائر". شكا أرنولد للصحفي المخضرم إدوارد مورو من أن الصحف "أساءت فهمه ونقلت عنه ما لم يقله"، لكن دون جدوى. وسرعان ما استحوذت فكرة الطبق الطائر على خيال الأمة، لتثير فيضاً من المشاهدات المزعومة.

زوار الفضاء يختلفون مع البشر

الثقافة الشعبية لم تكن بمعزل عن الأمر. فبعد شهر واحد، أصدر مغنيا موسيقى الريف، تشيستر وليستر بوكانان، الأغنية الأولى للاحتفاء بهذه الظاهرة: "(وين يو سي) ذوز فلاينغ سوسرز" "(When you see) those flying sausers". وتبعهما آخرون. ففي أغنية "تو ليتل مين إن إيه فلاينغ سوسر" "Two Little Men in a Flying Saucer"، تطرقت مطربة الجاز إيلا فيتزجيرالد إلى كائنات فضائية ذات "هوائيات خضراء صغيرة" لم تجد الأرض على قدر توقعاتها لتخلُص إلى أن "الأمر غريب جداً هنا".

هوليوود أدلت بدلوها أيضاً من خلال العديد من الأفلام عن زوار من الفضاء، والتي تضمن معظمها أطباقاً طائرةً. في بعض الأحيان كان راكبوها يأتون حاملين رسالة سلام (كلاتو البطل النبيل لفيلم "ذا داي ذا إيرث ستود ستيل" "The Day the Earth Stood Still". لكن في معظمها، كان الزوار الفضائيون يدخلون في خلاف مع البشر على أمر أو آخر مثلما صور فيلما "ذا ثينغ فروم أناذر وورلد" "The Thing From Another World" والفيلم الكلاسيكي "إيرث فيرساس فلاينغ سوسرز" "Earth vs. Flying Saucers".

هل فكرت يوماً أن المخلوقات الفضائية تعيش بيننا على الأرض؟

شركات التجزئة استغلت الظاهرة أحسن استغلال، فباعت ألعاباً مستوحاةً من الأطباق الطائرة وملابس نوم للأطفال عليها أطباق طائرة وغيرها من الأدوات والأشياء، بما يدل على هوسنا الجماعي بالكائنات الفضائية. كل ذلك رافقته مزاعم عن الآلاف المشاهدات لأطباق طائرة ، أو ما أشار إليه سلاح الجو على نحو متزايد باسم الأجسام الطائرة المجهولة.

الهوس الجماعي بالأطباق الطائرة

وجد ممثلو الحكومة أن الهوس الجماعي بالأطباق الطائرة محبط للغاية. وفي العلن، رفضوا التقارير، بحجة أن المواطنين العاديين صوّر لهم خيالهم الشاطح مناطيد الطقس والطائرات النفاثة والنيازك مركبات فضائية.

لكن خلف الأبواب المغلقة، أقر مسؤولون رفيعو المستوى بأن بعض الوقائع، لا سيما تلك التي أبلغ عنها طيارون عسكريون والتقطتها أجهزة الرادار، لا يمكن تجاهلها بسهولة. ففي خريف 1947، أعد الجنرال ناثان توينينغ، الذي كان وقتها رئيس قيادة العتاد بسلاح الجو، مذكرة عن هذه القضية. وبمراجعة البيانات السرية، خلص إلى أن الظواهر هي شيء حقيقي وليست خداعاً بصرياً أو خيالاً.

بايدن: لم نعرف حتى الآن طبيعة "الأجسام الطائرة" التي أسقطناها

كان توينينغ يشير بكلمة الظواهر إلى المركبات التي تتحرك بسرعة غير عادية وأظهرت معدلات قصوى من الصعود والقدرة على المناورة (خاصة في الدوران)، والحركة. وأفاد بأن هذه المركبات الجوية لا تترك أي أثر ونادراً ما تُحدث أي ضوضاء . فقد استعصت أفعالها على التفسير بالطرق التقليدية.

كان توينينغ، الذي أصبح لاحقاً رئيس أركان سلاح الجو ثم رئيساً لهيئة الأركان المشتركة في نهاية المطاف، شديد الحذر في تقييمه. والجدير بالذكر أنه لم يضرب أخماساً في أسداس بشأن كائنات فضائية أو يشغله وجودها من عدمه بقدر ما كان قلقاً من أن تكون دولة أجنبية وراءها.

محاولات عسكرية للتفسير

بدأ سلاح الجو المشروع "ساين" في العام نفسه لدراسة هذه الظاهرة عن كثب. وصدرت مذكرة أولية -تُعرف باسم "تقدير الموقف"- أخذت بجدية احتمال أن يكون بعض ما يشاهده الناس على الأقل عبارة عن مركبات بين المجموعات النجمية. لكن قادة سلاح الجو لم يتقبلوا بلطف هذا الاستنتاج المقلق، وأعادوا المذكرة لإعادة النظر فيها قبل أن يغلقوا في آخر الأمر المشروع "ساين" ويستبدلوه بالمشروع "غرادج".

لم تكن المبادرة الجديدة تحقيقاً نزيهاً مجرداً من الأهواء، وإنما كانت محاولةً متعمدةً لتهدئة القلق العام. ووصفها تقرير علمي بأنها "حملة علاقات عامة تهدف إلى إقناع العامة بأن الأجسام الطائرة المجهولة ليست شيئاً غير عادي أو استثنائي".

في حين أنه من السهل تفسير هذه المبادرات على أنها عمليات تستر وتغطية حكومية، فإن الواقع أكثر تعقيداً وإثارةً للاهتمام. وعكس تنفيذها قلقاً حقيقياً من أن مهمة التحقيق في سيل المشاهدات ستصرف الوقت والمال الثمينين عن مواجهة التهديد الأكثر إلحاحاً الذي يمثله الاتحاد السوفيتي.

بل إن خبراء استراتيجيين كانوا يخشون من أن السوفييت يخلقون هالةً من الخوف والإثارة حول الأجسام الطائرة المجهولة من أجل زيادة الضغط على الدفاعات الجوية الأميركية. وحذّر أحد محللي وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) في 1952 من أن موجة المشاهدات الرسمية وغير الرسمية استنزفت قدرات الجيش بحيث بات غير قادر على التعرف على القاذفات السوفييتية. وحذّر المحلل من أنه مع تصاعد التوتر، سنواجه خطراً متزايداً من الإنذارات الكاذبة، بل والخطر الأكبر المتمثل في التحديد الخاطئ للحقيقي على أنه وهمي.

طبيعة الأجسام الغامضة

مع ذلك، لم تصل المذكرة للجميع. ففي 1952، وبعد أن التقط مراقبون أرضيون وأجهزة رادار أجساماً غامضةً سريعة الحركة فوق العاصمة الأميركية، عقد الميجر جنرال جون سامفورد، مدير مخابرات سلاح الجو، مؤتمراً صحفياً تحدث فيه بصراحة عن "مراقبين موثوقين" يتحدثون عن أشياء لا تصدق نسبياً.

في العام نفسه، حذّر مستشار علمي داخل (سي آي إيه) من أن شيئاً ما كان يحدث ويجب أن يحظى باهتمام فوري. وخلص إلى أن طبيعة الأجسام الغامضة التي تُرى على ارتفاعات كبيرة وتحلق بسرعات عالية بالقرب من منشآت الدفاع الأميركية الرئيسية لا تشي بأنها ظواهر طبيعية أو أنواع معروفة من المركبات الجوية.

لكن مثل هذه الوقائع، التي يستحيل تفسيرها ولا تشكل تهديداً واضحاً للولايات المتحدة وحلفائها، أخذت تتراجع على نحو متزايد في ترتيب الاهتمام والتركيز لصالح الاتحاد السوفييتي. فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نجح المشروع "بلو بوك"، الذي تلا المشروع "غرادج"، في القضاء على هوس الأمة الأميركية بالأطباق الطائرة. وعلى نحو متزايد، أصبحت الأجسام الطائرة المجهولة مثار تندّر وانضمت لخرافات مثل "ذو القدم الكبيرة"، و"وحش لوخ نس".

طائرات تتحدى قوانين الفيزياء

بإسراع الخطى نحو القرن الحادي والعشرين، نجد أنه في السنوات القليلة الماضية، دفع عدد متزايد من مشاهدات طائرات تتحدى قوانين الفيزياء السلطات الفيدرالية إلى السعي لجمع بيانات عنها وتحليلها. لكن الضرر الذي أحدثه المشروعان "غرادج" و"بلو بوك"- اللذان وصفهما مدير المخابرات الوطنية الأميركية في الآونة الأخيرة بأنهما "وصمة اجتماعية ثقافية"- جعل هذه المهمة صعبة.

مما صعب المهمة أيضاً، حقيقة أن اهتمامنا الجديد بالمسألة يحدث على خلفية صراع متنام مع قوة عظمى منافسة أخرى وهي الصين. فخطر ارتباط عمليات تجسس صينية بهذه الظواهر الجوية المجهولة مرتفع.

ما الذي كشفه المنطاد عن عمليات التجسس الصينية؟

انظروا، على سبيل المثال، للرسائل المرتبكة والمتناقضة حيال الأجسام الثلاثة التي أسقطها الجيش الأميركي الأسبوع الماضي في أعقاب إسقاط منطاد تجسس صيني. فبعد يوم من إعلان الجنرال بسلاح الجو الأميركي الذي يشرف على المجال الجوي لأميركا الشمالية أنه لا يستبعد وجود منشأ أو أصل خارج كوكب الأرض للظواهر الجوية المجهولة، أكد متحدث باسم البيت الأبيض أنه "لا يوجد، مرة أخرى، أي رابط بين كائنات فضائية أو نشاط خارج كوكب الأرض وعمليات الإسقاط الأخيرة هذه".

تجنب الأخطاء السابقة

إذا أردنا تجنب تكرار أخطاء حقبة سابقة، فعلينا أن نتفادى كلا من الهستيريا الشعبية واللامبالاة تجاه العدو اللتين حددتا تعاطينا مع هذه القضية لدى بداية ظهورها. وهذا يعني أنه يجب على الحكومة ووسائل الإعلام تبني نهج أكثر دقة وشفافية.

تتمثل إحدى الخطوات في هذا الاتجاه في الاعتراف بأنه قد تكون هناك أشياء لا يمكننا تفسيرها بعد، ولكن يجب دراستها بعقل متفتح. وإذا تمكنا من مواصلة هذا البحث والتحقق دون الوقوع في براثن الشك أو السذاجة والتسطيح، فقد نسبر أخيراُ أغوار اللغز.